الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ذكر فتح عكا وبقية السواحل

            وفيها جاء البريد إلى دمشق في مستهل ربيع الأول لتجهيز آلات الحصار لعكا ، ونودي في دمشق : الغزاة في سبيل الله إلى عكا . وقد كان أهل عكا في هذا الحين عدوا على من عندهم من تجار المسلمين ، فقتلوهم وأخذوا أموالهم ، فأبرزت المجانيق إلى ناحية الجسورة ، وخرجت العامة والمطوعة يجرون في العجل ، حتى الفقهاء والمدرسون والصلحاء ، وتولى سياقتها الأمير علم الدين الدواداري ، وخرجت العساكر بين يدي نائب الشام ، وخرج هو في آخرهم ، ولحقه صاحب حماة الملك المظفر ، وخرج الناس من كل صوب ، واتصل بهم عسكر طرابلس ، وركب الأشرف من الديار المصرية بعساكره قاصدا عكا ، فتوافت الجيوش هنالك ، فنازلها يوم الخميس رابع ربيع الآخر ، ونصبت عليها المجانيق من كل ناحية يمكن نصبها عليها ، واجتهدوا غاية الاجتهاد في محاربتها والتضييق على أهلها ، واجتمع الناس بالجامع لقراءة " صحيح البخاري " ، فقرأه الشيخ شرف الدين الفزاري ، وحضر القضاة والفضلاء والأعيان ، وفي أثناء محاصرة عكا  وقع تخبيط من نائب الشام حسام الدين لاجين ، فتوهم أن السلطان يريد مسكه ، وكان قد أخبره بذلك الأمير الذي يقال له : أبو خرص . فركب هاربا فرده علم الدين الدواداري بالمسابه ، وجاء به إلى السلطان ، فطيب قلبه وخلع عليه ، ثم أمسكه بعد ثلاثة أيام ، وبعثه إلى قلعة صفد ، واحتاط على حواصله ، ورسم على أستداره بدر الدين بكداش ، وجرى ما لا يليق وقوعه هنالك ، إذ الوقت وقت عسر وضيق وحصار ، وصمم السلطان على الحصار ، فرتب الكوسات ثلاثمائة حمل ، ثم زحف يوم الجمعة سابع عشر جمادى الأولى ، ودقت الكوسات جملة واحدة عند طلوع الشمس ، وطلع المسلمون على الأسوار مع طلوع الشمس ، ونصبت السناجق الإسلامية فوق أسوار البلد ، فولت الفرنج عند ذلك الأدبار ، وركبوا هاربين في مراكب التجار ، وقتل منهم عدد لا يعلمهم إلا الله تعالى ، وغنموا من الأمتعة والرقيق والبضائع شيئا كثيرا جدا ، وأمر السلطان بهدمها وتخريبها ، بحيث لا ينتفع بها بعد ذلك ، فيسر الله فتحها نهار جمعة ، كما أخذتها الفرنج من المسلمين في يوم الجمعة ، وسلمت صور وصيدا قيادهما إلى الأشرف ، فاستوثق الساحل للمسلمين ، وتنظف من الكافرين ، وقطع دابر القوم الذين ظلموا ، والحمد لله رب العالمين .

            وجاءت البطاقة إلى دمشق بذلك ، ففرح المسلمون ، ودقت البشائر في جميع الحصون ، وزينت البلاد ليتنزه فيها الناظرون والمتفرجون ، وأرسل السلطان إلى صور أميرا ، فهدم أسوارها ، وعفا آثارها ، وقد كان لها في أيدي الفرنج من سنة ثمان عشرة وخمسمائة . وأما عكا فقد كان الملك الناصر يوسف بن أيوب أخذها من أيدي الفرنج ، ثم إن الفرنج جاءوا فأحاطوا بها بجيوش كثيرة ، ثم جاء صلاح الدين ليمانعهم عنها مدة سبعة وثلاثين شهرا ، ثم في آخر ذلك استملكوها ، وقتلوا من كان فيها من المسلمين ، كما تقدم ذلك .

            ثم إن السلطان الملك الأشرف خليل بن المنصور قلاوون سار من عكا قاصدا دمشق  في أبهة الملك وحرمة وافرة ، وفي صحبته وزيره ابن السلعوس والجيوش المنصورة ، وفي هذا اليوم استناب بالشام الأمير علم الدين سنجر الشجاعي ، وسكن بدار السعادة ، وزيد في إقطاعه حرستا ، ولم تقطع لغيره ، وإنما كانت لمصالح حواصل القلعة ، وجعل له في كل يوم ثلاثمائة على دار الطعم ، وفوض إليه أن يطلق من الخزانة ما يريد من غير مشاورة ولا مراجعة ، وأرسله السلطان إلى صيدا; لأنه كان قد بقي بها برج عاص ، ففتحه ودقت البشائر بسببه ، ثم عاد سريعا إلى السلطان فودعه ، وسار السلطان نحو الديار المصرية في أواخر رجب ، وبعثه إلى بيروت ليفتحها ، فسار إليها ففتحها في أقرب وقت ، وسلمت عثليت وأنطرطوس وجبيل . ولم يبق بالسواحل - ولله الحمد - معقل للفرنج إلا بأيدي المسلمين ، وأراح الله منهم البلاد والعباد ، ودخل السلطان إلى القاهرة في تاسع شعبان في أبهة عظيمة جدا ، وكان يوما مشهودا ، وأفرج عن بدر الدين بيسري بعد سجن تسع سنين ، ورد عليه إقطاعه ، ورجع علم الدين سنجر الشجاعي نائب دمشق إلى دمشق في سابع وعشرين الشهر المذكور ، وقد نظف السواحل من الفرنج بالكلية ، ولم يبق لهم بها حجر .

            قصيدة في فتح عكا

            وقد نظم الشيخ شهاب الدين محمود قصيدة في فتح عكا :


            الحمد لله زالت دولة الصلب وعز بالترك دين المصطفى العربي     هذا الذي كانت الآمال لو طلبت
            رؤياه في النوم لاستحيت من الطلب     ما بعد عكا وقد هدت قواعدها
            في البحر للشرك عند البر من أرب     لم يبق من بعدها للكفر إذ خربت
            في البحر والبر ما ينجي سوى الهرب     أم الحروب فكم قد أنشأت فتنا
            شاب الوليد بها هولا ولم تشب     يا يوم عكا لقد أنسيت ما سبقت
            به الفتوح وما قد خط في الكتب     لم يبلغ النطق حد الشكر فيك فما
            عسى يقوم به ذو الشعر والأدب     أغضبت عباد عيسى إذ أبدتهم
            لله أي رضى في ذلك الغضب     وأشرف المصطفى الهادي البشير على
            ما أسلف الأشرف السلطان من قرب     فقر عينا لهذا الفتح وابتهجت
            ببشره الكعبة الغراء في الحجب     وسار في الأرض سيرا قد سمعت به
            فالبر في طرب والبحر في حرب

            وهي طويلة جدا ، وله ولغيره في فتح عكا أشعار كثيرة . ولما رجع البريد أخبر بأن السلطان لما عاد إلى مصر خلع على وزيره ابن السلعوس جميع ملابسه التي كانت عليه ، ومركوبه الذي كان تحته ، فركبه ورسم له بثمانية وسبعين ألفا من خزانة دمشق ، ليشتري له بها قرية قرحتا من بيت المال .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية