الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          2475 حدثنا هناد حدثنا عبدة عن هشام بن عروة عن وهب بن كيسان عن جابر بن عبد الله قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ثلاث مائة نحمل زادنا على رقابنا ففني زادنا حتى إن كان يكون للرجل منا كل يوم تمرة فقيل له يا أبا عبد الله وأين كانت تقع التمرة من الرجل فقال لقد وجدنا فقدها حين فقدناها وأتينا البحر فإذا نحن بحوت قد قذفه البحر فأكلنا منه ثمانية عشر يوما ما أحببنا قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وقد روي من غير وجه عن جابر بن عبد الله ورواه مالك بن أنس عن وهب بن كيسان أتم من هذا وأطول

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( بعثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن ثلاثمائة ) . وفي رواية للبخاري في المغازي : بعثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثمائة راكب ، أميرنا أبو عبيدة بن الجراح نرصد عير قريش فأقمنا بالساحل نصف شهر . وقد ذكر ابن سعد وغيره أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعثهم إلى حي جهينة بالقبلية بفتح القاف والموحدة مما يلي ساحل البحر بينهم وبين المدينة خمس ليال ، وأنهم انصرفوا ولم يلقوا كيدا . قال الحافظ : هذا لا يغاير ظاهره ما في الصحيح لأنه يمكن الجمع بين كونهم يتلقون عيرا لقريش ويقصدون حيا من جهينة ويقوي هذا الجمع ما عند مسلم من طريق [ ص: 147 ] عبيد الله بن مقسم عن جابر قال : بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعثا إلى أرض جهينة فذكر القصة ( فقيل له ) أي لجابر -رضي الله عنه- ( يا أبا عبد الله ) هذا كنية جابر ( وأين كانت تقع التمرة من الرجل ) وفي رواية البخاري فقلت ما تغني عنكم تمرة . قال الحافظ : هو صريح في أن السائل عن ذلك وهب بن كيسان ( قال لقد وجدنا فقدها ) أي مؤثرا . قال النووي : وفي هذا بيان ما كان الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- عليه من الزهد في الدنيا ، والتقلل منها ، والصبر على الجوع وخشونة العيش ، وإقدامهم على الغزو مع هذا الحال ( فإذا نحن بحوت ) هو اسم جنس لجميع السمك ، وقيل هو مخصوص بما عظم منها ( قد قذفه البحر ) أي رماه ، وفي رواية للبخاري : فألقى البحر حوتا ميتا لم ير مثله يقال له العنبر . وفي رواية أخرى له : فإذا حوت مثل الظرب وهو بفتح الظاء المعجمة وكسر الراء بعدها موحدة الجبل الصغير ( فأكلنا منه ثمانية عشر يوما ما أحببنا ) ما موصولة . وفي رواية لمسلم : فأقمنا عليه شهرا ونحن ثلاثمائة حتى سمنا . وفي رواية أخرى له : فأكلنا منها نصف شهر . وفي رواية أخرى له : فأكل منها الجيش ثمان عشرة ليلة . قال النووي في الجمع بين هذه الروايات المختلفة ما لفظه : طريق الجمع بين الروايات أن من روى شهرا هو الأصل ومعه زيادة علم ومن روى دونه لم ينف الزيادة ولو نفاها قدم المثبت ، وقد قدمنا مرات أن المشهور الصحيح عند الأصوليين أن مفهوم العدد لا حكم له . فلا يلزم منه نفي الزيادة لو لم يعارضه إثبات الزيادة ، كيف وقد عارضه فوجب قبول الزيادة وجمع القاضي بينهما بأن من قال : نصف شهر أراد أكلوا منه تلك المدة طريا ، ومن قال : شهرا أراد أنهم قددوه فأكلوا منه بقية الشهر قديدا انتهى .

                                                                                                          قال الحافظ : ويجمع بين هذا الاختلاف بأن الذي قال ثمان عشرة ضبط ما لم يضبطه غيره ، وأن من قال : نصف شهر ، ألغى الكسر الزائد وهو ثلاثة أيام ، ومن قال : شهرا جبر الكسر أو ضم بقية المدة التي كانت قبل وجدانهم الحوت إليها . قال : ووقع في رواية الحاكم " اثني عشر يوما " وهي شاذة انتهى والحديث هكذا أخرجه الترمذي مختصرا وأخرجه الشيخان مطولا وفي آخر الحديث : فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال : كلوا رزقا أخرجه الله أطعمونا إن كان معكم فأتاه بعضهم فأكله .

                                                                                                          وقد استدل بهذا الحديث على جواز أكل السمك الطافي قال النووي : وأما السمك [ ص: 148 ] الطافي وهو الذي يموت في البحر بلا سبب فمذهبنا إباحته وبه قال جماهير العلماء من الصحابة فمن بعدهم منهم أبو بكر الصديق وأبو أيوب وعطاء ومكحول والنخعي ومالك وأحمد وأبو ثور وداود وغيرهم . وقال جابر بن عبد الله وجابر بن زيد وطاوس وأبو حنيفة لا يحل دليلنا قوله تعالى : أحل لكم صيد البحر وطعامه قال ابن عباس والجمهور : صيده ما صدتموه وطعامه ما قذفه .

                                                                                                          وبحديث جابر هذا وبحديث : هو الطهور ماؤه الحل ميتته وهو حديث صحيح . وبأشياء مشهورة غير ما ذكرنا . وأما الحديث المروي عن جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- : ما ألقاه البحر أو جزر عنه فكلوه ، وما مات فيه فطفا فلا تأكلوه ، فحديث ضعيف باتفاق أئمة الحديث لا يجوز الاحتجاج به لو لم يعارضه شيء ، كيف وهو معارض بما ذكرناه . وقد أوضحت ضعفه وحاله في شرح المهذب في باب الأطعمة . فإن قيل لا حجة في حديث العنبر لأنهم كانوا مضطرين قلنا : الاحتجاج بأكل النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة من غير ضرورة . قلت : القول الراجح هو جواز أكل السمك الطافي ، وحديث جابر هذا نص صريح فيه .

                                                                                                          قوله : ( هذا حديث حسن صحيح ) وأخرجه الشيخان .




                                                                                                          الخدمات العلمية