بعد أن نفى عنهم أدنى ما يقال له علم ، وحصر ما هم عليه من الدين في أدنى مراتب الظن ، مع أن أعلاها لا يغني من الحق من شيء . أثبت لذاته العلية في مقابلة ذلك الحجة العليا التي لا تعلوها حجة فقال :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=149nindex.php?page=treesubj&link=28977قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ) الحجة في اللغة الدلالة المبينة للحجة ، أي المقصد المستقيم - كما قال
الراغب - فهي من الحج الذي هو القصد ، والمعنى قل أيها الرسول لهؤلاء الجاهلين الذين بنوا قواعد دينهم على أساس الخرص الذي هو أضعف الظن ، بعد تعجيزك إياهم عن الإتيان بأدنى دليل أو قول يرتقي إلى أدنى درجة من العلم : إن لم يكن عندكم علم ما في أمر دينكم ، فلله وحده أعلى درجات العلم ، مما بعثني به من محجة دينه القويم ، وصراطه المستقيم ، وهو الحجة البالغة لما أراد من إحقاق الحق وإزهاق الباطل ، وهي ما بينه في هذه السورة وغيرها من الآيات البينات على أصول العقائد وقواعد الشرائع وموافقتها لحكم العقول السليمة والفطر الكاملة ، وسنن الله في الاجتماع البشري وتكميلها للنظام العام ، الذي يعرج عليه الإنسان في مراقي الكمال ، ولكن لا يكاد يهتدي بهذه الآيات المنبثة في الأكوان ، المبينة في آية الله الكبرى وهي القرآن ، إلا المستعد للهداية ، وهو المحب للحق الحريص على طلبه ، الذي يستمع القول فيتبع أحسنه ، دون من أطفأ باتباع الهوى
[ ص: 157 ] نور فطرته ، أو استخدام عقله لكبريائه وشهوته ، المعرض عن النظر في الآيات استكبارا عنها ، أو حسدا للمبلغ الذي جاء بها ، أو جمودا على تقليد الآباء ، واتباع الرؤساء ، فإنما الحجة علم وبيان ، لا قهر ولا إلزام ، وما على الرسل إلا البلاغ ، وإلا فلو شاء هدايتكم بغير هذه الطريقة التي أقام أمر البشر عليها وهي التعليم والإرشاد ، بطريق النظر والاستدلال ، وما ثم إلا الخلق والتكوين أو القهر والإلزام - لهداكم أجمعين بجعلكم كذلك بالفطرة كما خلق الملائكة مفطورين على الحق والخير وطاعة الرب (
nindex.php?page=tafseer&surano=66&ayano=6لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) ( 66 : 6 ) أو بخلق الطاعة فيكم بغير شعور منكم ولا إرادة كجريان دمائكم في أبدانكم ، وهضم معدكم لطعامكم ، أو مع الشعور بأنها ليس من أفعالكم ، وحينئذ لا تكونون من نوع الإنسان الذي قضت الحكمة وسبق العلم بأن يخلق مستعدا لاتباع الحق والباطل ، وعمل الخير والشر ، وكونه يرجح بعض ما هو مستعد له على بعض الاختيار ، واختياره لأحد النجدين على الآخر بمشيئته لا ينفي مشيئة الله تعالى ولا يعارضها ، فإنه تعالى هو الذي شاء أن يجعله فاعلا باختياره ، كما بيناه من قبل في مواضع ، ومثل هذه الآية قوله تعالى من هذه السورة : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=107ولو شاء الله ما أشركوا ) ( 107 ) وقوله منها أيضا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=35ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ) ( 35 ) وأيضا (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=39من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ) ( 39 ) وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=48ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ) ( 5 : 48 ) وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=118ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) ( 11 : 118 ، 119 ) وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=118ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) ( 10 : 99 ) فالآيات في هذا المعنى كلها بيان لسنة الله في خلق الإنسان كما بيناه في تفسير ما تقدم منها وفي مواضع أخرى ، وهي حجة على المجبرة والقدرية جميعا لا لهما .
وقد تمارى
المعتزلة والأشعرية في تطبيق هذه الآيات على مذاهبهما في إنكار
nindex.php?page=treesubj&link=28834_28831_28786تعلق المشيئة الإلهية بما هو قبيح كالشرك والمعاصي ، وفي نفي عقيدة الجبر عند
المعتزلة وإثبات
الأشعرية لهما . وقد جمعنا فيما جرينا عليه آنفا بين رد الشبهتين لأن المفتونين بهما إلى اليوم كثيرون ينتمون إلى مذاهب ما لهم بها من علم .
وقد رأينا أن نلخص أقوال المفسرين من السلف والخلف في الآيات ليعرف منه ضعف المذاهب النظرية المتعارضة لأهل الكلام . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري في تفسير : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=148كذلك كذب الذين من قبلهم ) بعد أن قال : إن احتجاجهم كمذهب المجبرة بعينه ما نصه : أي جاءوا بالتكذيب المطلق لأن الله عز وجل ركب في العقول وأنزل في الكتب ما دل على غناه وبراءته من مشيئة القبائح وإرادتها ، والرسل أخبروا بذلك ، فمن علق
nindex.php?page=treesubj&link=28786وجود القبائح من الكفر والمعاصي بمشيئة الله وإرادته فقد كذب التكذيب كله ، وهو تكذيب الله وكتبه ورسله ، ونبذ أدلة العقل والسمع وراء ظهره اهـ .
[ ص: 158 ] وقد رد عليه خصومهم
الأشعرية بأن الرسل لم تنف بل أثبتت وقوع كل شيء بمشيئة الله وتقديره ، وإن كان قبيحا ممن فعله ، لما يترتب عليه من عقابه عليه لإتيانه إياه باختياره كالكفر والمعصية ، وأن المشيئة والإرادة منه تعالى ليست بمعنى الرضا ولا تستلزمه ، وقرر جمهورهم أن مراد المشركين بشبهتهم أن الله تعالى راض عن شركهم وتحريمهم لما حرموا ، بدليل مشيئته له منهم دون غيره لا أنه أجبرهم عليه . وقد احتج السلف بالآية على منكري القدر قبل حدوث مذهبي
المعتزلة والأشعرية ، فقد روى أكثر مدوني التفسير المأثور
وأبو الشيخ والحاكم وصححه
والبيهقي في الأسماء والصفات عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه قيل له : إن أناسا يقولون إن الشر ليس بقدر ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : بيننا وبين
أهل القدر هذه الآية : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=148سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ) إلى قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=149فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ) وأخرج
أبو الشيخ عن
nindex.php?page=showalam&ids=16621علي بن زيد قال : انقطعت حجة
القدرية عند هذه الآية ، أي الأخيرة .
وقال الحافظ
ابن كثير في قوله تعالى في رد الآية على شبهتهم : أي بهذه الشبهة ضل من ضل قبل هؤلاء ، وهي حجة داحضة باطلة لأنها لو كانت صحيحة لما أذاقهم الله بأسه ودمر عليهم ، وأدال عليهم رسله الكرام ، وأذاق المشركين من أليم الانتقام انتهى . وقد جزم
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير أيضا بأن الله تعالى كذب المشركين هنا بزعمهم أن الله رضي منهم عبادة الأوثان ، وتحريم ما حرموا من الحرث والأنعام ، لا بقولهم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=148لو شاء الله ما أشركنا ) إلخ . فإنه قول صحيح ، أي ولكنه حق أريد به باطل ، واستدل على ذلك بتشبيهه تعالى تكذيبهم بتكذيب من كان قبلهم من المشركين لرسل الله إليهم ، وما جاءوهم به من التوحيد وإنكار الشرك ، وما لم يأذن الله به من الشرع في التحليل والتحريم والعبادة وغير ذلك . ولكن عبارته في هذا المقام مضطربة ليست كسائر عباراته في الجلاء . وقد قال في آخرها أن لها عنده عللا أخرى غير ما ذكره يطول بذكرها الكتاب ( قال ) : " وفيما ذكرناه كفاية لمن وفق لفهمه " وما قال هذا إلا من شعور بضعف العبارة وأنها لا تكاد تفهم بسهولة .
وقد جارى
أحمد بن المنير صاحب الكشاف على جعل شبهة المشركين عين شبهة
المجبرة ، ثم جعل الآيتين مبطلتين لمذهبي
المعتزلة والمجبرة جميعا ، فقال في الانتصاف ما نصه : قد تقدم أيضا الكلام على هذه الآية وأوضحنا أن الرد عليهم إنما كان لاعتقادهم أنهم مسلوبون اختيارهم وقدرتهم ، وأن إشراكهم إنما صدر منهم على وجه الاضطرار ، وزعموا أنهم يقيمون الحجة على الله ورسله بذلك ، فرد الله قولهم وكذبهم في دعواهم عدم الاختيار لأنفسهم ، وشبههم بمن اغتر قبلهم بهذا الخيال فكذب الرسل وأشرك بالله ، واعتمد على أنه
[ ص: 159 ] إنما يفعل ذلك كله بمشيئة الله ورام إفحام الرسل بهذه الشبهة ، ثم بين الله تعالى أنهم لا حجة لهم في ذلك ، وأن الحجة البالغة له لا لهم بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=149قل فلله الحجة البالغة ) ثم أوضح تعالى أن كلا واقع بمشيئته ، وأنه لم يشأ منهم إلا ما صدر عنهم ، وأنه لو شاء منهم الهداية لاهتدوا أجمعون بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=149فلو شاء لهداكم أجمعين ) والمقصود من ذلك أن يتمحض وجه الرد عليهم وتتلخص عقيدة نفوذ المشيئة وعموم تعلقها بكل كائن عن الرد وينصرف الرد إلى دعواهم بسلب الاختيار لأنفسهم وإلى إقامتهم الحجة بذلك . وإذا تدبرت هذه وجدتها كافية في الرد على من زعم من أهل القبلة أن
nindex.php?page=treesubj&link=28778العبد لا اختيار له ولا قدرة ألبتة ، بل هو مجبور على أفعاله مقهور عليها ، وهم الفرقة المعروفون
بالمجبرة ، والمصنف يغالط في الحقائق فيسمي أهل السنة
مجبرة وإن أثبتوا للعبد اختيارا وقدرة ; لأنهم يسلبون تأثير قدرة العبد ويجعلونها مقارنة لأفعاله الاختيارية ، مميزة بينها وبين أفعاله القسرية ، فمن هذه الجهة سوى بينهم وبين
المجبرة ويجعله لقبا عاما لأهل السنة ، وجماع الرد على
المجبرة الذين ميزناهم عن أهل السنة في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=148سيقول الذين أشركوا ) إلى قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=149قل فلله الحجة البالغة ) وتتمة الآية رد صراح على طائفة الاعتزال القائلين بأن الله تعالى شاء الهداية منهم أجمعين فلم تقع من أكثرهم ، ووجه الرد أن ( لو ) إذا دخلت على فعل مثبت نفته ، فيقتضي ذلك أن الله تعالى لما قال : ( فلو شاء ) لم يكن الواقع أنه شاء هدايتهم ، ولو شاءها لوقعت . فهذا تصريح ببطلان زعمهم ومحل عقدهم ، فإذا ثبت اشتمال الآية على رد عقيدة الطائفتين المذكورتين :
المجبرة في أولها ،
والمعتزلة في آخرها ، فاعلم أنها جامعة لعقيدة السنة منطبقة عليها ; فإن أولها كما بينا يثبت للعبد اختيارا وقدرة على وجه يقطع حجته وعذره في المخالفة والعصيان ، وآخرها يثبت نفوذ مشيئة الله في العبد ، وأن جميع أفعاله على وفق المشيئة الإلهية خيرا أو غيره ، وذلك عين عقيدتهم . فإنهم كما يثبتون للعبد مشيئة وقدرة يسلبون تأثيرهما ويعتقدون أن ثبوتهما قاطع لحجته ، ملزم له بالطاعة على وفق اختياره ، ويثبتون نفوذ مشيئة الله أيضا وقدرته في أفعال عباده ، فهم كما رأيت تبع للكتاب العزيز ، يثبتون ما أثبت وينفون ما نفى ، مؤيدون بالعقل والنقل ، والله الموفق اهـ .
ونقول : إنه قد أجاد إلا في زعمه أن مذهب أهل السنة : أن قدرة العبد لا تأثير لها ، فهذا مذهب
الأشعرية أو أكثرهم ، ومذهب أهل الأثر وهم أئمة السنة وبعض محققي
الأشاعرة nindex.php?page=showalam&ids=12441كإمام الحرمين : أن قدرة العبد مؤثرة في عمله كتأثير سائر الأسباب في المسببات بمشيئة الله
[ ص: 160 ] الذي ربط بعضها ببعض ، كما هو ثابت بالحس والوجدان والقرآن ، وأطال المحقق
ابن القيم في إثباته في شفاء العليل وغيره .
بَعْدَ أَنْ نَفَى عَنْهُمْ أَدْنَى مَا يُقَالُ لَهُ عَلِمٌ ، وَحَصَرَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ فِي أَدْنَى مَرَاتِبِ الظَّنِّ ، مَعَ أَنَّ أَعْلَاهَا لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ مِنْ شَيْءٍ . أَثْبَتَ لِذَاتِهِ الْعَلِيَّةِ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ الْحُجَّةَ الْعُلْيَا الَّتِي لَا تَعْلُوهَا حُجَّةٌ فَقَالَ :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=149nindex.php?page=treesubj&link=28977قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) الْحُجَّةُ فِي اللُّغَةِ الدَّلَالَةُ الْمُبَيِّنَةُ لِلْحُجَّةِ ، أَيِ الْمَقْصِدُ الْمُسْتَقِيمُ - كَمَا قَالَ
الرَّاغِبُ - فَهِيَ مِنَ الْحَجِّ الَّذِي هُوَ الْقَصْدُ ، وَالْمَعْنَى قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْجَاهِلِينَ الَّذِينَ بَنَوْا قَوَاعِدَ دِينِهِمْ عَلَى أَسَاسِ الْخَرْصِ الَّذِي هُوَ أَضْعَفُ الظَّنِّ ، بَعْدَ تَعْجِيزِكَ إِيَّاهُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِأَدْنَى دَلِيلٍ أَوْ قَوْلٍ يَرْتَقِي إِلَى أَدْنَى دَرَجَةٍ مِنَ الْعِلْمِ : إِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَكُمْ عِلْمٌ مَا فِي أَمْرِ دِينِكُمْ ، فَلِلَّهِ وَحْدَهُ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْعِلْمِ ، مِمَّا بَعَثَنِي بِهِ مِنْ مَحَجَّةِ دِينِهِ الْقَوِيمِ ، وَصِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ ، وَهُوَ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ لِمَا أَرَادَ مِنْ إِحْقَاقِ الْحَقِّ وَإِزْهَاقِ الْبَاطِلِ ، وَهِيَ مَا بَيَّنَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى أُصُولِ الْعَقَائِدِ وَقَوَاعِدِ الشَّرَائِعِ وَمُوَافَقَتِهَا لِحِكَمِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ وَالْفِطَرِ الْكَامِلَةِ ، وَسُنَنِ اللَّهِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ وَتَكْمِيلِهَا لِلنِّظَامِ الْعَامِّ ، الَّذِي يُعَرِّجُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ فِي مَرَاقِي الْكَمَالِ ، وَلَكِنْ لَا يَكَادُ يَهْتَدِي بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْمُنْبَثَّةِ فِي الْأَكْوَانِ ، الْمُبَيَّنَةِ فِي آيَةِ اللَّهِ الْكُبْرَى وَهِيَ الْقُرْآنُ ، إِلَّا الْمُسْتَعِدُّ لِلْهِدَايَةِ ، وَهُوَ الْمُحِبُّ لِلْحَقِّ الْحَرِيصُ عَلَى طَلَبِهِ ، الَّذِي يَسْتَمِعُ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُ أَحْسَنَهُ ، دُونَ مَنْ أَطْفَأَ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى
[ ص: 157 ] نُورَ فِطْرَتِهِ ، أَوِ اسْتِخْدَامَ عَقْلِهِ لِكِبْرِيَائِهِ وَشَهْوَتِهِ ، الْمُعْرِضِ عَنِ النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ اسْتِكْبَارًا عَنْهَا ، أَوْ حَسَدًا لِلْمُبَلِّغِ الَّذِي جَاءَ بِهَا ، أَوْ جُمُودًا عَلَى تَقْلِيدِ الْآبَاءِ ، وَاتِّبَاعِ الرُّؤَسَاءِ ، فَإِنَّمَا الْحُجَّةُ عِلْمٌ وَبَيَانٌ ، لَا قَهْرٌ وَلَا إِلْزَامٌ ، وَمَا عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ ، وَإِلَّا فَلَوْ شَاءَ هِدَايَتَكُمْ بِغَيْرِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي أَقَامَ أَمْرَ الْبَشَرِ عَلَيْهَا وَهِيَ التَّعْلِيمُ وَالْإِرْشَادُ ، بِطَرِيقِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ ، وَمَا ثَمَّ إِلَّا الْخَلْقُ وَالتَّكْوِينُ أَوِ الْقَهْرُ وَالْإِلْزَامُ - لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ بِجَعْلِكُمْ كَذَلِكَ بِالْفِطْرَةِ كَمَا خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ مَفْطُورِينَ عَلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَطَاعَةِ الرَّبِّ (
nindex.php?page=tafseer&surano=66&ayano=6لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) ( 66 : 6 ) أَوْ بِخَلْقِ الطَّاعَةِ فِيكُمْ بِغَيْرِ شُعُورٍ مِنْكُمْ وَلَا إِرَادَةٍ كَجَرَيَانِ دِمَائِكُمْ فِي أَبْدَانِكُمْ ، وَهَضْمِ مِعَدِكُمْ لِطَعَامِكُمْ ، أَوْ مَعَ الشُّعُورِ بِأَنَّهَا لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِكُمْ ، وَحِينَئِذٍ لَا تَكُونُونَ مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ الَّذِي قَضَتِ الْحِكْمَةُ وَسَبَقَ الْعِلْمُ بِأَنْ يُخْلَقَ مُسْتَعِدًّا لِاتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، وَعَمَلِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ ، وَكَوْنُهُ يُرَجِّحُ بَعْضَ مَا هُوَ مُسْتَعِدٌّ لَهُ عَلَى بَعْضِ الِاخْتِيَارِ ، وَاخْتِيَارُهُ لِأَحَدِ النَّجْدَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِمَشِيئَتِهِ لَا يَنْفِي مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يُعَارِضُهَا ، فَإِنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي شَاءَ أَنْ يَجْعَلَهُ فَاعِلًا بِاخْتِيَارِهِ ، كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ فِي مَوَاضِعَ ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=107وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ) ( 107 ) وَقَوْلُهُ مِنْهَا أَيْضًا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=35وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى ) ( 35 ) وَأَيْضًا (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=39مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) ( 39 ) وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=48وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ) ( 5 : 48 ) وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=118وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ) ( 11 : 118 ، 119 ) وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=118وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ) ( 10 : 99 ) فَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كُلُّهَا بَيَانٌ لِسُنَّةِ اللَّهِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْهَا وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى ، وَهِيَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُجْبِرَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ جَمِيعًا لَا لَهُمَا .
وَقَدْ تَمَارَى
الْمُعْتَزِلَةُ وَالْأَشْعَرِيَّةُ فِي تَطْبِيقِ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى مَذَاهِبِهِمَا فِي إِنْكَارِ
nindex.php?page=treesubj&link=28834_28831_28786تَعَلُّقِ الْمَشِيئَةِ الْإِلَهِيَّةِ بِمَا هُوَ قَبِيحٌ كَالشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي ، وَفِي نَفْيِ عَقِيدَةِ الْجَبْرِ عِنْدَ
الْمُعْتَزِلَةِ وَإِثْبَاتِ
الْأَشْعَرِيَّةِ لَهُمَا . وَقَدْ جَمَعْنَا فِيمَا جَرَيْنَا عَلَيْهِ آنِفًا بَيْنَ رَدِّ الشُّبْهَتَيْنِ لِأَنَّ الْمَفْتُونِينَ بِهِمَا إِلَى الْيَوْمِ كَثِيرُونَ يَنْتَمُونَ إِلَى مَذَاهِبَ مَا لَهُمْ بِهَا مِنْ عِلْمٍ .
وَقَدْ رَأَيْنَا أَنْ نُلَخِّصَ أَقْوَالَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي الْآيَاتِ لِيُعْرَفَ مِنْهُ ضَعْفُ الْمَذَاهِبِ النَّظَرِيَّةِ الْمُتَعَارِضَةِ لِأَهْلِ الْكَلَامِ . قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=148كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) بَعْدَ أَنْ قَالَ : إِنَّ احْتِجَاجَهُمْ كَمَذْهَبِ الْمُجْبِرَةِ بِعَيْنِهِ مَا نَصُّهُ : أَيْ جَاءُوا بِالتَّكْذِيبِ الْمُطْلَقِ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَكَّبَ فِي الْعُقُولِ وَأَنْزَلَ فِي الْكُتُبِ مَا دَلَّ عَلَى غِنَاهُ وَبَرَاءَتِهِ مِنْ مَشِيئَةِ الْقَبَائِحِ وَإِرَادَتِهَا ، وَالرُّسُلُ أَخْبَرُوا بِذَلِكَ ، فَمَنْ عَلَّقَ
nindex.php?page=treesubj&link=28786وُجُودَ الْقَبَائِحِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ فَقَدْ كَذَّبَ التَّكْذِيبَ كُلَّهُ ، وَهُوَ تَكْذِيبُ اللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ، وَنَبَذَ أَدِلَّةَ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ وَرَاءَ ظَهْرِهِ اهـ .
[ ص: 158 ] وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ خُصُومُهُمُ
الْأَشْعَرِيَّةُ بِأَنَّ الرُّسُلَ لَمْ تَنْفِ بَلْ أَثْبَتَتْ وُقُوعَ كُلِّ شَيْءٍ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا مِمَّنْ فَعَلَهُ ، لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ عِقَابِهِ عَلَيْهِ لِإِتْيَانِهِ إِيَّاهُ بِاخْتِيَارِهِ كَالْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ ، وَأَنَّ الْمَشِيئَةَ وَالْإِرَادَةَ مِنْهُ تَعَالَى لَيْسَتْ بِمَعْنَى الرِّضَا وَلَا تَسْتَلْزِمُهُ ، وَقَرَّرَ جُمْهُورُهُمْ أَنَّ مُرَادَ الْمُشْرِكِينَ بِشُبْهَتِهِمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَاضٍ عَنْ شِرْكِهِمْ وَتَحْرِيمِهِمْ لِمَا حَرَّمُوا ، بِدَلِيلِ مَشِيئَتِهِ لَهُ مِنْهُمْ دُونَ غَيْرِهِ لَا أَنَّهُ أَجْبَرَهُمْ عَلَيْهِ . وَقَدِ احْتَجَّ السَّلَفُ بِالْآيَةِ عَلَى مُنْكِرِي الْقَدَرِ قَبْلَ حُدُوثِ مَذْهَبَيِ
الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ ، فَقَدْ رَوَى أَكْثَرُ مُدَوِّنِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ
وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ
وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : إِنَّ أُنَاسًا يَقُولُونَ إِنَّ الشَّرَّ لَيْسَ بِقَدَرٍ ، فَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ : بَيْنَنَا وَبَيْنَ
أَهْلِ الْقَدَرِ هَذِهِ الْآيَةُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=148سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا ) إِلَى قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=149فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) وَأَخْرَجَ
أَبُو الشَّيْخِ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=16621عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ قَالَ : انْقَطَعَتْ حُجَّةُ
الْقَدَرِيَّةِ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ ، أَيِ الْأَخِيرَةِ .
وَقَالَ الْحَافِظُ
ابْنُ كَثِيرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي رَدِّ الْآيَةِ عَلَى شُبْهَتِهِمْ : أَيْ بِهَذِهِ الشُّبْهَةِ ضَلَّ مَنْ ضَلَّ قَبْلَ هَؤُلَاءِ ، وَهِيَ حُجَّةٌ دَاحِضَةٌ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً لَمَا أَذَاقَهُمُ اللَّهُ بَأْسَهُ وَدَمَّرَ عَلَيْهِمْ ، وَأَدَالَ عَلَيْهِمْ رُسُلَهُ الْكِرَامَ ، وَأَذَاقَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَلِيمِ الِانْتِقَامِ انْتَهَى . وَقَدْ جَزَمَ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَذَّبَ الْمُشْرِكِينَ هُنَا بِزَعْمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ رَضِيَ مِنْهُمْ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ ، وَتَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوا مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ ، لَا بِقَوْلِهِمْ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=148لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا ) إِلَخْ . فَإِنَّهُ قَوْلٌ صَحِيحٌ ، أَيْ وَلَكِنَّهُ حَقٌّ أُرِيدَ بِهِ بَاطِلٌ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِتَشْبِيهِهِ تَعَالَى تَكْذِيبَهُمْ بِتَكْذِيبِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِرُسُلِ اللَّهِ إِلَيْهِمْ ، وَمَا جَاءُوهُمْ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَإِنْكَارِ الشِّرْكِ ، وَمَا لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ بِهِ مِنَ الشَّرْعِ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْعِبَادَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَلَكِنَّ عِبَارَتَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مُضْطَرِبَةٌ لَيْسَتْ كَسَائِرِ عِبَارَاتِهِ فِي الْجَلَاءِ . وَقَدْ قَالَ فِي آخِرِهَا أَنَّ لَهَا عِنْدَهُ عِلَلًا أُخْرَى غَيْرَ مَا ذَكَرَهُ يَطُولُ بِذِكْرِهَا الْكِتَابُ ( قَالَ ) : " وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ لِمَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهِ " وَمَا قَالَ هَذَا إِلَّا مِنْ شُعُورٍ بِضِعْفِ الْعِبَارَةِ وَأَنَّهَا لَا تَكَادُ تُفْهَمُ بِسُهُولَةٍ .
وَقَدْ جَارَى
أَحْمَدُ بْنُ الْمُنِيرِ صَاحِبَ الْكَشَّافِ عَلَى جَعْلِ شُبْهَةِ الْمُشْرِكِينَ عَيْنَ شُبْهَةِ
الْمُجْبِرَةِ ، ثُمَّ جَعَلَ الْآيَتَيْنِ مُبْطِلَتَيْنِ لِمَذْهَبَيِ
الْمُعْتَزِلَةِ وَالْمُجْبِرَةِ جَمِيعًا ، فَقَالَ فِي الِانْتِصَافِ مَا نَصُّهُ : قَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ وَأَوْضَحْنَا أَنَّ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا كَانَ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ مَسْلُوبُونَ اخْتِيَارَهُمْ وَقُدْرَتَهُمْ ، وَأَنَّ إِشْرَاكَهُمْ إِنَّمَا صَدَرَ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الِاضْطِرَارِ ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ يُقِيمُونَ الْحُجَّةَ عَلَى اللَّهِ وَرُسُلِهِ بِذَلِكَ ، فَرَدَّ اللَّهُ قَوْلَهُمْ وَكَذِبَهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ عَدَمَ الِاخْتِيَارِ لِأَنْفُسِهِمْ ، وَشَبَّهَهُمْ بِمَنِ اغْتَرَّ قَبْلَهُمْ بِهَذَا الْخَيَالِ فَكَذَّبَ الرُّسُلَ وَأَشْرَكَ بِاللَّهِ ، وَاعْتَمَدَ عَلَى أَنَّهُ
[ ص: 159 ] إِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَرَامَ إِفْحَامَ الرُّسُلِ بِهَذِهِ الشُّبْهَةِ ، ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ ، وَأَنَّ الْحُجَّةَ الْبَالِغَةَ لَهُ لَا لَهُمْ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=149قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ) ثُمَّ أَوْضَحَ تَعَالَى أَنَّ كُلًّا وَاقِعٌ بِمَشِيئَتِهِ ، وَأَنَّهُ لَمْ يَشَأْ مِنْهُمْ إِلَّا مَا صَدَرَ عَنْهُمْ ، وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ مِنْهُمُ الْهِدَايَةَ لَاهْتَدَوْا أَجْمَعُونَ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=149فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَتَمَحَضَّ وَجْهُ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَتَتَلَخَّصَ عَقِيدَةُ نُفُوذِ الْمَشِيئَةِ وَعُمُومِ تَعَلُّقِهَا بِكُلِّ كَائِنٍ عَنِ الرَّدِّ وَيَنْصَرِفَ الرَّدُّ إِلَى دَعْوَاهُمْ بِسَلْبِ الِاخْتِيَارِ لِأَنْفُسِهِمْ وَإِلَى إِقَامَتِهِمُ الْحُجَّةَ بِذَلِكَ . وَإِذَا تَدَبَّرْتَ هَذِهِ وَجَدْتَهَا كَافِيَةً فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28778الْعَبْدَ لَا اخْتِيَارَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ أَلْبَتَّةَ ، بَلْ هُوَ مَجْبُورٌ عَلَى أَفْعَالِهِ مَقْهُورٌ عَلَيْهَا ، وَهُمُ الْفِرْقَةُ الْمَعْرُوفُونَ
بِالْمُجْبِرَةِ ، وَالْمُصَنِّفُ يُغَالِطُ فِي الْحَقَائِقِ فَيُسَمِّي أَهْلَ السُّنَّةِ
مُجْبِرَةً وَإِنْ أَثْبَتُوا لِلْعَبْدِ اخْتِيَارًا وَقُدْرَةً ; لِأَنَّهُمْ يَسْلُبُونَ تَأْثِيرَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ وَيَجْعَلُونَهَا مُقَارِنَةً لِأَفْعَالِهِ الِاخْتِيَارِيَّةِ ، مُمَيِّزَةً بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَفْعَالِهِ الْقَسْرِيَّةِ ، فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ سِوَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
الْمُجْبِرَةِ وَيَجْعَلُهُ لَقَبًا عَامًّا لِأَهْلِ السُّنَّةِ ، وَجِمَاعُ الرَّدِّ عَلَى
الْمُجْبِرَةِ الَّذِينَ مَيَّزْنَاهُمْ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=148سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ) إِلَى قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=149قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ) وَتَتِمَّةُ الْآيَةِ رَدٌّ صُرَاحٌ عَلَى طَائِفَةِ الِاعْتِزَالِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَاءَ الْهِدَايَةَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ فَلَمْ تَقَعْ مِنْ أَكْثَرِهِمْ ، وَوَجْهُ الرَّدِّ أَنَّ ( لَوْ ) إِذَا دَخَلَتْ عَلَى فِعْلٍ مُثْبَتٍ نَفَتْهُ ، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ : ( فَلَوْ شَاءَ ) لَمْ يَكُنِ الْوَاقِعُ أَنَّهُ شَاءَ هِدَايَتَهُمْ ، وَلَوْ شَاءَهَا لَوَقَعَتْ . فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِبُطْلَانِ زَعْمِهِمْ وَمَحَلِّ عَقْدِهِمْ ، فَإِذَا ثَبَتَ اشْتِمَالُ الْآيَةِ عَلَى رَدِّ عَقِيدَةِ الطَّائِفَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ :
الْمُجْبِرَةِ فِي أَوَّلِهَا ،
وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي آخِرِهَا ، فَاعْلَمْ أَنَّهَا جَامِعَةٌ لِعَقِيدَةِ السُّنَّةِ مُنْطَبِقَةٌ عَلَيْهَا ; فَإِنَّ أَوَّلَهَا كَمَا بَيَّنَّا يُثْبِتُ لِلْعَبْدِ اخْتِيَارًا وَقُدْرَةً عَلَى وَجْهٍ يَقْطَعُ حُجَّتَهُ وَعُذْرَهُ فِي الْمُخَالَفَةِ وَالْعِصْيَانِ ، وَآخِرُهَا يُثْبِتُ نُفُوذَ مَشِيئَةِ اللَّهِ فِي الْعَبْدِ ، وَأَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِهِ عَلَى وَفْقِ الْمَشِيئَةِ الْإِلَهِيَّةِ خَيْرًا أَوْ غَيْرَهُ ، وَذَلِكَ عَيْنُ عَقِيدَتِهِمْ . فَإِنَّهُمْ كَمَا يُثْبِتُونَ لِلْعَبْدِ مَشِيئَةً وَقُدْرَةً يَسْلُبُونَ تَأْثِيرَهُمَا وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ ثُبُوتَهُمَا قَاطِعٌ لِحُجَّتِهِ ، مُلْزِمٌ لَهُ بِالطَّاعَةِ عَلَى وَفْقِ اخْتِيَارِهِ ، وَيُثْبِتُونَ نُفُوذَ مَشِيئَةِ اللَّهِ أَيْضًا وَقُدْرَتَهُ فِي أَفْعَالِ عِبَادِهِ ، فَهُمْ كَمَا رَأَيْتَ تَبَعٌ لِلْكِتَابِ الْعَزِيزِ ، يُثْبِتُونَ مَا أَثْبَتَ وَيَنْفُونَ مَا نَفَى ، مُؤَيِّدُونَ بِالْعَقْلِ وَالنَّقْلِ ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ اهـ .
وَنَقُولُ : إِنَّهُ قَدْ أَجَادَ إِلَّا فِي زَعْمِهِ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ : أَنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ لَا تَأْثِيرَ لَهَا ، فَهَذَا مَذْهَبُ
الْأَشْعَرِيَّةِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ ، وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْأَثَرِ وَهُمْ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَبَعْضُ مُحَقِّقِي
الْأَشَاعِرَةِ nindex.php?page=showalam&ids=12441كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ : أَنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ مُؤَثِّرَةٌ فِي عَمَلِهِ كَتَأْثِيرِ سَائِرِ الْأَسْبَابِ فِي الْمُسَبِّبَاتِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ
[ ص: 160 ] الَّذِي رَبَطَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ ، كَمَا هُوَ ثَابِتٌ بِالْحِسِّ وَالْوُجْدَانِ وَالْقُرْآنِ ، وَأَطَالَ الْمُحَقِّقُ
ابْنُ الْقَيِّمِ فِي إِثْبَاتِهِ فِي شِفَاءِ الْعَلِيلِ وَغَيْرِهِ .