الباب الثاني عشر في سيرته- صلى الله عليه وسلم في
nindex.php?page=treesubj&link=17295علاج الصرع
أخرجا في «الصحيحين» من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=16568عطاء بن أبي رباح ، قال : قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : ألا أريك امرأة من أهل الجنة ؟ قلت : بلى . قال : هذه المرأة السوداء ، أتت النبي فقالت : إني أصرع ، وإني أتكشف ، فادع الله لي ، فقال : «إن شئت صبرت ولك الجنة ، وإن شئت دعوت الله لك أن يعافيك» ، فقالت : أصبر . قالت : فإني أتكشف ، فادع الله أن لا أتكشف ، فدعا لها .
قلت : - والقائل
ابن القيم- الصرع صرعان : صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية ، وصرع من الأخلاط الرديئة . والثاني : هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه .
وأما صرع الأرواح ، فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون به ، ولا يدفعونه ، ويعترفون بأن علاجه بمقابلة الأرواح الشريفة الخيرة العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة ، فتدافع آثارها ، وتعارض أفعالها وتبطلها ، وقد نص على ذلك بقراط في بعض كتبه ، فذكر بعض علاج الصرع ، وقال : هذا إنما ينفع من الصرع الذي سببه الأخلاط والمادة . وأما الصرع الذي يكون من الأرواح ، فلا ينفع فيه هذا العلاج .
وأما جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم ، ومن يعتقد بالزندقة فضيلة ، فأولئك ينكرون صرع الأرواح ، ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع ، وليس معهم إلا الجهل ، وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك ، والحس والوجود شاهد به ، وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الأخلاط ، هو صادق في بعض أقسامه لا في كلها .
وقدماء الأطباء كانوا يسمون هذا الصرع : المرض الإلهي ، وقالوا : إنه من الأرواح ، وأما
جالينوس وغيره ، فتأولوا عليهم هذه التسمية ، وقالوا : إنما سموه بالمرض الإلهي لكون هذه العلة تحدث في الرأس ، فتضر بالجزء الإلهي الطاهر الذي مسكنه الدماغ .
وهذا التأويل نشأ لهم من جهلهم بهذه الأرواح وأحكامها ، وتأثيراتها ، وجاءت زنادقة الأطباء فلم يثبتوا إلا صرع الأخلاط وحده .
ومن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء وضعف عقولهم .
وعلاج هذا النوع يكون بأمرين : أمر من جهة المصروع ، وأمر من جهة المعالج ، فالذي من جهة المصروع يكون بقوة نفسه ، وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وبارئها ، والتعوذ
[ ص: 92 ] الصحيح الذي قد تواطأ عليه القلب واللسان ، فإن هذا نوع محاربة ، والمحارب لا يتم له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا بأمرين : أن يكون السلاح صحيحا في نفسه جيدا ، وأن يكون الساعد قويا ، فمتى تخلف أحدهما لم يغن السلاح كثير طائل ، فكيف إذا عدم الأمران جميعا :
يكون القلب خرابا من التوحيد ، والتوكل ، والتقوى ، والتوجه ، ولا سلاح له .
والثاني : من جهة المعالج؛ بأن يكون فيه هذان الأمران أيضا ، حتى إن من المعالجين من يكتفي بقوله : «اخرج منه» . أو بقول : «بسم الله» ، أو بقول : «لا حول ولا قوة إلا بالله» ،
والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول :
nindex.php?page=hadith&LINKID=680051«اخرج عدو الله ، أنا رسول الله» .
وشاهدت شيخنا يرسل إلى المصروع من يخاطب الروح التي فيه ، ويقول : قال لك الشيخ : اخرجي ، فإن هذا لا يحل لك ، فيفيق المصروع ، وربما خاطبها بنفسه ، وربما كانت الروح ماردة فيخرجها بالضرب ، فيفيق المصروع ولا يحس بألم ، وقد شاهدنا نحن وغيرنا منه ذلك مرارا .
وكان كثيرا ما يقرأ في أذن المصروع :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=115أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون [المؤمنون : 115] .
وحدثني أنه قرأها مرة في أذن المصروع ، فقالت الروح : نعم ، ومد بها صوته . قال :
فأخذت له عصا ، وضربته بها في عروق عنقه حتى كلت يداي من الضرب ، ولم يشك الحاضرون أنه يموت لذلك الضرب . ففي أثناء الضرب قالت : أنا أحبه ، فقلت لها : هو لا يحبك ، قالت : أنا أريد أن أحج به ، فقلت لها : هو لا يريد أن يحج معك ، فقالت : أنا أدعه كرامة لك ، قال : قلت : لا ، ولكن طاعة لله ولرسوله ، قالت : فأنا أخرج منه ، قال : فقعد المصروع يلتفت يمينا وشمالا ، وقال : ما جاء بي إلى حضرة الشيخ ؟ قالوا له : وهذا الضرب كله ؟ فقال : وعلى أي شيء يضربني الشيخ ولم أذنب ، ولم يشعر بأنه وقع به ضرب البتة .
وكان يعالج بآية الكرسي ، وكان يأمر بكثرة قراءتها المصروع ومن يعالجه بها ، وبقراءة المعوذتين .
وبالجملة : فهذا النوع من الصرع ، وعلاجه لا ينكره إلا قليل الحظ من العلم والعقل والمعرفة ، وأكثر تسلط الأرواح الخبيثة على أهله تكون من جهة قلة دينهم ، وخراب قلوبهم وألسنتهم من حقائق الذكر ، والتعاويذ ، والتحصنات النبوية والإيمانية ، فتلقى الروح الخبيثة الرجل أعزل لا سلاح معه ، وربما كان عريانا فيؤثر فيه هذا .
[ ص: 93 ]
ولو كشف الغطاء ، لرأيت أكثر النفوس البشرية صرعى هذه الأرواح الخبيثة ، وهي في أسرها وقبضتها تسوقها حيث شاءت ، ولا يمكنها الامتناع عنها ولا مخالفتها ، وبها الصرع الأعظم الذي لا يفيق صاحبه إلا عند المفارقة والمعاينة ، فهناك يتحقق أنه كان هو المصروع حقيقة ، وبالله المستعان .
وعلاج هذا الصرع باقتران العقل الصحيح إلى الإيمان بما جاءت به الرسل ، وأن تكون الجنة والنار نصب عينيه وقبلة قلبه ، ويستحضر أهل الدنيا ، وحلول المثلات والآفات بهم ، ووقوعها خلال ديارهم كمواقع القطر ، وهم صرعى لا يفيقون ، وما أشد داء هذا الصرع ، ولكن لما عمت البلية به بحيث لا يرى إلا مصروعا ، لم يصر مستغربا ولا مستنكرا ، بل صار لكثرة المصروعين عين المستنكر المستغرب خلافه .
فإذا أراد الله بعبد خيرا أفاق من هذه الصرعة ، ونظر إلى أبناء الدنيا مصروعين حوله يمينا وشمالا على اختلاف طبقاتهم ، فمنهم من أطبق به الجنون ، ومنهم من يفيق أحيانا قليلة ، ويعود إلى جنونه ، ومنهم من يفيق مرة ، ويجن أخرى ، فإذا أفاق عمل عمل أهل الإفاقة والعقل ، ثم يعاوده الصرع فيقع في التخبط .
فصل
وأما
nindex.php?page=treesubj&link=17295صرع الأخلاط ، فهو علة تمنع الأعضاء النفسية عن الأفعال والحركة والانتصاب منعا غير تام ، وسببه خلط غليظ لزج يسد منافذ بطون الدماغ سدة غير تامة ، فيمتنع نفوذ الحس والحركة فيه وفي الأعضاء نفوذا تاما من غير انقطاع بالكلية ، وقد تكون لأسباب أخر؛ كريح غليظ يحتبس في منافذ الروح ، أو بخار رديء يرتفع إليه من بعض الأعضاء ، أو كيفية لاذعة ، فينقبض الدماغ لدفع المؤذي ، فيتبعه تشنج في جميع الأعضاء ، ولا يمكن أن يبقى الإنسان معه منتصبا ، بل يسقط ، ويظهر في فيه الزبد غالبا .
وهذه العلة تعد من جملة الأمراض الحادة باعتبار وقت وجوده المؤلم خاصة ، وقد تعد من جملة الأمراض المزمنة باعتبار طول مكثها ، وعسر برئها ، لا سيما إن تجاوز في السن خمسا وعشرين سنة ، وهذه العلة في دماغه ، وخاصة في جوهره ، فإن صرع هؤلاء يكون لازما . قال أبقراط : إن الصرع يبقى في هؤلاء حتى يموتوا .
إذا عرف هذا ، فهذه المرأة التي جاء الحديث أنها كانت تصرع وتتكشف ، يجوز أن يكون صرعها من هذا النوع ، فوعدها النبي -صلى الله عليه وسلم- الجنة بصبرها على هذا المرض ، ودعا لها
[ ص: 94 ]
أن لا تتكشف ، وخيرها بين الصبر والجنة ، وبين الدعاء لها بالشفاء من غير ضمان ، فاختارت الصبر والجنة .
وفي ذلك دليل على جواز
nindex.php?page=treesubj&link=17257ترك المعالجة والتداوي ، وأن علاج الأرواح بالدعوات والتوجه إلى الله يفعل ما لا يناله علاج الأطباء ، وأن تأثيره وفعله ، وتأثر الطبيعة عنه وانفعالها أعظم من تأثير الأدوية البدنية ، وانفعال الطبيعة عنها ، وقد جربنا هذا مرارا نحن وغيرنا ، وعقلاء الأطباء معترفون بأن لفعل القوى النفسية ، وانفعالاتها في شفاء الأمراض عجائب ، وما على الصناعة الطبية أضر من زنادقة القوم ، وسفلتهم ، وجهالهم . والظاهر أن صرع هذه المرأة كان من هذا النوع ، ويجوز أن يكون من جهة الأرواح ، ويكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد خيرها بين الصبر على ذلك مع الجنة ، وبين الدعاء لها بالشفاء ، فاختارت الصبر والستر . والله أعلم] .
الْبَابُ الثَّانِي عَشَرَ فِي سِيرَتِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=17295عِلَاجِ الصَّرَعِ
أَخْرَجَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ» مِنْ حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=16568عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ ، قَالَ : قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ : أَلَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ؟ قُلْتُ : بَلَى . قَالَ : هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ ، أَتَتِ النَّبِيَّ فَقَالَتْ : إِنِّي أُصْرَعُ ، وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ ، فَادْعُ اللَّهَ لِي ، فَقَالَ : «إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ لَكِ أَنْ يُعَافِيَكِ» ، فَقَالَتْ : أَصْبِرُ . قَالَتْ : فَإِنِّي أَتَكْشِفُ ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ ، فَدَعَا لَهَا .
قُلْتُ : - وَالْقَائِلُ
ابْنُ الْقَيِّمِ- الصَّرَعُ صَرَعَانِ : صَرَعٌ مِنَ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ الْأَرْضِيَّةِ ، وَصَرَعٌ مِنَ الْأَخْلَاطِ الرَّدِيئَةِ . وَالثَّانِي : هُوَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيهِ الْأَطِبَّاءُ فِي سَبَبِهِ وَعِلَاجِهِ .
وَأَمَّا صَرَعُ الْأَرْوَاحِ ، فَأَئِمَّتُهُمْ وَعُقَلَاؤُهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِهِ ، وَلَا يَدْفَعُونَهُ ، وَيَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ عِلَاجَهُ بِمُقَابَلَةِ الْأَرْوَاحِ الشَّرِيفَةِ الْخَيِّرَةِ الْعُلْوِيَّةِ لِتِلْكَ الْأَرْوَاحِ الشِّرِّيرَةِ الْخَبِيثَةِ ، فَتُدَافِعُ آثَارَهَا ، وَتُعَارِضُ أَفْعَالَهَا وَتُبْطِلُهَا ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ بُقْرَاطُ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ ، فَذَكَرَ بَعْضَ عِلَاجِ الصَّرَعِ ، وَقَالَ : هَذَا إِنَّمَا يَنْفَعُ مِنَ الصَّرَعِ الَّذِي سَبَبُهُ الْأَخْلَاطُ وَالْمَادَّةُ . وَأَمَّا الصَّرَعُ الَّذِي يَكُونُ مِنَ الْأَرْوَاحِ ، فَلَا يَنْفَعُ فِيهِ هَذَا الْعِلَاجُ .
وَأَمَّا جَهَلَةُ الْأَطِبَّاءِ وَسَقَطُهُمْ وَسَفَلَتُهُمْ ، وَمَنْ يَعْتَقِدُ بِالزَّنْدَقَةِ فَضِيلَةً ، فَأُولَئِكَ يُنْكِرُونَ صَرَعَ الْأَرْوَاحِ ، وَلَا يُقِرُّونَ بِأَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي بَدَنِ الْمَصْرُوعِ ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ إِلَّا الْجَهْلُ ، وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي الصِّنَاعَةِ الطِّبِّيَّةِ مَا يَدْفَعُ ذَلِكَ ، وَالْحِسُّ وَالْوُجُودُ شَاهِدٌ بِهِ ، وَإِحَالَتُهُمْ ذَلِكَ عَلَى غَلَبَةِ بَعْضِ الْأَخْلَاطِ ، هُوَ صَادِقٌ فِي بَعْضِ أَقْسَامِهِ لَا فِي كُلِّهَا .
وَقُدَمَاءُ الْأَطِبَّاءِ كَانُوا يُسَمُّونَ هَذَا الصَّرَعَ : الْمَرَضَ الْإِلَهِيَّ ، وَقَالُوا : إِنَّهُ مِنَ الْأَرْوَاحِ ، وَأَمَّا
جَالِينُوسُ وَغَيْرُهُ ، فَتَأَوَّلُوا عَلَيْهِمْ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ ، وَقَالُوا : إِنَّمَا سَمَّوْهُ بِالْمَرَضِ الْإِلَهِيِّ لِكَوْنِ هَذِهِ الْعِلَّةِ تَحْدُثُ فِي الرَّأْسِ ، فَتَضُرُّ بِالْجُزْءِ الْإِلَهِيِّ الطَّاهِرِ الَّذِي مَسَكْنُهُ الدِّمَاغُ .
وَهَذَا التَّأْوِيلُ نَشَأَ لَهُمْ مِنْ جَهْلِهِمْ بِهَذِهِ الْأَرْوَاحِ وَأَحْكَامِهَا ، وَتَأْثِيرَاتِهَا ، وَجَاءَتْ زَنَادِقَةُ الْأَطِبَّاءِ فَلَمْ يُثْبِتُوا إِلَّا صَرَعَ الْأَخْلَاطِ وَحْدَهُ .
وَمَنْ لَهُ عَقْلٌ وَمَعْرِفَةٌ بِهَذِهِ الْأَرْوَاحِ وَتَأْثِيرَاتِهَا يَضْحَكُ مِنْ جَهْلِ هَؤُلَاءِ وَضَعْفِ عُقُولِهِمْ .
وَعِلَاجُ هَذَا النَّوْعِ يَكُونُ بِأَمْرَيْنِ : أَمْرٍ مِنْ جِهَةِ الْمَصْرُوعِ ، وَأَمْرٍ مِنْ جِهَةِ الْمُعَالِجِ ، فَالَّذِي مِنْ جِهَةِ الْمَصْرُوعِ يَكُونُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ ، وَصِدْقِ تَوَجُّهِهِ إِلَى فَاطِرِ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ وَبَارِئِهَا ، وَالتَّعَوُّذِ
[ ص: 92 ] الصَّحِيحِ الَّذِي قَدْ تَوَاطَأَ عَلَيْهِ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ ، فَإِنَّ هَذَا نَوْعُ مُحَارَبَةٍ ، وَالْمُحَارِبُ لَا يُتِمُّ لَهُ الِانْتِصَافُ مِنْ عَدُوِّهِ بِالسِّلَاحِ إِلَّا بِأَمْرَيْنِ : أَنْ يَكُونَ السِّلَاحُ صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ جَيِّدًا ، وَأَنْ يَكُونَ السَّاعِدُ قَوِيًّا ، فَمَتَى تَخَلَّفَ أَحَدُهُمَا لَمْ يُغْنِ السِّلَاحُ كَثِيرَ طَائِلٍ ، فَكَيْفَ إِذَا عُدِمَ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا :
يَكُونُ الْقَلْبُ خَرَابًا مِنَ التَّوْحِيدِ ، وَالتَّوَكُّلِ ، وَالتَّقْوَى ، وَالتَّوَجُّهِ ، وَلَا سِلَاحَ لَهُ .
وَالثَّانِي : مِنْ جِهَةِ الْمُعَالِجِ؛ بِأَنْ يَكُونَ فِيهِ هَذَانِ الْأَمْرَانِ أَيْضًا ، حَتَّى إِنَّ مِنَ الْمُعَالِجِينَ مَنْ يَكْتَفِي بِقَوْلِهِ : «اخْرُجْ مِنْهُ» . أَوْ بِقَوْلِ : «بِسْمِ اللَّهِ» ، أَوْ بِقَوْلِ : «لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» ،
وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَقُولُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=680051«اخْرُجْ عَدُوَّ اللَّهِ ، أَنَا رَسُولُ اللَّهِ» .
وَشَاهَدْتُ شَيْخَنَا يُرْسِلُ إِلَى الْمَصْرُوعِ مَنْ يُخَاطِبُ الرُّوحَ الَّتِي فِيهِ ، وَيَقُولُ : قَالَ لَكَ الشَّيْخُ : اخْرُجِي ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ لَكَ ، فَيُفِيقُ الْمَصْرُوعُ ، وَرُبَّمَا خَاطَبَهَا بِنَفْسِهِ ، وَرُبَّمَا كَانَتِ الرُّوحُ مَارِدَةً فَيُخْرِجُهَا بِالضَّرْبِ ، فَيُفِيقُ الْمَصْرُوعُ وَلَا يُحِسُّ بِأَلَمٍ ، وَقَدْ شَاهَدْنَا نَحْنُ وَغَيْرُنَا مِنْهُ ذَلِكَ مِرَارًا .
وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَقْرَأُ فِي أُذُنِ الْمَصْرُوعِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=115أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ : 115] .
وَحَدَّثَنِي أَنَّهُ قَرَأَهَا مَرَّةً فِي أُذُنِ الْمَصْرُوعِ ، فَقَالَتِ الرُّوحَ : نَعَمْ ، وَمَدَّ بِهَا صَوْتَهُ . قَالَ :
فَأَخَذْتُ لَهُ عَصًا ، وَضَرْبَتُهُ بِهَا فِي عُرُوقِ عُنُقِهِ حَتَّى كَلَّتْ يَدَايَ مِنَ الضَّرْبِ ، وَلَمْ يَشُكَّ الْحَاضِرُونَ أَنَّهُ يَمُوتُ لِذَلِكَ الضَّرْبِ . فَفِي أَثْنَاءِ الضَّرْبِ قَالَتْ : أَنَا أُحِبُّهُ ، فَقُلْتُ لَهَا : هُوَ لَا يُحِبُّكِ ، قَالَتْ : أَنَا أُرِيدُ أَنْ أَحُجَّ بِهِ ، فَقُلْتُ لَهَا : هُوَ لَا يُرِيدُ أَنْ يَحُجَّ مَعَكِ ، فَقَالَتْ : أَنَا أَدَعُهُ كَرَامَةً لَكَ ، قَالَ : قُلْتُ : لَا ، وَلَكِنْ طَاعَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ، قَالَتْ : فَأَنَا أَخْرُجُ مِنْهُ ، قَالَ : فَقَعَدَ الْمَصْرُوعُ يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا ، وَقَالَ : مَا جَاءَ بِي إِلَى حَضْرَةِ الشَّيْخِ ؟ قَالُوا لَهُ : وَهَذَا الضَّرْبُ كُلُّهُ ؟ فَقَالَ : وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَضْرِبُنِي الشَّيْخُ وَلَمْ أُذْنِبْ ، وَلَمْ يَشْعُرْ بِأَنَّهُ وَقَعَ بِهِ ضَرْبٌ الْبَتَّةَ .
وَكَانَ يُعَالِجُ بِآيَةِ الْكُرْسِيِّ ، وَكَانَ يَأْمُرُ بِكَثْرَةِ قِرَاءَتِهَا الْمَصْرُوعَ وَمَنْ يُعَالِجُهُ بِهَا ، وَبِقِرَاءَةِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ .
وَبِالْجُمْلَةِ : فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الصَّرْعِ ، وَعِلَاجُهُ لَا يُنْكِرُهُ إِلَّا قَلِيلُ الْحَظِّ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَالْمَعْرِفَةِ ، وَأَكْثَرُ تَسَلُّطِ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ عَلَى أَهْلِهِ تَكُونُ مِنْ جِهَةِ قِلَّةِ دِينِهِمْ ، وَخَرَابِ قُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ مِنْ حَقَائِقِ الذِّكْرِ ، وَالتَّعَاوِيذِ ، وَالتَّحَصُّنَاتِ النَّبَوِيَّةِ وَالْإِيمَانِيَّةِ ، فَتَلْقَى الرُّوحُ الْخَبِيثَةُ الرَّجُلَ أَعْزَلَ لَا سِلَاحَ مَعَهُ ، وَرُبَّمَا كَانَ عُرْيَانًا فَيُؤَثِّرُ فِيهِ هَذَا .
[ ص: 93 ]
وَلَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ ، لَرَأَيْتَ أَكْثَرَ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ صَرْعَى هَذِهِ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ ، وَهِيَ فِي أَسْرِهَا وَقَبْضَتِهَا تَسُوقُهَا حَيْثُ شَاءَتْ ، وَلَا يُمْكِنُهَا الِامْتِنَاعُ عَنْهَا وَلَا مُخَالَفَتُهَا ، وَبِهَا الصَّرَعُ الْأَعْظَمُ الَّذِي لَا يُفِيقُ صَاحِبُهُ إِلَّا عِنْدَ الْمُفَارَقَةِ وَالْمُعَايَنَةِ ، فَهُنَاكَ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ كَانَ هُوَ الْمَصْرُوعَ حَقِيقَةً ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ .
وَعِلَاجُ هَذَا الصَّرْعِ بِاقْتِرَانِ الْعَقْلِ الصَّحِيحِ إِلَى الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ ، وَأَنْ تَكُونَ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ وَقِبْلَةَ قَلْبِهِ ، وَيَسْتَحْضِرُ أَهْلَ الدُّنْيَا ، وَحُلُولَ الْمُثُلَاتِ وَالْآفَاتِ بِهِمْ ، وَوُقُوعَهَا خِلَالَ دِيَارِهِمْ كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ ، وَهُمْ صَرْعَى لَا يُفِيقُونَ ، وَمَا أَشَدَّ دَاءَ هَذَا الصَّرَعِ ، وَلَكِنْ لَمَّا عَمَّتِ الْبَلِيَّةُ بِهِ بِحَيْثُ لَا يُرَى إِلَّا مَصْرُوعًا ، لَمْ يَصِرْ مُسْتَغْرَبًا وَلَا مُسْتَنْكَرًا ، بَلْ صَارَ لِكَثْرَةِ الْمَصْرُوعِينَ عَيْنُ الْمُسْتَنْكَرِ الْمُسْتَغْرَبِ خِلَافَهُ .
فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا أَفَاقَ مِنْ هَذِهِ الصَّرْعَةِ ، وَنَظَرَ إِلَى أَبْنَاءِ الدُّنْيَا مَصْرُوعِينَ حَوْلَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا عَلَى اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَطْبَقَ بِهِ الْجُنُونُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُفِيقُ أَحْيَانًا قَلِيلَةً ، وَيَعُودُ إِلَى جُنُونِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُفِيقُ مَرَّةً ، وَيُجَنُّ أُخْرَى ، فَإِذَا أَفَاقَ عَمِلَ عَمَلَ أَهْلِ الْإِفَاقَةِ وَالْعَقْلِ ، ثُمَّ يُعَاوِدُهُ الصَّرَعُ فَيَقَعُ فِي التَّخَبُّطِ .
فَصْلٌ
وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=17295صَرَعُ الْأَخْلَاطِ ، فَهُوَ عِلَّةٌ تَمْنَعُ الْأَعْضَاءَ النَّفْسِيَّةَ عَنِ الْأَفْعَالِ وَالْحَرَكَةِ وَالِانْتِصَابِ مَنْعًا غَيْرَ تَامٍّ ، وَسَبَبُهُ خَلْطٌ غَلِيظٌ لَزِجٌ يَسُدُّ مَنَافِذَ بُطُونِ الدِّمَاغِ سَدَّةً غَيْرَ تَامَّةٍ ، فَيَمْتَنِعُ نُفُوذُ الْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ فِيهِ وَفِي الْأَعْضَاءِ نُفُوذًا تَامًّا مِنْ غَيْرِ انْقِطَاعٍ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَقَدْ تَكُونُ لِأَسْبَابٍ أُخَرَ؛ كَرِيحٍ غَلِيظٍ يَحْتَبِسُ فِي مَنَافِذِ الرُّوحِ ، أَوْ بُخَارٍ رَدِيءٍ يَرْتَفِعُ إِلَيْهِ مِنْ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ ، أَوْ كَيْفِيَّةٍ لَاذِعَةٍ ، فَيَنْقَبِضُ الدِّمَاغُ لِدَفْعِ الْمُؤْذِي ، فَيَتْبَعُهُ تَشَنُّجٌ فِي جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَبْقَى الْإِنْسَانُ مَعَهُ مُنْتَصِبًا ، بَلْ يَسْقُطُ ، وَيَظْهَرُ فِي فِيهِ الزَّبَدُ غَالِبًا .
وَهَذِهِ الْعِلَّةُ تُعَدُّ مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْرَاضِ الْحَادَّةِ بِاعْتِبَارِ وَقْتِ وُجُودِهِ الْمُؤْلِمِ خَاصَّةً ، وَقَدْ تُعَدُّ مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْرَاضِ الْمُزْمِنَةِ بِاعْتِبَارِ طُولِ مُكْثِهَا ، وَعُسْرِ بُرْئِهَا ، لَا سِيَّمَا إِنْ تَجَاوَزَ فِي السِّنِّ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ فِي دِمَاغِهِ ، وَخَاصَّةً فِي جَوْهَرِهِ ، فَإِنَّ صَرَعَ هَؤُلَاءِ يَكُونُ لَازِمًا . قَالَ أَبُقْرَاطُ : إِنَّ الصَّرَعَ يَبْقَى فِي هَؤُلَاءِ حَتَّى يَمُوتُوا .
إِذَا عُرِفَ هَذَا ، فَهَذِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي جَاءَ الْحَدِيثُ أَنَّهَا كَانَتْ تُصْرَعُ وَتَتَكَشَّفُ ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَرَعُهَا مِنْ هَذَا النَّوْعِ ، فَوَعَدَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْجَنَّةَ بِصَبْرِهَا عَلَى هَذَا الْمَرَضِ ، وَدَعَا لَهَا
[ ص: 94 ]
أَنْ لَا تَتَكَشَّفَ ، وَخَيَّرَهَا بَيْنَ الصَّبْرِ وَالْجَنَّةِ ، وَبَيْنَ الدُّعَاءِ لَهَا بِالشِّفَاءِ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ ، فَاخْتَارَتِ الصَّبْرَ وَالْجَنَّةَ .
وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ
nindex.php?page=treesubj&link=17257تَرْكِ الْمُعَالَجَةِ وَالتَّدَاوِي ، وَأَنَّ عِلَاجَ الْأَرْوَاحِ بِالدَّعَوَاتِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَى اللَّهِ يَفْعَلُ مَا لَا يَنَالُهُ عِلَاجُ الْأَطِبَّاءِ ، وَأَنَّ تَأْثِيرَهُ وَفِعْلَهُ ، وَتَأَثُّرَ الطَّبِيعَةِ عَنْهُ وَانْفِعَالَهَا أَعْظَمُ مِنْ تَأْثِيرِ الْأَدْوِيَةِ الْبَدَنِيَّةِ ، وَانْفِعَالِ الطَّبِيعَةِ عَنْهَا ، وَقَدْ جَرَّبْنَا هَذَا مِرَارًا نَحْنُ وَغَيْرُنَا ، وَعُقَلَاءُ الْأَطِبَّاءِ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ لِفِعْلِ الْقُوَى النَّفْسِيَّةِ ، وَانْفِعَالَاتِهَا فِي شِفَاءِ الْأَمْرَاضِ عَجَائِبَ ، وَمَا عَلَى الصِّنَاعَةِ الطِّبِّيَّةِ أَضَرُّ مِنْ زَنَادِقَةِ الْقَوْمِ ، وَسَفَلَتِهِمْ ، وَجُهَّالِهِمْ . وَالظَّاهِرُ أَنَّ صَرْعَ هَذِهِ الْمَرْأَةِ كَانَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَةِ الْأَرْوَاحِ ، وَيَكُونُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ خَيَّرَهَا بَيْنَ الصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ مَعَ الْجَنَّةِ ، وَبَيْنَ الدُّعَاءِ لَهَا بِالشِّفَاءِ ، فَاخْتَارَتِ الصَّبْرَ وَالسَّتْرَ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ] .