( فما لكم في المنافقين فئتين     ) ذكروا في سبب نزولها أقوالا طولوا بها ، وملخصها : أنهم قوم أسلموا فاستوبئوا المدينة  فخرجوا ، فقيل لهم : أما لكم في الرسول أسوة ؟ أو ناس رجعوا من أحد لما خرج الرسول ، وهذا في الصحيحين من قول  زيد بن ثابت    . أو ناس بمكة  تكلموا بالإسلام وهم يعينون الكفار ، فخرجوا من مكة    . قال الحسن  ومجاهد    : خرجوا لحاجة لهم ؛ فقال قوم من المسلمين ، اخرجوا إليهم فاقتلوهم ; فإنهم يظاهرون عدوكم . 
وقال قوم : كيف نقتلهم ، وقد تكلموا   [ ص: 313 ] بالإسلام رواه ابن عطية  عن  ابن عباس    . أو قوم قدموا المدينة  ، وأظهروا الإسلام ، ثم رجعوا إلى مكة  ، فأظهروا الشرك ، أو قوم أعلنوا الإيمان بمكة  ، وامتنعوا من الهجرة قاله الضحاك    . أو العرنيون الذين أغاروا على السرح وقتلوا يسارا ، أو المنافقون الذين تكلموا في حديث الإفك . 
وما كان من هذه الأقوال يتضمن أنهم كانوا بالمدينة يرده قوله : ( حتى يهاجروا في سبيل الله    ) إلا إن حملت المهاجرة على هجرة ما نهى الله عنه ؛ والمعنى : أنه تعالى أنكر عليهم اختلافهم في نفاق من ظهر منه النفاق ; أي من ظهر منه النفاق قطع بنفاقه ، ولو لم يكونوا باديا نفاقهم ؛ لما أطلق عليه اسم النفاق . و ( في المنافقين    ) متعلق بما تعلق به لكم ، وهو كائن أي شيء كائن لكم في شأن المنافقين . أو بمعنى فئتين ; أي فرقتين في أمر المنافقين . وانتصب ( فئتين ) على الحال عند البصريين من ضمير الخطاب في لكم والعامل فيها العامل في لكم . وذهب الكوفيون إلى أنه منصوب على إضمار ( كان ) ; أي كنتم فئتين . ويجيزون ما لك الشاتم ; أي كنت الشاتم ، وهذا عند البصريين لا يجوز ; لأنه عندهم حال والحال لا يجوز تعريفها . 
( والله أركسهم بما كسبوا    ) أي رجعهم وردهم في كفرهم قاله  ابن عباس    . واختار الفراء   والزجاج    : أوبقهم . روي عن  ابن عباس    : أو أضلهم ؛ قاله  السدي    . أو أهلكهم ؛ قاله قتادة  ، أو نكسهم قاله  الزجاج    . وكلها متقاربة . ومن عبر به عن الإهلاك فإنه أخذ بلازم الإركاس . ومعنى بما كسبوا ; أي بما أجراه الله عليهم من المخالفة ، وذلك الإركاس هو بخلق الله واختراعه ، وينسب للعبد كسبا . 
وقال  الزمخشري    : والله أركسهم ; أي ردهم في حكم المشركين كما كانوا بما كسبوا من ارتدادهم ، ولحوقهم بالمشركين ، واحتيالهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم . أو أركسهم في الكفر بأن خذلهم حتى ارتكبوا فيه لما علم من مرض قلوبهم ، انتهى . وهو جار على عقيدته الاعتزالية ؛ فلا ينسب الإركاس إلى الله حقيقة ، بل يؤوله على معنى الخذلان وترك اللطف ، أو على الحكم بكونهم من المشركين . إذ هم فاعلو الكفر ومخترعوه لا الله ؛ تعالى الله عن قولهم . 
وقرأ عبد الله    : ركسهم ثلاثيا . وقرئ : ركسهم ركسوا فيها بالتشديد ؛ قال الراغب    : الركس والنكس الرذل والركس أبلغ من النكس ; لأن النكس ما جعل أسفله أعلاه والركس أصله ما رجع رجيعا بعد أن كان طعاما ، فهو كالرجس ، وصف أعمالهم به ، كما قال : ( إنما المشركون نجس    ) ، وأركسه أبلغ من ركسه ، كما أن أسقاه أبلغ من سقاه ، انتهى . وهذه الجملة في موضع الحال أنكر تعالى عليهم اختلافهم في هؤلاء المنافقين ، في حال أن الله تعالى قد ردهم في الكفر ؛ ومن يرده الله إلى الكفر لا يختلف في كفره . 
( أتريدون أن تهدوا من أضل الله    ) هذا استفهام إنكار ; أي من أراد الله ضلاله ، لا يريد أحد هدايته ; لئلا تقع إرادته مخالفة إرادة الله تعالى ، ومن قضى الله عليه بالضلال لا يمكن إرشاده ، ومن أضل الله اندرج فيه المركسون وغيرهم ممن أضله الله ؛ فكأنه قيل أتريدون أن تهدوا هؤلاء المنافقين ؟ ومن أضله الله تعالى من غيرهم . واندراجهم في عموم ( من ) بعد قوله ( والله أركسهم    ) هو على سبيل التوكيد ; إذ ذكروا أولا على سبيل الخصوص ، وثانيا على سبيل اندراجهم في العموم . وقال  الزمخشري    : أتريدون أن تجعلوا من جملة المهتدين ؟ من أضله الله من جعله من الضلال وحكم عليه بذلك أو خذله حتى ضل ، انتهى . وهو على طريقته الاعتزالية من أنه لا ينسب الإضلال إلى الله على سبيل الحقيقة . 
( ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا    ) ; أي فلن تجد لهدايته سبيلا . والمعنى : لخلق الهداية في قلبه ، وهذا هو المنفي . والهداية بمعنى الإرشاد والتبيين هي للرسل . وخرج من خطابهم إلى خطاب الرسول على سبيل التوكيد في حق المختلفين ; لأنه إذا لم يكن له ذلك ؛ فالأحرى أن لا يكون ذلك لهم . وقيل من يحرمه   [ ص: 314 ] الثواب والجنة لا يجد له أحد طريقا إليهما . وقيل من يهلكه الله فليس لأحد طريق إلى نجاته من الهلاك . وقيل ، ومن يضلل الله فلن تجد له مخرجا وحجة . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					