الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب


            ملك العادل الديار المصرية

            قد ذكرنا سنة خمس وتسعين [ وخمسمائة ] ، حصر الأفضل والظاهر ولدي صلاح الدين دمشق ، ورحيلهما إلى رأس الماء ، على عزم المقام بحوران إلى أن يخرج الشتاء ، فلما أقاموا برأس الماء وجد العسكر بردا شديدا ، لأن البرد في ذلك المكان في الصيف موجود ، فكيف في الشتاء ، فتغير العزم عن المقام ، واتفقوا على أن يعود كل إنسان منهم إلى بلده ، ويعودوا إلى الاجتماع ، فتفرقوا تاسع ربيع الأول ، فعاد الظاهر وصاحب حمص إلى بلادهما ، وسار الأفضل إلى مصر فوصل بلبيس ، فأقام بها ، ووصلته الأخبار بأن عمه الملك العادل قد سار من دمشق قاصدا مصر ومعه المماليك الناصرية ، وقد حلفوه على أن يكون ولد الملك العزيز هو صاحب البلاد ، وهو المدبر للملك ، إلى أن يكبر ، فساروا على هذا .

            وكان عسكره بمصر قد تفرق عن الأفضل من الخشبي ، فسار كل منهم إلى إقطاعه ليربعوا دوابهم ، فرام الأفضل جمعهم من أطراف البلاد ، فأعجله الأمر عن ذلك ، ولم يجتمع منهم إلا طائفة يسيرة ممن قرب إقطاعه ، ووصل العادل ، فأشار بعض الناس على الأفضل أن يخرب سور بلبيس ويقيم بالقاهرة ، وأشار غيرهم بالتقدم إلى أطراف البلاد ، ففعل ذلك ، فسار عن بلبيس ، ونزل موضعا يقال له السائح إلى طرف البلاد ، وكان لقاء العادل قبل دخول البلاد سابع ربيع الآخر ، فانهزم الأفضل ، ودخل القاهرة ليلا .

            وفي تلك الليلة توفي القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني كاتب الإنشاء لصلاح الدين ووزيره ، فحضر الأفضل الصلاة عليه ، وسار العادل فنزل على القاهرة وحصرها ، فجمع الأفضل من عنده من الأمراء واستشارهم ، فرأى منهم تخاذلا ، فأرسل رسولا إلى عمه في الصلح وتسليم البلاد إليه ، وأخذ العوض عنها ، وطلب دمشق ، فلم يجبه العادل ، فنزل عنها [ إلى ] حران والرها فلم يجبه ، فنزل إلى ميافارقين وحاني وجبل جور ، فأجابه إلى ذلك ، وتحالفوا عليه ، وخرج الأفضل من مصر ليلة السبت ثامن عشر ربيع الآخر ، واجتمع بالعادل ، وسار إلى صرخد ، ودخل العادل إلى القاهرة يوم السبت ثامن عشر ربيع الآخر .

            ولما وصل الأفضل إلى صرخد أرسل من تسلم ميافارقين وحاني وجبل جور ، فامتنع نجم الدين أيوب ابن الملك العادل من تسليم ميافارقين وسلم ما عداها ، فترددت الرسل بين الأفضل والعادل في ذلك ، والعادل يزعم أن ابنه عصاه ، فأمسك عن المراسلة في ذلك لعلمه أن هذا فعل بأمر العادل .

            واستبد العادل بملك مصر آمنا من الشركة ، ونزل إليه ابن أخيه الأفضل خاضعا ذليلا بعدما كان مهيبا جليلا ، فأقطعه بلادا من الجزيرة ونفاه عن الشام لسوء السيرة ، ودخل العادل إلى دار السلطان بالقاهرة ، وأعاد القضاء إلى صدر الدين عبد الملك بن درباس الماراني الكردي ، وأبقى الخطبة والسكة باسم ابن أخيه المنصور ، وكان هو المستقل بالأمور ، واستوزر الصاحب صفي الدين بن شكر لصرامته وشهامته وسيادته وديانته ، وكتب العادل إلى ولده الكامل يستدعيه من بلاد الجزيرة ; ليملكه على الديار المصرية ويسترعيه ، فقدم عليه فأكرمه واحترمه وعانقه والتزمه ، وأحضر الملك الفقهاء واستفتاهم في صحة مملكة ابن أخيه المنصور بن العزيز ، وأنه صغير ابن عشر سنين ، فأفتوا بأن ولايته لا تصح ; لأنه متولى عليه ، فعند ذلك طلب الأمراء ودعاهم إلى مبايعته فامتنعوا ، فأرغبهم وأرهبهم ، وقال فيما قال : قد سمعتم ما أفتى به العلماء والأئمة والفقهاء ، وقد علمتم أن ثغور المسلمين لا يحفظها الأطفال الصغار ، وإنما يحرسها الملوك الكبار ، فأذعنوا عند ذلك وبايعوه ، ثم من بعده لولده الكامل ، فخطب الخطباء بذلك بعد الخليفة لهما ، فضربت السكة باسمهما ، واستقرت دمشق باسم المعظم عيسى بن العادل ، ومصر باسم الكامل .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية