الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              274 [ ص: 363 ] (باب منه) وذكره النووي في الباب السابق

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 41 - 43 ج3 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن أنس ، عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال آخر من يدخل الجنة رجل فهو يمشي مرة ويكبو مرة وتسفعه النار مرة، فإذا ما جاوزها التفت إليها، فقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله شيئا ما أعطاه أحدا من الأولين والآخرين، فترفع له شجرة فيقول: أي رب أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها وأشرب من مائها، فيقول الله عز وجل: يا ابن آدم لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها، فيقول: لا يا رب، ويعاهده أن لا يسأله غيرها، وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه فيدنيه منها، فيستظل بظلها ويشرب من مائها ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى، فيقول: أي رب أدنني من هذه لأشرب من مائها وأستظل بظلها، لا أسألك غيرها، فيقول: يا ابن آدم ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها فيقول: لعلي إن أدنيتك منها تسألني غيرها فيعاهده أن لا يسأله غيرها، وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه فيدنيه منها، فيستظل بظلها ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة هي أحسن من الأوليين، فيقول: أي رب أدنني من هذه لأستظل بظلها وأشرب من مائها لا أسألك غيرها، فيقول: يا ابن آدم ألم تعاهدني [ ص: 364 ] أن لا تسألني غيرها، قال: بلى يا رب هذه لا أسألك غيرها وربه يعذره؛ لأنه.يرى ما لا صبر له عليها فيدنيه منها، فإذا أدناه منها فيسمع أصوات أهل الجنة، فيقول: أي رب أدخلنيها، فيقول: يا ابن آدم ما يصريني منك؟! أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟ قال: يا رب أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟ فضحك ابن مسعود فقال: ألا تسألوني مم أضحك؟ فقالوا: مم تضحك؟ قال: هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟ قال: من ضحك رب العالمين حين قال: أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟ فيقول: إني لا أستهزئ منك ولكني على ما أشاء قادر ].

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن أنس، عن ابن مسعود رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: آخر من يدخل الجنة رجل، فهو يمشي مرة ويكبو مرة) أي: يسقط على وجه).

                                                                                                                              "وتسفعه النار مرة" بفتح التاء، وإسكان السين، وفتح الفاء.

                                                                                                                              أي: تضرب وجهه، وتسوده وتؤثر فيه، أثرا.

                                                                                                                              "فإذا ما جاوزها، التفت إليها، فقال: تبارك الذي نجاني منك.

                                                                                                                              لقد أعطاني الله شيئا، ما أعطاه أحدا من الأولين والآخرين؛ فترفع له [ ص: 365 ] شجرة، فيقول: أي رب! أدنني من هذه الشجرة، فلأستظل بظلها. وأشرب من مائها، فيقول الله عز وجل: "يا ابن آدم! لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها"، فيقول: لا يا رب! ويعاهده أن لا يسأله غيرها، وربه يعذره: لأنه يرى ما لا صبر له عليه".

                                                                                                                              هكذا في الأصول: في المرتين الأوليين. وأما الثالثة، فوقع في أكثر الأصول "ما لا صبر له عليها"، وفي بعضها "عليه"، وكلاهما صحيح.

                                                                                                                              ومعنى "عليها"، أي: "نعمة" لا صبر له عنها.

                                                                                                                              "فيدنيه منها. فيستظل بظلها، ويشرب من مائها. ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى. فيقول: أي رب! أدنني من هذه لأشرب من مائها وأستظل بظلها لا أسألك غيرها. فيقول: "يا ابن آدم! ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها ؟ فيقول: لعلي إن أدنيتك منها تسألني غيرها، فيعاهده أن لا يسأله غيرها. وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له [ ص: 366 ] عليه. فيدنيه منها، فيستظل بظلها، ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة، هي أحسن من الأوليين، فيقول: أي رب! أدنني من هذه) لأستظل بظلها، وأشرب من مائها، لا أسألك غيرها فيقول:

                                                                                                                              "يا ابن آدم! ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟" قال: بلى يا رب؛ هذه لا أسألك غيرها. وربه يعذره. لأنه يرى ما لا صبر له عليها فيدنيه منها. فإذا أدناه منها، فيسمع أصوات أهل الجنة، فيقول: أي رب! أدخلنيها. فيقول: "يا ابن آدم ! ما يصريني منك؟" بفتح الياء وإسكان الصاد. أي يقطع مسألتك مني.

                                                                                                                              قال أهل اللغة "الصري" هو القطع.

                                                                                                                              وروي في غير مسلم "ما يصريك مني؟".

                                                                                                                              قال إبراهيم الحربي: هو الصواب، وأنكر الرواية التي في صحيح مسلم وغيره "ما يصريني".

                                                                                                                              قال النووي: وليس هو كما قال. بل كلاهما صحيح، فإن السائل متى انقطع من المسئول، انقطع المسئول منه.

                                                                                                                              [ ص: 367 ] والمعنى: أي شيء يرضيك؛ ويقطع السؤال بيني وبينك.

                                                                                                                              (أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟ قال: يا رب! أتستهزئ مني، وأنت رب العالمين؟!)

                                                                                                                              وفي رواية أخرى عنه عند مسلم "أتسخر في "أو أتضحك بي" وأنت الملك؟" وفي معناه أقوال:

                                                                                                                              "أحدها": أنه خرج على المقابلة الموجودة في معنى الحديث دون لفظه. قاله المازري.

                                                                                                                              "والثاني" نفي السخرية، كأنه قال: أعلم أنك لا تستهزئ بي، والهمزة فيه همزة نفي، قاله أبو بكر الصوفي. قال: وهذا كلام منبسط متدلل.

                                                                                                                              "الثالث" أن هذا الكلام صدر من هذا الرجل، وهو غير ضابط لما قاله، لما ناله من السرور ببلوغ ما لم يخطر بباله، فلم يضبط لسانه دهشا وفرحا، فقاله وهو لا يعتقد حقيقة معناه. وجرى على عادته في الدنيا في مخاطبة المخلوق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الآخر "إنه لم يضبط نفسه من الفرح، فقال: أنت عبدي وأنا ربك، قاله عياض.

                                                                                                                              "فضحك ابن مسعود، فقال: ألا تسألوني مم أضحك؟ قالوا: مم تضحك؟ فقال: هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: مم تضحك [ ص: 368 ] يا رسول الله؟ قال: "من ضحك رب العالمين حين قال: أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟".

                                                                                                                              وفي هذا إثبات صفة الضحك له سبحانه. وحكمها حكم الصفات الأخرى. والسلف أجروها على ظاهرها.

                                                                                                                              وقال أهل التأويل: معنى الضحك من الله تعالى: الرضى والرحمة، وإرادة الخير.

                                                                                                                              وفي رواية أخرى عنه عند مسلم "قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك، حتى بدت نواجذه. قال: فكان يقال: ذلك أدنى أهل الجنة منزلة".

                                                                                                                              والمراد "بالنواجذ" الأنياب. وفي هذا جواز الضحك، وأنه ليس مكروها في بعض المواطن، ولا مسقطا للمروءة. إذا لم يجاوز به الحد المعتاد من أمثاله، في مثل تلك الحال.

                                                                                                                              فيقول: "إني لا أستهزئ منك، ولكني على ما أشاء قادر".

                                                                                                                              وفي حديث آخر عنه عند مسلم "إني لأعلم آخر أهل النار خروجا منها، وآخر أهل الجنة دخولا "الجنة" رجل يخرج من النار حبوا: فيقول الله "تبارك وتعالى" له: اذهب فادخل الجنة، "فيأتيها [ ص: 369 ] فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع فيقول: يا رب! وجدتها ملأى، فيقول الله تبارك وتعالى: "اذهب فادخل الجنة". قال: فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى. فيرجع فيقول: يا رب! وجدتها ملأى. فيقول الله له: "اذهب فادخل الجنة"، فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها "أو إن"، لك عشرة أمثال الدنيا". الحديث.

                                                                                                                              وفي أخرى "فيقال له: لك الذي تمنيت وعشرة أضعاف الدنيا".

                                                                                                                              وفي حديث أبي سعيد الخدري عند مسلم أيضا ثم يدخل بيته.

                                                                                                                              فتدخل عليه زوجتاه من الحور العين، تقولان: الحمد لله الذي أحياك لنا وأحيانا لك.

                                                                                                                              قال: فيقول: ما أعطي أحد مثل ما أعطيت".

                                                                                                                              والحاصل: أن رحمة الله واسعة سبقت على غضبه، وهو سبحانه على كل شيء قدير. اللهم! أجرنا من النار. وأدخلنا جنة الفردوس برحمتك.


                                                                                                                              لك الحمد، كم من كربة قد كشفتها بنور من اللطف الخفي فتجلت لك الحمد فاكشف كربة الحشر إن دجت
                                                                                                                              بنور من الغفران والرحمة التي

                                                                                                                              .




                                                                                                                              الخدمات العلمية