وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16785الفخر الرازي في تقرير ما ذهب إليه من أن الحصر في الآية هو الحكم المستقر في الشريعة من أولها إلى آخرها ما نصه : ومن السؤالات الضعيفة أن كثيرا من الفقهاء
[ ص: 146 ] خصصوا عموم هذه الآية بما نقل أنه عليه الصلاة والسلام قال :
" nindex.php?page=treesubj&link=16850ما استخبثه العرب فهو حرام " وقد علم أن الذي يستخبثه العرب فهو غير مضبوط ، فسيد العرب بل سيد العالمين
محمد صلوات الله عليه لما رآهم يأكلون الضب قال : يعافه طبعي . ثم إن هذا الاستقذار ما صار سببا لتحريم الضب ، وأما سائر العرب فمنهم من لا يستقذر شيئا ، وقد يختلفون في بعض الأشياء فيستقذرها قوم ويستطيبها آخرون فعلمنا أن أمر الاستقذار غير مضبوط بل هو مختلف باختلاف الأشخاص والأحوال ، فكيف يجوز نسخ هذا النص القاطع بهذا الأمر الذي ليس له ضابط معين ولا قانون معلوم ؟ اهـ .
أقول : إن الحديث الذي ذكره
الرازي في تحريم ما استخبثته العرب لا أصل له فلم يبق لأصحاب هذا القول مستند إلا مفهوم الأمر بأكل الطيبات وإحلالها ، وقوله تعالى في
اليهود الذين يؤمنون بالنبي عليه الصلاة والسلام . (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=157ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ) ( 7 : 157 ) فأما الأول فهو مفهوم مخالفة منع الاحتجاج به الحنفية وبعض الشافعية مطلقا وبمفهوم الصفة منه كالطيبات هنا آخرون من المالكية والشافعية وبعض أئمة اللغة
كالأخفش وابن فارس nindex.php?page=showalam&ids=13042وابن جني ، واشترط له المحتجون به شروطا لا تتحقق هنا ، أقواها ألا يعارضه ما هو أقوى منه من منطوق أو مفهوم وقد عارضته هنا الآيات القطعية ، على أن كل ما أباحه الشرع يجب أن يكون من الطيبات . وأما الثاني فمعناه : يحل لهم الطيبات التي كانت حرمت عليهم عقوبة لهم على ظلمهم ، ويحرم عليهم الخبائث فقط وهي ما كانوا يستحلونه من أكل أموال الناس بالباطل بالربا وغيره وما كان خبيثا من الطعام كلحم الخنزير كما تقدم لنا ، وهذا هو المروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في تفسيرها . والخبيث يطلق على المحرم وعلى القبيح والرديء ; وبهذا فسر قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=267ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ) ( 2 : 267 ) وكل محرم خبيث وما كل خبيث بمحرم ; فقد صح في الحديث تسمية الثوم والبصل بالشجرتين الخبيثتين وأكلهما مباح بالنص والإجماع . وفي الأحاديث إطلاق كلمة خبيث على
nindex.php?page=treesubj&link=10807مهر البغي nindex.php?page=treesubj&link=24931وثمن الكلب nindex.php?page=treesubj&link=17380وكسب الحجام ، وهذا الأخير مكروه لا محرم .
فبهذه الشواهد من الكتاب والسنة يهدم هذا الأصل الاجتهادي من أصول التحريم الذي عرفوه بأنه
nindex.php?page=treesubj&link=20551حكم الله تعالى المقتضي للترك اقتضاء جازما ، وإن لم يطبقوا هذا التعريف على كل ما ادعوا حرمته باجتهادهم ، وإنما
nindex.php?page=treesubj&link=22238الاجتهاد بذل الجهد لتحصيل الظن بحكم شرعي عملي . ومن الثابت من أخلاق البشر وطباعهم أن للبيئة التي يعيشون فيها تأثيرا في اجتهادهم وفهمهم فالذين حرموا على عباد الله ما لا يحصى من المنافع التي خلقها الله لهم وامتن بها عليهم في مثل قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=29هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) ( 2 : 29 ) كانوا عائشين في حضارة
[ ص: 147 ] يتمتع أهلها بخيرات ملك الأكاسرة والقياصرة في مدائن كجنات النعيم
كبغداد ومصر وغيرهما من الأمصار فكان من تأثيرها في أنفسهم أن جعلوا ما يستقذره مترفو العرب في حضارتهم محرما على البدو البائسين وعلى خلق الله أجمعين ، ولولا تأثير هذه الحضارة لراعوا في اجتهادهم الأصول القطعية في يسر الشريعة وعمومها ، ولا يعقل أن يكلف الله جميع الأمم التزام ذوق منعمي العرب في طعامهم - ولتذكروا أن هذا التشدد في التحريم يضيق على أكثر الناس وهم الفقراء والمعوزون أمر معيشتهم ، والتوسع في أصل الإباحة ينفعهم ولا يضر غيرهم من المترفين والموسرين كما راعى ذلك
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما روى
مسلم في صحيحه
nindex.php?page=hadith&LINKID=919815عن أبي الزبير قال : سألت جابرا عن الضب فقال : لا تطعموه وقذره وقال : قال nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب : إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرمه ، إن الله ينفع به غير واحد ، وإنما طعام عامة الرعاء منه ولو كان عندي طعمته اهـ . ثم لتذكروا مع هذا وذاك ما عظم الله من أمر التحريم ، وقد كنا نأخذ كلام هؤلاء المشددين بالتسليم ونجده غنيا عن البحث فيه لموافقته لأذواقنا وعيشتنا . فقد نشأنا في بيت لا يكاد يأكل أهله من لحوم الأنعام إلا الضأن ; ويعافون لحم البقر وما تعودنا أكله إلا في السفر ، وإن
nindex.php?page=treesubj&link=22239_22291للمجتهدين ثوابا حتى فيما أخطئوا فيه لحسن نيتهم في اجتهادهم ، ولكن لا عذر للمقلدين في اتباع كل طائفة منهم لمذهب في كل ما يقوله علماؤه وترك النظر في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وترك العمل بهما إذا دعوا إليهما والإعراض عمن يدعوهم إليه بل الطعن فيه وما كان أحد من الأئمة المجتهدين يجيز هذا التقليد . ويرضى أن يتخذ شريكا لله تعالى في التحليل والتحريم وسائر أنواع التشريع .
وليس فيما أطلنا به في تفسير الآية استطراد ولا خروج عن الموضوع ، ولو تتبعنا كل ما قال الفقهاء بتحريمه منافيا لها وبينا بطلان أدلتهم عليه لم نكن خارجين عن حد تفسيرها ولكن ما تركنا ذكره أضعف مما ذكرناه دليلا كالنهي عن
nindex.php?page=treesubj&link=16840_16837أكل الهر والخيل وكلاهما لا يصح رواية ويعارضه ما هو أصح منه .
وملخص ما تقدم أن آية الأنعام - التي فسرناها بما تقدم - هي أصل الشريعة المحكم فيما يحل ويحرم من الطعام كما فهمها حبر الأمة وإمام المفسرين الأعظم
nindex.php?page=showalam&ids=11عبد الله بن عباس وغيره من علماء الصحابة
nindex.php?page=showalam&ids=16785والفخر الرازي من مفسري أهل النظر ومن وافقه
كالنيسابوري وأن الله تعالى لو علم عند إنزالها - وهو علام الغيوب - أنه سينسخها أو يخصص عمومها لما أنزلها بصيغة الحصر ولما أكدها المرة بعد المرة قبل الهجرة وبعدها وأيدها بما تقدم من مؤكداتها ومؤيداتها وهي أنواع :
( الأول ) الآية التي بعدها ثم آية النحل ثم آية البقرة . ثم أول المائدة على الوجه الذي بيناه فهذه أربع آيات في موضوع الطعام خاصة .
[ ص: 148 ] ( الثاني ) إحلال طعام
أهل الكتاب ،
والنصارى منهم لا يكادون يحرمون شيئا من نوع الحيوان مما يدب على الأرض أو يطير في الهواء .
( الثالث ) الآيات الدالة على إباحة منافع العالم عامة كقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=29هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) ( 2 : 29 ) وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=65ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ) ( 22 : 65 ) وفي معناه بعد ذكر تسخير البحر : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=65ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ) ( 45 : 13 ) وصرح في بعض الآيات بذكر الأكل في تسخير البحر فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=14وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها ) ( 16 : 14 ) إلخ . ( الرابع ) ما يؤيد هذا الأصل فيما يحل ويحرم من الطعام ، وهو ما ورد من التشديد في حظر تحريم أي شيء على عباد الله غير ما حرمه عليهم ربهم كالآيات السابقة لآية الأنعام كما بيناه في تفسيرها ، وقوله تعالى بعد آية النحل في الحصر : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=116ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب ) ( 16 : 116 ) وقال بعدها بآية : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=118وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) ( 118 ) فآيات النحل بمعنى آيات الأنعام في جملتها . وقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=118ما قصصنا عليك من قبل ) نص في نزول النحل بعد الأنعام كما قال أهل الأثر . ومن هذا النوع قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=31اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) ( 9 : 31 ) قال صلى الله عليه وسلم في تفسيرها :
nindex.php?page=hadith&LINKID=919816 " أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه " رواه
الترمذي وحسنه
nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني والبيهقي في سننه وأكثر رواة التفسير المأثور من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=76عدي بن حاتم الطائي الشهير بالجود ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=2003326وكان عدي قد تنصر في الجاهلية وفر بعد بلوغ الدعوة إلى الشام ، فأسرت أخته ومن عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاها ، فلحقت به ورغبته في الإسلام فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقه صليب من فضة وهو صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية . قال فقلت : إنهم لم يعبدوهم فقال : " بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم " ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم . ورووا مثله من حديث
حذيفة ، ومعنى رواية لم يكونوا يعبدونهم : أنهم لم يتخذوهم آلهة ، فالإله هو المعبود ولكنهم اتخذوهم أربابا بمعنى شارعين ، وهذه عبادة ربوبية لا ألوهية ،
nindex.php?page=treesubj&link=28749فالشرع للرب وحده والرسل مبلغون عنه وهم
nindex.php?page=treesubj&link=28751معصومون في تبليغهم وفي بيانهم لما بلغوه ،
nindex.php?page=treesubj&link=26376_32095والعلماء ورثتهم في التبليغ ولكنهم غير معصومين ،
nindex.php?page=treesubj&link=32094فلا يجوز لمؤمن بالله أن يتبع عالما في قوله هذا حرام إلا إذا جاءه ببينة عن الله تعالى ورسوله فعقلها واعتقد صحتها . قال
الربيع : قلت
لأبي العالية : كيف كانت تلك الربوبية في
بني إسرائيل فقال : إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالف أقوال الأحبار فكانوا يأخذون بأقوالهم وما كانوا يقبلون حكم كتاب الله تعالى .
[ ص: 149 ] قال
nindex.php?page=showalam&ids=16785الفخر الرازي بعد ما نقل حديث
عدي وهذا الأثر في تفسير الآية قال شيخنا ومولانا خاتمة المحققين والمجتهدين رضي الله عنه : قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله تعالى في بعض المسائل ، وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها وبقوا ينظرون إلي كالمتعجب . يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها ! ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء ساريا في عروق الأكثرين من أهل الدنيا اهـ . وأقول : إن شيخه رحمه الله كان مجتهدا بحق ، وأما هو فعلى توسعه في فن الاستدلال يؤيد المذهب تارة بالتأويل والجدل ويستقل بالاستدلال أخرى . وقد جاء بعد شيخه كثير من المجتهدين مثله ولكن كثرة المقلدين وتأييد الحكام لهم قد نصر باطلهم على حق أولئك الأئمة ، ولولا الحكام الجاهلون والأوقاف التي وقفت على فقه المذاهب لم يتفرق المسلمون في دينهم شيعا ، حتى صدق عليهم ما ورد في
أهل الكتاب قبلهم إلا من هداه الله ووفقه لإيثار كتاب الله وسنة رسوله على كل شيء .
ثم إن ذلك الأصل الذي قرر في آية الأنعام وأيدته جنود الله تعالى من تلك الأنواع من الآيات تؤيده السنة الصحيحة وحكمة التشريع الرجيحة - أما السنة فكحديث
nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء المرفوع عند
البزار وقال : سنده صالح
والحاكم وصححه
nindex.php?page=hadith&LINKID=919817 " nindex.php?page=treesubj&link=32210ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئا " وتلا ( nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=64وما كان ربك نسيا ) ( 19 : 64 ) وحديث
nindex.php?page=showalam&ids=1500أبي ثعلبة الخشني عند
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني مرفوعا
nindex.php?page=hadith&LINKID=919164 " إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، وحرم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها " حسنه الحافظ
nindex.php?page=showalam&ids=15584أبو بكر السمعاني في أماليه
والنووي في الأربعين . وفي معناهما أحاديث أخرى .
وأما حكمة التشريع في دين عام يطالب جميع البشر في جميع الأقطار بالاهتداء به فهي مأخوذة مما ورد من يسر شريعته وعدم إعناتها للبشر ، ومبنية على بلوغ هذا النوع في جملته درجة الرشد الذي يستقل به في شئون حياته المعاشية والمعادية فلا تقيده فيها إلا بما يزيد في الصلاح والتقوى وتزكية الأنفس وليس في تحريم ما حرموه من غير الأنواع الأربعة التي في الآية شيء من ذلك .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16785الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَقْرِيرِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْحَصْرَ فِي الْآيَةِ هُوَ الْحُكْمُ الْمُسْتَقِرُّ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا مَا نَصُّهُ : وَمِنَ السُّؤَالَاتِ الضَّعِيفَةِ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْفُقَهَاءِ
[ ص: 146 ] خَصَّصُوا عُمُومَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا نُقِلَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ :
" nindex.php?page=treesubj&link=16850مَا اسْتَخْبَثَهُ الْعَرَبُ فَهُوَ حَرَامٌ " وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الَّذِي يَسْتَخْبِثُهُ الْعَرَبُ فَهُوَ غَيْرُ مَضْبُوطٍ ، فَسَيِّدُ الْعَرَبِ بَلْ سَيِّدُ الْعَالَمِينَ
مُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ لَمَّا رَآهُمْ يَأْكُلُونَ الضَّبَّ قَالَ : يَعَافُهُ طَبْعِي . ثُمَّ إِنَّ هَذَا الِاسْتِقْذَارَ مَا صَارَ سَبَبًا لِتَحْرِيمِ الضَّبِّ ، وَأَمَّا سَائِرُ الْعَرَبِ فَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْتَقْذِرُ شَيْئًا ، وَقَدْ يَخْتَلِفُونَ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ فَيَسْتَقْذِرُهَا قَوْمٌ وَيَسْتَطِيبُهَا آخَرُونَ فَعَلِمْنَا أَنَّ أَمْرَ الِاسْتِقْذَارِ غَيْرُ مَضْبُوطٍ بَلْ هُوَ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ ، فَكَيْفَ يَجُوزُ نَسْخُ هَذَا النَّصِّ الْقَاطِعِ بِهَذَا الْأَمْرِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ ضَابِطٌ مُعَيَّنٌ وَلَا قَانُونٌ مَعْلُومٌ ؟ اهـ .
أَقُولُ : إِنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي ذَكَرَهُ
الرَّازِيُّ فِي تَحْرِيمِ مَا اسْتَخْبَثَتْهُ الْعَرَبُ لَا أَصْلَ لَهُ فَلَمْ يَبْقَ لِأَصْحَابِ هَذَا الْقَوْلِ مُسْتَنَدٌ إِلَّا مَفْهُومَ الْأَمْرِ بِأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ وَإِحْلَالِهَا ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي
الْيَهُودِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ . (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=157وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ) ( 7 : 157 ) فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ مَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ مَنْعَ الِاحْتِجَاجَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ مُطْلَقًا وَبِمَفْهُومِ الصِّفَةِ مِنْهُ كَالطَّيِّبَاتِ هُنَا آخَرُونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ
كَالْأَخْفَشِ وَابْنِ فَارِسٍ nindex.php?page=showalam&ids=13042وَابْنِ جِنِّيٍّ ، وَاشْتَرَطَ لَهُ الْمُحْتَجُّونَ بِهِ شُرُوطًا لَا تَتَحَقَّقُ هُنَا ، أَقْوَاهَا أَلَّا يُعَارِضَهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ مِنْ مَنْطُوقٍ أَوْ مَفْهُومٍ وَقَدْ عَارَضَتْهُ هُنَا الْآيَاتُ الْقَطْعِيَّةُ ، عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ . وَأَمَّا الثَّانِي فَمَعْنَاهُ : يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي كَانَتْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ فَقَطْ وَهِيَ مَا كَانُوا يَسْتَحِلُّونَهُ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ بِالرِّبَا وَغَيْرِهِ وَمَا كَانَ خَبِيثًا مِنَ الطَّعَامِ كَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ كَمَا تَقَدَّمَ لَنَا ، وَهَذَا هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِهَا . وَالْخَبِيثُ يُطْلَقُ عَلَى الْمُحَرَّمِ وَعَلَى الْقَبِيحِ وَالرَّدِيءِ ; وَبِهَذَا فُسِّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=267وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ) ( 2 : 267 ) وَكُلُّ مُحَرَّمٍ خَبِيثٌ وَمَا كُلُّ خَبِيثٍ بِمُحَرَّمٍ ; فَقَدْ صَحَّ فِي الْحَدِيثِ تَسْمِيَةُ الثُّومِ وَالْبَصَلِ بِالشَّجَرَتَيْنِ الْخَبِيثَتَيْنِ وَأَكْلُهُمَا مُبَاحٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . وَفِي الْأَحَادِيثِ إِطْلَاقُ كَلِمَةِ خَبِيثٍ عَلَى
nindex.php?page=treesubj&link=10807مَهْرِ الْبَغِيِّ nindex.php?page=treesubj&link=24931وَثَمَنِ الْكَلْبِ nindex.php?page=treesubj&link=17380وَكَسْبِ الْحَجَّامِ ، وَهَذَا الْأَخِيرُ مَكْرُوهٌ لَا مُحَرَّمٌ .
فَبِهَذِهِ الشَّوَاهِدِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُهْدَمُ هَذَا الْأَصْلُ الِاجْتِهَادِيُّ مِنْ أُصُولِ التَّحْرِيمِ الَّذِي عَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ
nindex.php?page=treesubj&link=20551حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُقْتَضِي لِلتَّرْكِ اقْتِضَاءً جَازِمًا ، وَإِنْ لَمْ يُطَبِّقُوا هَذَا التَّعْرِيفَ عَلَى كُلِّ مَا ادَّعَوْا حُرْمَتَهُ بِاجْتِهَادِهِمْ ، وَإِنَّمَا
nindex.php?page=treesubj&link=22238الِاجْتِهَادُ بَذْلُ الْجَهْدِ لِتَحْصِيلِ الظَّنِّ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَمَلِيٍّ . وَمِنَ الثَّابِتِ مِنْ أَخْلَاقِ الْبَشَرِ وَطِبَاعِهِمْ أَنَّ لِلْبِيئَةِ الَّتِي يَعِيشُونَ فِيهَا تَأْثِيرًا فِي اجْتِهَادِهِمْ وَفَهْمِهِمْ فَالَّذِينَ حَرَّمُوا عَلَى عِبَادِ اللَّهِ مَا لَا يُحْصَى مِنَ الْمَنَافِعِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ لَهُمْ وَامْتَنَّ بِهَا عَلَيْهِمْ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=29هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ) ( 2 : 29 ) كَانُوا عَائِشِينَ فِي حَضَارَةٍ
[ ص: 147 ] يَتَمَتَّعُ أَهْلُهَا بِخَيْرَاتِ مُلْكِ الْأَكَاسِرَةِ وَالْقَيَاصِرَةِ فِي مَدَائِنَ كَجَنَّاتِ النَّعِيمِ
كَبَغْدَادَ وَمِصْرَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَمْصَارِ فَكَانَ مِنْ تَأْثِيرِهَا فِي أَنْفُسِهِمْ أَنْ جَعَلُوا مَا يَسْتَقْذِرُهُ مُتْرَفُو الْعَرَبِ فِي حَضَارَتِهِمْ مُحَرَّمًا عَلَى الْبَدْوِ الْبَائِسِينَ وَعَلَى خَلْقِ اللَّهِ أَجْمَعِينَ ، وَلَوْلَا تَأْثِيرُ هَذِهِ الْحَضَارَةِ لَرَاعَوْا فِي اجْتِهَادِهِمُ الْأُصُولَ الْقَطْعِيَّةَ فِي يُسْرِ الشَّرِيعَةِ وَعُمُومِهَا ، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يُكَلِّفَ اللَّهُ جَمِيعَ الْأُمَمِ الْتِزَامَ ذَوْقِ مُنَعَّمِي الْعَرَبِ فِي طَعَامِهِمْ - وَلْتَذْكُرُوا أَنَّ هَذَا التَّشَدُّدَ فِي التَّحْرِيمِ يُضَيِّقُ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ وَهُمُ الْفُقَرَاءُ وَالْمُعْوِزُونَ أَمْرَ مَعِيشَتِهِمْ ، وَالتَّوَسُّعُ فِي أَصْلِ الْإِبَاحَةِ يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّ غَيْرَهُمْ مِنَ الْمُتْرَفِينَ وَالْمُوسِرِينَ كَمَا رَاعَى ذَلِكَ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا رَوَى
مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ
nindex.php?page=hadith&LINKID=919815عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ : سَأَلْتُ جَابِرًا عَنِ الضَّبِّ فَقَالَ : لَا تَطْعَمُوهُ وَقَذَّرَهُ وَقَالَ : قَالَ nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُحَرِّمْهُ ، إِنَّ اللَّهَ يَنْفَعُ بِهِ غَيْرَ وَاحِدٍ ، وَإِنَّمَا طَعَامُ عَامَّةِ الرِّعَاءِ مِنْهُ وَلَوْ كَانَ عِنْدِي طَعِمْتُهُ اهـ . ثُمَّ لِتَذْكُرُوا مَعَ هَذَا وَذَاكَ مَا عَظَّمَ اللَّهُ مِنْ أَمْرِ التَّحْرِيمِ ، وَقَدْ كُنَّا نَأْخُذُ كَلَامَ هَؤُلَاءِ الْمُشَدِّدِينَ بِالتَّسْلِيمِ وَنَجِدُهُ غَنِيًّا عَنِ الْبَحْثِ فِيهِ لِمُوَافَقَتِهِ لِأَذْوَاقِنَا وَعِيشَتِنَا . فَقَدْ نَشَأْنَا فِي بَيْتٍ لَا يَكَادُ يَأْكُلُ أَهْلُهُ مِنْ لُحُومِ الْأَنْعَامِ إِلَّا الضَّأْنَ ; وَيَعَافُونَ لَحْمَ الْبَقَرِ وَمَا تَعَوَّدْنَا أَكْلَهُ إِلَّا فِي السَّفَرِ ، وَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=22239_22291لِلْمُجْتَهِدِينَ ثَوَابًا حَتَّى فِيمَا أَخْطَئُوا فِيهِ لِحُسْنِ نِيَّتِهِمْ فِي اجْتِهَادِهِمْ ، وَلَكِنْ لَا عُذْرَ لِلْمُقَلِّدِينَ فِي اتِّبَاعِ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ لِمَذْهَبٍ فِي كُلِّ مَا يَقُولُهُ عُلَمَاؤُهُ وَتَرْكِ النَّظَرِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرْكِ الْعَمَلِ بِهِمَا إِذَا دُعُوا إِلَيْهِمَا وَالْإِعْرَاضِ عَمَّنْ يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ بَلِ الطَّعْنِ فِيهِ وَمَا كَانَ أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ يُجِيزُ هَذَا التَّقْلِيدَ . وَيَرْضَى أَنْ يُتَّخَذَ شَرِيكًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ التَّشْرِيعِ .
وَلَيْسَ فِيمَا أَطَلْنَا بِهِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ اسْتِطْرَادٌ وَلَا خُرُوجٌ عَنِ الْمَوْضُوعِ ، وَلَوْ تَتَبَّعْنَا كُلَّ مَا قَالَ الْفُقَهَاءُ بِتَحْرِيمِهِ مُنَافِيًا لَهَا وَبَيَّنَّا بُطْلَانَ أَدِلَّتِهِمْ عَلَيْهِ لَمْ نَكُنْ خَارِجِينَ عَنْ حَدِّ تَفْسِيرِهَا وَلَكِنْ مَا تَرَكْنَا ذِكْرَهُ أَضْعَفُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ دَلِيلًا كَالنَّهْيِ عَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=16840_16837أَكْلِ الْهِرِّ وَالْخَيْلِ وَكِلَاهُمَا لَا يَصِحُّ رِوَايَةً وَيُعَارِضُهُ مَا هُوَ أَصَحُّ مِنْهُ .
وَمُلَخَّصُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ آيَةَ الْأَنْعَامِ - الَّتِي فَسَّرْنَاهَا بِمَا تَقَدَّمَ - هِيَ أَصْلُ الشَّرِيعَةِ الْمُحْكَمُ فِيمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنَ الطَّعَامِ كَمَا فَهِمَهَا حَبْرُ الْأُمَّةِ وَإِمَامُ الْمُفَسِّرِينَ الْأَعْظَمُ
nindex.php?page=showalam&ids=11عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ
nindex.php?page=showalam&ids=16785وَالْفَخْرُ الرَّازِيُّ مِنْ مُفَسِّرِي أَهْلِ النَّظَرِ وَمَنْ وَافَقَهُ
كَالنَّيْسَابُورِيِّ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ عَلِمَ عِنْدَ إِنْزَالِهَا - وَهُوَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ - أَنَّهُ سَيَنْسَخُهَا أَوْ يُخَصِّصُ عُمُومَهَا لَمَا أَنْزَلَهَا بِصِيغَةِ الْحَصْرِ وَلَمَا أَكَّدَهَا الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَبَعْدَهَا وَأَيَّدَهَا بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ مُؤَكِّدَاتِهَا وَمُؤَيِّدَاتِهَا وَهِيَ أَنْوَاعٌ :
( الْأَوَّلُ ) الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا ثُمَّ آيَةُ النَّحْلِ ثُمَّ آيَةُ الْبَقَرَةِ . ثُمَّ أَوَّلُ الْمَائِدَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فَهَذِهِ أَرْبَعُ آيَاتٍ فِي مَوْضُوعِ الطَّعَامِ خَاصَّةً .
[ ص: 148 ] ( الثَّانِي ) إِحْلَالُ طَعَامِ
أَهْلِ الْكِتَابِ ،
وَالنَّصَارَى مِنْهُمْ لَا يَكَادُونَ يُحَرِّمُونَ شَيْئًا مِنْ نَوْعِ الْحَيَوَانِ مِمَّا يَدُبُّ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ .
( الثَّالِثُ ) الْآيَاتِ الدَّالَّةُ عَلَى إِبَاحَةِ مَنَافِعِ الْعَالَمِ عَامَّةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=29هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ) ( 2 : 29 ) وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=65أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ) ( 22 : 65 ) وَفِي مَعْنَاهُ بَعْدَ ذِكْرِ تَسْخِيرِ الْبَحْرِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=65أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ) ( 45 : 13 ) وَصَرَّحَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ بِذِكْرِ الْأَكْلِ فِي تَسْخِيرِ الْبَحْرِ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=14وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ) ( 16 : 14 ) إِلَخْ . ( الرَّابِعُ ) مَا يُؤَيِّدُ هَذَا الْأَصْلَ فِيمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنَ الطَّعَامِ ، وَهُوَ مَا وَرَدَ مِنَ التَّشْدِيدِ فِي حَظْرِ تَحْرِيمِ أَيِّ شَيْءٍ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ غَيْرَ مَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ كَالْآيَاتِ السَّابِقَةِ لِآيَةِ الْأَنْعَامِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِهَا ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ آيَةِ النَّحْلِ فِي الْحَصْرِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=116وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ) ( 16 : 116 ) وَقَالَ بَعْدَهَا بِآيَةٍ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=118وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) ( 118 ) فَآيَاتُ النَّحْلِ بِمَعْنَى آيَاتِ الْأَنْعَامِ فِي جُمْلَتِهَا . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=118مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ ) نَصٌّ فِي نُزُولِ النَّحْلِ بَعْدَ الْأَنْعَامِ كَمَا قَالَ أَهْلُ الْأَثَرِ . وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=31اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ) ( 9 : 31 ) قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَفْسِيرِهَا :
nindex.php?page=hadith&LINKID=919816 " أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ " رَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14687الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ وَأَكْثَرُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ مِنْ حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=76عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ الشَّهِيرِ بِالْجُودِ ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=2003326وَكَانَ عَدِيُّ قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفَرَّ بَعْدَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ إِلَى الشَّامِ ، فَأُسِرَتْ أُخْتُهُ وَمَنَّ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْطَاهَا ، فَلَحِقَتْ بِهِ وَرَغَّبَتْهُ فِي الْإِسْلَامِ فَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِهِ صَلِيبٌ مِنْ فِضَّةٍ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ . قَالَ فَقُلْتُ : إِنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوهُمْ فَقَالَ : " بَلَى إِنَّهُمْ حَرَّمُوا عَلَيْهِمُ الْحَلَالَ وَأَحَلُّوا لَهُمُ الْحَرَامَ فَاتَّبَعُوهُمْ فَذَلِكَ عِبَادَتُهُمْ إِيَّاهُمْ " ثُمَّ دَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ . وَرَوَوْا مِثْلَهُ مِنْ حَدِيثِ
حُذَيْفَةَ ، وَمَعْنَى رِوَايَةِ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ : أَنَّهُمْ لَمْ يَتَّخِذُوهُمْ آلِهَةً ، فَالْإِلَهُ هُوَ الْمَعْبُودُ وَلَكِنَّهُمُ اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا بِمَعْنَى شَارِعِينَ ، وَهَذِهِ عِبَادَةُ رُبُوبِيَّةٍ لَا أُلُوهِيَّةٍ ،
nindex.php?page=treesubj&link=28749فَالشَّرْعُ لِلرَّبِّ وَحْدَهُ وَالرُّسُلُ مُبَلِّغُونَ عَنْهُ وَهُمْ
nindex.php?page=treesubj&link=28751مَعْصُومُونَ فِي تَبْلِيغِهِمْ وَفِي بَيَانِهِمْ لِمَا بَلَغُوهُ ،
nindex.php?page=treesubj&link=26376_32095وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَتُهُمْ فِي التَّبْلِيغِ وَلَكِنَّهُمْ غَيْرُ مَعْصُومِينَ ،
nindex.php?page=treesubj&link=32094فَلَا يَجُوزُ لِمُؤْمِنٍ بِاللَّهِ أَنْ يَتَّبِعَ عَالِمًا فِي قَوْلِهِ هَذَا حَرَامٌ إِلَّا إِذَا جَاءَهُ بِبَيِّنَةٍ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ فَعَقَلَهَا وَاعْتَقَدَ صِحَّتَهَا . قَالَ
الرَّبِيعُ : قُلْتُ
لِأَبِي الْعَالِيَةِ : كَيْفَ كَانَتْ تِلْكَ الرُّبُوبِيَّةُ فِي
بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ : إِنَّهُمْ رُبَّمَا وَجَدُوا فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا يُخَالِفُ أَقْوَالَ الْأَحْبَارِ فَكَانُوا يَأْخُذُونَ بِأَقْوَالِهِمْ وَمَا كَانُوا يَقْبَلُونَ حُكْمَ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى .
[ ص: 149 ] قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16785الْفَخْرُ الرَّازِيُّ بَعْدَ مَا نَقَلَ حَدِيثَ
عَدِيٍّ وَهَذَا الْأَثَرُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَالَ شَيْخُنَا وَمَوْلَانَا خَاتِمَةُ الْمُحَقِّقِينَ وَالْمُجْتَهِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَدْ شَاهَدْتُ جَمَاعَةً مِنْ مُقَلِّدَةِ الْفُقَهَاءِ قَرَأْتُ عَلَيْهِمْ آيَاتٍ كَثِيرَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ ، وَكَانَتْ مَذَاهِبُهُمْ بِخِلَافِ تِلْكَ الْآيَاتِ فَلَمْ يَقْبَلُوا تِلْكَ الْآيَاتِ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهَا وَبَقُوا يَنْظُرُونَ إِلَيَّ كَالْمُتَعَجِّبِ . يَعْنِي كَيْفَ يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَعَ أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ سَلَفِنَا وَرَدَتْ عَلَى خِلَافِهَا ! وَلَوْ تَأَمَّلْتَ حَقَّ التَّأَمُّلِ وَجَدْتَ هَذَا الدَّاءَ سَارِيًا فِي عُرُوقِ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا اهـ . وَأَقُولُ : إِنَّ شَيْخَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ مُجْتَهِدًا بِحَقٍّ ، وَأَمَّا هُوَ فَعَلَى تَوَسُّعِهِ فِي فَنِّ الِاسْتِدْلَالِ يُؤَيِّدُ الْمَذْهَبَ تَارَةً بِالتَّأْوِيلِ وَالْجَدَلِ وَيَسْتَقِلُّ بِالِاسْتِدْلَالِ أُخْرَى . وَقَدْ جَاءَ بَعْدَ شَيْخِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ مِثْلُهُ وَلَكِنَّ كَثْرَةَ الْمُقَلِّدِينَ وَتَأْيِيدَ الْحُكَّامِ لَهُمْ قَدْ نَصَرَ بَاطِلَهُمْ عَلَى حَقِّ أُولَئِكَ الْأَئِمَّةِ ، وَلَوْلَا الْحُكَّامُ الْجَاهِلُونَ وَالْأَوْقَافُ الَّتِي وَقَفَتْ عَلَى فِقْهِ الْمَذَاهِبِ لَمْ يَتَفَرَّقِ الْمُسْلِمُونَ فِي دِينِهِمْ شِيَعًا ، حَتَّى صَدَقَ عَلَيْهِمْ مَا وَرَدَ فِي
أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَهُمْ إِلَّا مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ وَوَفَّقَهُ لِإِيثَارِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ .
ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْأَصْلَ الَّذِي قُرِّرَ فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ وَأَيَّدَتْهُ جُنُودُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ مِنَ الْآيَاتِ تُؤَيِّدُهُ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ وَحِكْمَةُ التَّشْرِيعِ الرَّجِيحَةُ - أَمَّا السُّنَّةُ فَكَحَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=4أَبِي الدَّرْدَاءِ الْمَرْفُوعِ عِنْدَ
الْبَزَّارِ وَقَالَ : سَنَدُهُ صَالِحٌ
وَالْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ
nindex.php?page=hadith&LINKID=919817 " nindex.php?page=treesubj&link=32210مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ حَلَالٌ وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ فَاقْبَلُوا مِنَ اللَّهِ عَافِيَتَهُ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَنْسَى شَيْئًا " وَتَلَا ( nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=64وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) ( 19 : 64 ) وَحَدِيثُ
nindex.php?page=showalam&ids=1500أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ عِنْدَ
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدَّارَقُطْنِيِّ مَرْفُوعًا
nindex.php?page=hadith&LINKID=919164 " إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا ، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا ، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا ، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا " حَسَّنَهُ الْحَافِظُ
nindex.php?page=showalam&ids=15584أَبُو بَكْرٍ السَّمْعَانِيُّ فِي أَمَالِيهِ
وَالنَّوَوِيُّ فِي الْأَرْبَعِينَ . وَفِي مَعْنَاهُمَا أَحَادِيثُ أُخْرَى .
وَأَمَّا حِكْمَةُ التَّشْرِيعِ فِي دِينٍ عَامٍّ يُطَالِبُ جَمِيعَ الْبَشَرِ فِي جَمِيعِ الْأَقْطَارِ بِالِاهْتِدَاءِ بِهِ فَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِمَّا وَرَدَ مِنْ يُسْرِ شَرِيعَتِهِ وَعَدَمِ إِعْنَاتِهَا لِلْبَشَرِ ، وَمَبْنِيَّةٌ عَلَى بُلُوغِ هَذَا النَّوْعِ فِي جُمْلَتِهِ دَرَجَةَ الرُّشْدِ الَّذِي يَسْتَقِلُّ بِهِ فِي شُئُونِ حَيَاتِهِ الْمَعَاشِيَّةِ وَالْمَعَادِيَةِ فَلَا تُقَيِّدُهُ فِيهَا إِلَّا بِمَا يَزِيدُ فِي الصَّلَاحِ وَالتَّقْوَى وَتَزْكِيَةِ الْأَنْفُسِ وَلَيْسَ فِي تَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوهُ مِنْ غَيْرِ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي فِي الْآيَةِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ .