( ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير ) قال : أول ما نزل من هذه السورة هاتان الآيتان في شأن محمد بن كعب القرظي اليهود والنصارى ، ثم نزل سائر السورة بعرفة في حجة الوداع . وأهل الكتاب يعم اليهود والنصارى . فقيل : الخطاب لليهود خاصة ، ويؤيده ما روى خالد الحذاء عن عكرمة قال : أتى اليهود الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، يسألونه عن الرجم ، فاجتمعوا في بيت فقال : " أيكم أعلم ؟ " فأشاروا إلى ابن صوريا فقال : " أنت أعلمهم " قال : سل عما شئت ، قال : " أنت أعلمهم ؟ " قال إنهم يقولون ذلك ، قال : " فناشدتك الله الذي أنزل التوراة على موسى ، والذي رفع الطور ; فناشده بالمواثيق التي أخذت عليهم حتى أخذه أفكل ، فقال : إن نساءنا نساء حسان فكثر فينا القتل ، فاختصرنا فجلدنا مائة مائة ، وحلقنا الرءوس ، وخالفنا بين الرءوس على الدابرات - أحسبه قال : الإبل - قال : فأنزل الله ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا . وقيل : الخطاب لليهود والنصارى الذين يخفون صفة رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، والرجم ونحوه . وأكثر نوازل الإخفاء إنما نزلت لليهود ، لأنهم كانوا مجاوري الرسول في مهاجره . والمعني بقوله : رسولنا محمد ، صلى الله عليه وسلم ، وأضيف إلى الله تعالى إضافة تشريف . وفي هذه الآية دلالة على صحة نبوته ، لأن إعلامه بما يخفون من كتابهم وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب ولا يصحب القراء ، دلالة على أنه إنما يعلمه الله تعالى . وقوله : من الكتاب يعني ، [ ص: 448 ] التوراة ، ويعفو عن كثير ; أي : مما يخفون لا يبينه إذا لم تدع إليه مصلحة دينية ، ولا يفضحكم بذلك إبقاء عليكم . وقال الحسن : ويعفو عن كثير ، هو ما جاء به الرسول من تخفيف ما كان شدد عليهم ، وتحليل ما كان حرم عليهم . وقيل : لا يؤاخذكم بها ، وهذا المتروك الذي لا يبين هو في معنى افتخارهم ونحوه مما لا يتعين في ملة الإسلام فضحهم به وتكذيبهم ، والظاهر أن فاعل ( يبين ويعفو ) عائد على رسولنا ، ويجوز أن يعود على الله تعالى .
( قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ) قيل : هو القرآن ; سماه نورا لكشف ظلمات الشرك والشك ، أو لأنه ظاهر الإعجاز . وقيل : النور الرسول . وقيل : الإسلام . وقيل : النور موسى ، والكتاب المبين : التوراة . ولو اتبعوها حق الاتباع لآمنوا بمحمد ، صلى الله عليه وسلم ، إذ هي آمرة بذلك مبشرة به . ( يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ) أي : رضا الله ، سبل السلام طرق النجاة ، والسلامة من عذاب الله . والضمير في ( به ) ظاهره أنه يعود على كتاب الله ، ويحتمل أن يكون عائدا على الرسول . قيل : ويحتمل أن يعود على الإسلام . وقيل : سبل السلام ، قيل : دين الإسلام . وقال الحسن والسدي : السلام : هو الله تعالى ، وسبله : دينه الذي شرعه . وقيل : طرق الجنة . وقرأ ، عبيد بن عمير ، والزهري وسلام ، وحميد ، ومسلم بن جندب : به الله ، بضم الهاء ، حيث وقع . وقرأ الحسن ، : سبل ، ساكنة الباء . ( وابن شهاب ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ) أي : من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ; أي : بتمكينه وتسويغه . وقيل : ظلمات الجهل ونور العلم .
( ويهديهم إلى صراط مستقيم ) هو دين الله وتوحيده . وقيل : طريق الجنة . وقيل : طريق الحق ، وروي عن الحسن والظاهر أن هذه الجمل كلها متقاربة المعنى ، وتكرر للتأكيد ، والفعل فيها مسند إليه تعالى .