الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              المسألة الثالثة : من جملة أكل المال بالباطل بيع العربان ، وهو أن يأخذ منك السلعة ويعطيك درهما على أنه إن اشتراها تمم الثمن ، وإن لم يشترها فالدرهم لك ، وقد روى مالك في الموطأ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم { نهى عن بيع العربان } .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الرابعة : لما شرط العوض في أكل المال وصارت تجارة خرج عنها كل عقد لا عوض فيه يرد على المال ، كالهبة والصدقة ، فلا يتناوله مطلق اللفظ ، وجازت عقود البيوعات بأدلة أخر من القرآن والسنة على ما عرف ، ويأتي ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الخامسة : الربح هو ما يكتسبه المرء زائدا على قيمة معوضه فيأذن له فيه إذا كان معه أصل العوض في المعاملة ، ويكون ذلك الربح بحسب حاجة المشتري والبائع إلى عقد الصفقة [ ص: 522 ] فالزيادة أبدا تكون من جهة المحتاج ; إن احتاج البائع أعطى زائدا على الثمن من قيمة سلعته ، وإن احتاج المشتري أعطى زائدا من الثمن ، وذلك يكون يسيرا في الغالب ، فإن كان الربح متفاوتا فاختلف فيه العلماء ; فأجازه جميعهم ، ورده مالك في إحدى روايتيه إذا كان المغبون لا بصر له بتلك السلعة ، ولذا جوزه فراعى أن المغبون مفرط ; إذ كان من حقه أن يشتري لنفسه ويشاور من يعلم أو يوكله ، وإذا رددناه فلأنه من أكل المال بالباطل ; إذ ليس تبرعا ولا معاوضة ; فإن المعاوضة عند الناس لا تخرج إلى هذا التفاوت ، وإنما هو من باب الخلابة ، والخلابة ممنوعة شرعا مع ضعفها كالغلابة وهو الغصب ، ممنوعة شرعا مع قوتها ، وتدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم : { لا ضرر ولا ضرار } . ألا ترى أن تلقي الركبان يتعلق به الخيار عند تبين الحال ، وهو من هذا الباب ، وقد قررناه قبل هذا في موضعين ، فلنجمع الكلام على الآية فيها كلها .

                                                                                                                                                                                                              المسألة السادسة : قال عكرمة والحسن البصري وغيرهما : خرج عن هذه الآية التبرعات كلها ، وإنما جوز الشرع التجارة وبقي غيرها على مقتضى النهي حتى نسخها قوله : { ليس عليكم جناح أن تأكلوا } ; وهذا ضعيف جدا ; فإن الآية لم تقتض تحريم التبرعات ; وإنما اقتضت تحريم المعاوضة الفاسدة ; وقد بينا ذلك في القسم الثاني من الناسخ والمنسوخ .

                                                                                                                                                                                                              المسألة السابعة : قوله تعالى : { عن تراض منكم } : وهو حرف أشكل على العلماء حتى اضطربت فيه آراؤهم : قال بعضهم : التراضي هو التخاير بعد عقد البيع قبل الافتراق من المجلس ، وبه قال ابن عمر ، وأبو هريرة ، وشريح ، والشعبي ، وابن سيرين ، والشافعي ، وتعلقوا بحديث ابن عمر وغيره : { المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا إلا بيع الخيار } [ ص: 523 ] وقال آخرون : إذا تواجبا بالقول فقد تراضيا ، يروى عن عمر وغيره ، وبه قال أبو حنيفة ومالك والصحابة . واختار الطبري أن يكون تأويل الآية : إلا تجارة تعاقدتموها وافترقتم بأبدانكم عن تراض منكم فيها ; وهذه دعوى إنما يدل مطلق الآية على التجارة على الرضا ، وذلك ينقضي بالعقد ، وينقطع بالتواجب ، وبقاء التخاير في المجلس لا تشهد له الآية لا نطقا ولا تنبيها ، وكل آية وردت في ذكر البيع والشراء والمداينة والمعاملة إنما هي مطلقة لا ذكر للمجلس فيها ولا لافتراق الأبدان منها ; كقوله : { أوفوا بالعقود } ; فإذا عقد ولم يبرم لم يكن وفاء ، وإذا عقد ورجع عن عقده لم يكن بين الكلام والسكوت فرق ، بل السكوت خير منه ، لأنه تعب ولا التزم ولا أخبر عن شيء ، فتبين الأمر ، وتقدم العذر ، وإذا عقد وحل بعد ذلك كان كلامه تعبا ولغوا ، وما الإنسان لولا اللسان ، وقد أخبر بلسانه عن عقده ورضاه ، فأي شيء بقي بعد هذا ؟ وكذلك قوله في آية الدين : { وليملل الذي عليه الحق } ، فإذا أملى وكتب وأعطى الأجرة ثم عاد ومحا ما كتب كان تلاعبا وفسخا لعقد آخر قد تقرر . وكذلك قال : { ولا يبخس منه شيئا } ، وإذا حله فقد بخسه كله .

                                                                                                                                                                                                              وكذلك قال : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } ، وعلى أي شيء يشهدون ؟ ولم يلزم عقد ولا انبرم أمر . وكذلك قوله : { ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله } يلزم منه ما لزم من قوله : { وليملل الذي عليه الحق } . وكذلك قوله : { فرهان مقبوضة } فيضيف عقدا إلى غير عقد ، ويرتهن إلى غير واجب [ ص: 524 ] واعتبار خيار المجلس وحده مبطل لهذا كله ، فأي الأمرين أولى أن يراعى ؟ وأي الحالين أقوى أن يعتبر ؟ فإن قيل : أمر الله تعالى بالكتابة والإشهاد محمول على الغالب في أن المتبايعين لا يفترقان حتى ينقضي ذلك كله . قلنا : الغالب ضده ، وكيف يتصور بقاء الشهود حتى يقوم المتعاقدان ؟ هذا لم يعهد ولم يتفق . فإن تعلقوا بخبر ابن عمر وغيره في خيار المجلس فهذا خروج عن القرآن إلى الأخبار وقد تكلمنا على ذلك في مسائل الخلاف بما يجب ، فلا ندخله في غير موضعه .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الثامنة : هذا نص على إبطال بيع المكره لفوات الرضا فيه ، وتنبيه على إبطال أفعاله كلها حملا عليه .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية