[ ص: 351 ] الآية الثانية قوله تعالى : { فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى     } 
فيها ثمان مسائل : 
المسألة الأولى في سبب نزولها : روي في ذلك روايات : الرواية الأولى عن  أبي الدرداء  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ما من يوم طلعت فيه شمسه إلا وبجنبتيها ملكان يناديان ، يسمعهما خلق الله كلهم إلا الثقلين : اللهم أعط منفقا خلفا ، وأعط ممسكا تلفا   } ; فأنزل الله تعالى في ذلك : { فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى    } 
الرواية الثانية عن  عامر بن عبد الله بن الزبير  قال : كان أبو بكر  يعتق على الإسلام بمكة  ، وكان يعتق نساء وعجائز ; فقال له أبوه : أي بني ، أراك تعتق أناسا ضعفاء ، فلو أنك أعتقت رجالا جلدا يقومون معك ، ويدفعون عنك ، ويمنعونك ، فقال : أي أبت ; إنما أريد ما عند الله . قال : فحدثني بعض أهل بيتي أن هذه الآية نزلت فيه : { فأما من أعطى واتقى    } . 
المسألة الثانية قوله : { من أعطى    } : حقيقة العطاء هي المناولة ، وهي في اللغة والاستعمال عبارة عن كل نفع أو ضر يصل من الغير إلى الغير ، وقد بيناه في كتاب الأمد الأقصى وغيره . 
المسألة الثالثة قوله تعالى : { واتقى    } : وقد تقدم الكلام في حقيقة التقوى ، وأنها عبارة عن حجاب معنوي يتخذه العبد بينه وبين العقاب ، كما أن الحجاب المحسوس يتخذه العبد مانعا بينه وبين ما يكرهه . 
المسألة الرابعة قوله تعالى : { وصدق بالحسنى    } :  [ ص: 352 ] فيها ثلاثة أقوال : الأول : أنها الخلف من المعطي ; قاله  ابن عباس    . 
الثاني : أنها لا إله إلا الله ; قاله  ابن عباس  أيضا . 
الثالث : أنها الجنة ; قاله  قتادة    . 
المسألة الخامسة في المختار : كل معنى ممدوح فهو حسنى ، وكل عمل مذموم فهو سوأى وعسرى ، وأول الحسنى التوحيد ، وآخره الجنة ; وكل قول أو عمل بينهما فهو حسنى ، وأول السوأى كلمة الكفر ، وآخره النار ، وغير ذلك مما يتعلق بهما فهو منهما ومراد باللفظ المعبر عنهما . 
واختار الطبري  أن الحسنى الخلف ، وكل ذلك يرجع إلى الثواب الذي هو الجنة . 
المسألة السادسة قوله : { فسنيسره    } يعني نهيئه بخلق أسبابه ، وإيجاد مقدماته ، ثم نخلقه بعد ذلك . فإن كان حسنا سمي يسرى ، وإن مذموما سمي عسرى ، والباري سبحانه خالق الكل ، فإن أراد السعادة هيأ أسبابها للعبد وخلقها فيه ، وإن أراد الشقاء هيأ أسبابه للعبد ، وخلقها فيه ; وذلك مروي أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق صحيحة ، يعضد ما قامت عليه أدلة القول ، ويعتضد بالشرع المنقول ، منه ما روي عن  علي    : { كنا في جنازة بالبقيع  ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس ، وجلسنا ، ومعه عود ينكت به في الأرض ، فرفع رأسه إلى السماء فقال : ما منكم من نفس منفوسة إلا كتب مدخلها . فقلنا : يا رسول الله ; ألا نتكل على كتابنا ؟ فقال : بل اعملوا فكل ميسر ، فأما من كان من أهل السعادة فإنه ييسر لعمل أهل السعادة ، وأما من كان من أهل الشقاوة فإنه ييسر لعمل الشقاء . ثم قرأ : { فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى    } إلى قوله : { للعسرى    }   } . 
{ وسأل غلامان شابان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا : العمل فيما جفت به الأقلام ، وجرت به المقادير أم في شيء يستأنف ؟ فقال : بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير .  [ ص: 353 ] فقالا : ففيم العمل إذن ؟ قال : اعملوا فكل ميسر لعمله الذي خلق له . قالا : فالآن نجد ونعمل   } . 
المسألة السابعة قوله : { بخل    } : قد بينا حقيقة البخل فيما تقدم ، وأنه منع الواجب ; وقد ذكرنا قول النبي صلى الله عليه وسلم : { مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد .   } الحديث إلى آخره . 
المسألة الثامنة قوله : { واستغنى    } : قال  ابن عباس    : استغنى عن الله ، وهو كفر ; فإن الله غني عن العالمين ، وهم فقراء إليه ، وهو الغني الحميد . ويشبه أن يكون المراد استغنى بالدنيا عن الآخرة ، فركن إلى المحسوس ، وآمن به ، وضل عن المعقول ، وكذب به ، ورأى أن راحة النقد خير من راحة النسيئة ، وضل عن وجه النجاة ، وربح التجارة التي اتفق العقلاء على طلبها بإسلام درهم إلى غني وفي ليأخذ عشرة في المستقبل ، والله تبارك وتعالى لا يخلف الميعاد ، وهو الغني له ما في السموات وما في الأرض ، والخلق ملكه ، أمر بالعمل وندب إلى النصب ، ووعد عليه بالثواب ; فالحرام معقولا ، والواجب منقولا امتثال أمره ، وارتقاب وعده ، وهذا منتهى الحكم في الآية ، وما يتعلق به وراء ذلك من البيان ما يخرج عن المقصود فأرجأته إلى مكانه بمشيئة الله وعونه . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					