(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=154ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=155وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=156أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=157أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون )
[ ص: 177 ] كانت الوصايا العشر في الآيات الثلاث التي قبل هذه الآيات من حجج الله الأدبية على حقية دينه القويم ، ووجوب اتباع صراطه المستقيم ، قفى بها على ما قبلها من الحجج العقلية على أصول هذا الدين ، ودحض شبهات المعاندين والممترين ، ولما كملت بذلك حجج السورة وبيناتها حسن أن ينبه هنا على مكانة القرآن في جملة من الهداية ووجوب اتباعه ، وإعذار المشركين بما يعملون به أنه لن يكون لهم عذر عند الله تعالى على ضلالهم بالجهل وعدم إرسال رسول إذا هم لم يتبعوه . وقد افتتح هذا التنبيه والتذكير والإعذار بذكر ما يشبه القرآن في شرعه ومنهاجه مما اشتهر عند مشركي العرب ، وهو كتاب
موسى عليه السلام فقال عز وجل :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=154nindex.php?page=treesubj&link=28977_31908_31942_31912ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون ) سبق في هذه السورة وغيرها الجمع بين ذكر التوراة والقرآن للتذكير بالتشابه بينهما ; لأن العرب كانوا يعلمون أن
اليهود المجاورين لهم
أهل كتاب اسمه التوراة ، ولهم رسول اسمه
موسى ، وأنهم أهل علم وشريعة ، وكان بعض عقلائهم يتمنى لو يؤتى العرب مثلما أوتي
اليهود ويقولون : إنه لو جاءهم كتاب مثل كتابهم لكانوا أهدى منهم وأعظم انتفاعا ; لما يعتقدون من امتيازهم عليهم بالذكاء والعقل وعلو الهمة .
ولكن اختلف المفسرون في بدء هذه الآية بـ ( ثم ) التي تدل على تأخر ما عطف بها عما عطف عليه . فذهب
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير إلى أن عطف على : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=151قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ) بحذف ( قل ) والتقدير : قل أيها الرسول لهؤلاء الناس : تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ووصاكم به وهو كذا وكذا - ثم قل لهم وأعلمهم أننا آتينا
موسى الكتاب إلخ . وذهب
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري إلى أنه عطف على ( وصاكم ) بطريق الالتفات بناء على أن هذه الوصايا قديمة وصى الله بها جميع الأمم على ألسنة أنبيائها . والتقدير : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=151ذلكم وصاكم به ) على ألسنة الرسل (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=154ثم آتينا موسى الكتاب ) وهو أبعد في نظم الكلام مما قبله ، ويمكن إيضاحه بأن
nindex.php?page=treesubj&link=31908_31942موسى أعطي الكتاب - بعد الوصايا العشر التي بمعنى هذه الوصايا - فيه تفصيل أحكام العبادات والمعاملات الشرعية ، كما أن أحكام القرآن التفصيلية تجيء بعد هذه الوصايا في السور المدنية - وحكى الحافظ
ابن كثير رأي الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير وتعقبه بأن فيه نظرا ، وقال : إن ( ثم ) هاهنا إنما هي لعطف الخبر بعد الخبر لا للترتيب كما قال الشاعر :
قل لمن ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جده
وهاهنا لما أخبر الله سبحانه عن القرآن بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=153وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ) عطف بمدح التوراة ، وكثيرا ما يقرن سبحانه بين الكتابين
[ ص: 178 ] كقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=12ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا ) ( 46 : 12 ) وقوله أول هذه السورة : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=91قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس ) ( 91 ) وبعدها (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=92وهذا كتاب أنزلناه مبارك ) الآية . انتهى المراد منه . وقد أورد شواهد أخرى من الآيات في هذه المقارنة .
فهذا أحسن ما قيل في هذا العطف وكونه بـ ( ثم ) لخصناه بأقرب تصوير ، وقد نقل المفسرون الذين جاءوا بعد هؤلاء أقوالهم بتصرف ، جعلها في غاية التكلف ، كما نقل
ابن كثير قول
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير بإيجاز مخل لا يتبين به مراده ، وقال : إن فيه نظرا . ولم يبين وجهه ، وإنما رجح أن ( ثم ) لعطف الخبر على الخبر ، أي لا لعطف الإنشاء على الإنشاء كما جعلها
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير . وفيه أن عطف الخبر بثم يراعى فيه الترتيب كما يراعى في عطف الإنشاء وعطف المفرد ، ولكن الترتيب قد يكون بحسب الزمان ، وقد يكون بحسب الذكر والانتقال من شيء إلى آخر كما قالوه في تفسير قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=6خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها ) ( 39 : 6 ) والبيت الذي ذكره فيه ترتيب لتسلسل السيادة في بيت الممدوح بطريق الترقي بكونها كانت قبله في الأب ثم قبله في الجد . وفيه أيضا أن جملة (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=154آتينا موسى الكتاب ) فعلية ، وجملة (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=153وأن هذا صراطي مستقيما ) فيها قراءتان ، فهي جملة اسمية على إحداهما وهي قراءة من كسر همزة " إن " ، وإنشائية على الأخرى وهي قراءة من فتحها كما تقدم ، فكيف جعل
ابن كثير عطف الجملة الفعلية عليها هو الصواب الذي لا مجال للنظر في صحته وفصاحته اللائقة بالتنزيل وجزم بأن عطف الجملة الإنشائية على مثلها فيه نظر مستغن عن البيان والتأويل ؟ والإنصاف أنه ليس في قول
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير وقفة لصاحب الذوق السليم إلا تقدير كلمة ( قل ) ولكن قرينته ظاهرة . وأن أحسن ما قاله
ابن كثير هو التذكير بما تكرر في القرآن من القران بينه وبين التوراة لما بينهما من التشابه في كون كل منهما شريعة كاملة ، والإنجيل والزبور ليسا كذلك ، بل أكثر الأول عظات وأمثال ، وأكثر الثاني ثناء ومناجاة .
ومن التشابه بين القرآن والتوراة أن هذه الوصايا التسع أو العشر في الآيات الثلاث ونظيرها في سورة الإسراء ، كانت من أول ما نزل
بمكة قبل تفصيل كل شيء من أحكام العبادات والمعاملات في السورة المدنية ، كما أن الوصايا العشر المشهورة كانت أول ما نزل على
موسى عليه السلام من أصول الدين قبل تفصيل سائر الأحكام المدنية ،
nindex.php?page=treesubj&link=28900_29568_28890ووصايا القرآن أجمع للمعاني ، فهي تبلغ العشرات إذا فصلت ، وقد روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=16850كعب الأحبار أن وصايا سورة الأنعام هنا عين وصايا التوراة . والصواب ما قلناه آنفا ونحن نذكر نص
[ ص: 179 ] وصايا التوراة من الفصل العشرين من سفر الخروج ليعرف به صحة قولنا وغش
كعب للمسلمين وهو :
" أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض
مصر من بيت العبودية ( 1 ) لا يكن لك آلهة أخرى أمامي ( 2 ) لا تصنع لك تمثالا منحوتا ولا صورة ما مما في السماء من فوق ، ولا ما في الأرض من تحت ، ولا ما في الماء من تحت الأرض لا تسجد لهن ولا تعبدهن ، لأني أنا الرب إلهك إله غيور أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي ، وأصنع إحسانا إلى ألوف من محبي وحافظي وصاياي ( 3 ) لا تنطق باسم الرب إلهك باطلا ، لأن الرب لا يبرئ من نطق باسمه باطلا ( 4 ) اذكر يوم السبت لتقدسه ، ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك ، وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك ، لا تصنع عملا ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك ، لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها ، واستراح في اليوم السابع ; لذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه ( 5 ) أكرم أباك وأمك لكي تطول أيامك على الأرض التي يعطيك الرب إلهك ( 6 ) لا تقتل ( 7 ) لا تزن ( 8 ) لا تسرق ( 9 ) لا تشهد على قريبك شهادة زور ( 10 ) لا تشته بيت قريبك لا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئا مما لقريبك " .
ولما كان جل هذه الوصايا وتلك هي أصول دين الله على ألسنة جميع رسله ، حكمنا بأن كلام الكشاف في تقديره العطف وجيه من جهة المعنى ، وإن كان الناظر إليه من جهة اللفظ وحده يعده تكلفا . ويؤيده قوله تعالى في سورة الشورى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=13شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ) ( 42 : 13 ) وليس الدين المشترك الذي شرعه الله تعالى موصيا به هؤلاء الرسل وغيرهم إلا التوحيد وأصول الفضائل والنهي عن كبائر الفواحش والمنكرات المذكورة .
ثم قال تعالى في نفس الآية : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=13أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) كما قال في آخر وصايا الأنعام : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=153ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) فبهذا التشابه يقوى كون الخطاب بالوصية لجميع البشر الذين بعث إليهم خاتم الرسل ، وكون المراد بها ما أشير إليه في آية الشورى .
وقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=154nindex.php?page=treesubj&link=28977تماما على الذي أحسن ) معناه آتينا
موسى الكتاب تماما للنعمة والكرامة على من أحسن في اتباعه واهتدى به ، كما قال في أواخر ما نزل من القرآن : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) ( 5 : 3 ) وقيل : إن المعنى آتيناه الكتاب تماما كاملا جامعا لما يحتاج إليه من الشريعة كقوله :
[ ص: 180 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=145وكتبنا له في الألواح من كل شيء ) ( 7 : 145 ) جزاء على إحسانه أو تماما على إحسانه - التقدير الأول
لابن كثير ، وجعله من قبيل قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=124وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما ) ( 2 : 124 ) وقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=24وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا ) ( 32 : 24 ) والثاني عزاه إلى
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير على جعل ( الذي ) مصدرية كقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=69وخضتم كالذي خاضوا ) ( 9 : 69 ) أي كخوضهم ، وقول
nindex.php?page=showalam&ids=82عبد الله بن رواحة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم :
وثبت الله ما آتاك من حسن في المرسلين ونصرا كالذي نصروا
وما قدرناه أولا أبعد عن التكلف .
وقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=154nindex.php?page=treesubj&link=28977وتفصيلا لكل شيء ) عام في بابه ، أي مفصلا لكل شيء من أحكام الشريعة كالعبادات والمعاملات المدنية والعقوبات والحرب (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=154وهدى ورحمة ) أي علما من أعلام الهداية وسببا من أسباب الرحمة لمن اهتدى به (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=154لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون ) أي آتاه الكتاب جامعا لما ذكر ليعد به قومه ، ويجعلهم محل الرجاء للإيمان بلقاء الله تعالى في دار كرامته التي أعدها للمؤمنين المهتدين بوحيه .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=155nindex.php?page=treesubj&link=28977وهذا كتاب أنزلناه مبارك ) أي وهذا القرآن الذي يتلى عليكم كتاب عظيم القدر فتنكيره للتعظيم - أنزلناه كما أنزلنا الكتاب على
موسى ، جامعا لكل أسباب الهداية الثابتة الدائمة النامية الزائدة على ما في كتاب
موسى ، فالمبارك من البركة ، وهي الزيادة والنماء في الخير ، قيل : إنها من بركة الماء ، وقيل : من برك البعير وقد بينا من قبل مزايا القرآن على غيره من الكتب الإلهية (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=155nindex.php?page=treesubj&link=28977فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون ) أي فاتبعوا ما هداكم إليه ، واتقوا ما نهاكم عنه وحذركم إياه لتكون رحمته تعالى مرجوة لكم في الدنيا والآخرة ، فإن الكتاب هدى ورحمة كما صرح به فيما يلي تعليلا لإنزاله .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=154ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=155وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=156أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=157أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ )
[ ص: 177 ] كَانَتِ الْوَصَايَا الْعَشْرُ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ حُجَجِ اللَّهِ الْأَدَبِيَّةِ عَلَى حَقِيَّةِ دِينِهِ الْقَوِيمِ ، وَوُجُوبِ اتِّبَاعِ صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ ، قَفَّى بِهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنَ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى أُصُولِ هَذَا الدِّينِ ، وَدَحْضِ شُبُهَاتِ الْمُعَانِدِينَ وَالْمُمْتَرِينَ ، وَلَمَّا كَمُلَتْ بِذَلِكَ حُجَجُ السُّورَةِ وَبَيِّنَاتُهَا حَسُنَ أَنْ يُنَبَّهَ هُنَا عَلَى مَكَانَةِ الْقُرْآنِ فِي جُمْلَةٍ مِنَ الْهِدَايَةِ وَوُجُوبِ اتِّبَاعِهِ ، وَإِعْذَارِ الْمُشْرِكِينَ بِمَا يَعْمَلُونَ بِهِ أَنَّهُ لَنْ يَكُونَ لَهُمْ عُذْرٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ضَلَالِهِمْ بِالْجَهْلِ وَعَدَمِ إِرْسَالِ رَسُولٍ إِذَا هُمْ لَمْ يَتَّبِعُوهُ . وَقَدِ افْتُتِحَ هَذَا التَّنْبِيهُ وَالتَّذْكِيرُ وَالْإِعْذَارُ بِذِكْرِ مَا يُشْبِهُ الْقُرْآنَ فِي شَرْعِهِ وَمِنْهَاجِهِ مِمَّا اشْتُهِرَ عِنْدَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ ، وَهُوَ كِتَابُ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=154nindex.php?page=treesubj&link=28977_31908_31942_31912ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ) سَبَقَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا الْجَمْعُ بَيْنَ ذِكْرِ التَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ لِلتَّذْكِيرِ بِالتَّشَابُهِ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ
الْيَهُودَ الْمُجَاوِرِينَ لَهُمْ
أَهْلُ كِتَابٍ اسْمُهُ التَّوْرَاةُ ، وَلَهُمْ رَسُولٌ اسْمُهُ
مُوسَى ، وَأَنَّهُمْ أَهْلُ عِلْمٍ وَشَرِيعَةٍ ، وَكَانَ بَعْضُ عُقَلَائِهِمْ يَتَمَنَّى لَوْ يُؤْتَى الْعَرَبُ مِثْلَمَا أُوتِيَ
الْيَهُودُ وَيَقُولُونَ : إِنَّهُ لَوْ جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِثْلُ كِتَابِهِمْ لَكَانُوا أَهْدَى مِنْهُمْ وَأَعْظَمَ انْتِفَاعًا ; لِمَا يَعْتَقِدُونَ مِنِ امْتِيَازِهِمْ عَلَيْهِمْ بِالذَّكَاءِ وَالْعَقْلِ وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ .
وَلَكِنِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي بَدْءِ هَذِهِ الْآيَةِ بِـ ( ثُمَّ ) الَّتِي تَدُلُّ عَلَى تَأَخُّرِ مَا عُطِفَ بِهَا عَمَّا عُطِفَ عَلَيْهِ . فَذَهَبَ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنُ جَرِيرٍ إِلَى أَنَّ عَطْفَ عَلَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=151قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ) بِحَذْفِ ( قُلْ ) وَالتَّقْدِيرُ : قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ النَّاسِ : تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ وَوَصَّاكُمْ بِهِ وَهُوَ كَذَا وَكَذَا - ثُمَّ قُلْ لَهُمْ وَأَعْلِمْهُمْ أَنَّنَا آتَيْنَا
مُوسَى الْكِتَابَ إِلَخْ . وَذَهَبَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى ( وَصَّاكُمْ ) بِطَرِيقِ الِالْتِفَاتِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْوَصَايَا قَدِيمَةٌ وَصَّى اللَّهُ بِهَا جَمِيعَ الْأُمَمِ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهَا . وَالتَّقْدِيرُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=151ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ ) عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=154ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ) وَهُوَ أَبْعَدُ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ مِمَّا قَبْلَهُ ، وَيُمْكِنُ إِيضَاحُهُ بِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=31908_31942مُوسَى أُعْطِيَ الْكِتَابَ - بَعْدَ الْوَصَايَا الْعَشْرِ الَّتِي بِمَعْنَى هَذِهِ الْوَصَايَا - فِيهِ تَفْصِيلُ أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ الشَّرْعِيَّةِ ، كَمَا أَنَّ أَحْكَامَ الْقُرْآنِ التَّفْصِيلِيَّةَ تَجِيءُ بَعْدَ هَذِهِ الْوَصَايَا فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ - وَحَكَى الْحَافِظُ
ابْنُ كَثِيرٍ رَأْيَ الْإِمَامِ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنِ جَرِيرٍ وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا ، وَقَالَ : إِنَّ ( ثُمَّ ) هَاهُنَا إِنَّمَا هِيَ لِعَطْفِ الْخَبَرِ بَعْدَ الْخَبَرِ لَا لِلتَّرْتِيبِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :
قُلْ لِمَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهُ
وَهَاهُنَا لَمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=153وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ) عَطْفٌ بِمَدْحِ التَّوْرَاةِ ، وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ الْكِتَابَيْنِ
[ ص: 178 ] كَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=12وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا ) ( 46 : 12 ) وَقَوْلِهِ أَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=91قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ) ( 91 ) وَبَعْدَهَا (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=92وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ) الْآيَةَ . انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ . وَقَدْ أَوْرَدَ شَوَاهِدَ أُخْرَى مِنَ الْآيَاتِ فِي هَذِهِ الْمُقَارَنَةِ .
فَهَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي هَذَا الْعَطْفِ وَكَوْنِهِ بِـ ( ثُمَّ ) لَخَّصْنَاهُ بِأَقْرَبِ تَصْوِيرٍ ، وَقَدْ نَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ الَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَ هَؤُلَاءِ أَقْوَالَهُمْ بِتَصَرُّفٍ ، جَعَلَهَا فِي غَايَةِ التَّكَلُّفِ ، كَمَا نَقَلَ
ابْنُ كَثِيرٍ قَوْلَ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنِ جَرِيرٍ بِإِيجَازٍ مُخِلٍّ لَا يَتَبَيَّنُ بِهِ مُرَادُهُ ، وَقَالَ : إِنَّ فِيهِ نَظَرًا . وَلَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَهُ ، وَإِنَّمَا رَجَّحَ أَنَّ ( ثُمَّ ) لِعَطْفِ الْخَبَرِ عَلَى الْخَبَرِ ، أَيْ لَا لِعَطْفِ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْإِنْشَاءِ كَمَا جَعَلَهَا
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنُ جَرِيرٍ . وَفِيهِ أَنَّ عَطْفَ الْخَبَرِ بِثُمَّ يُرَاعَى فِيهِ التَّرْتِيبُ كَمَا يُرَاعَى فِي عَطْفِ الْإِنْشَاءِ وَعَطْفِ الْمُفْرَدِ ، وَلَكِنَّ التَّرْتِيبَ قَدْ يَكُونُ بِحَسَبِ الزَّمَانِ ، وَقَدْ يَكُونُ بِحَسَبِ الذِّكْرِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ شَيْءٍ إِلَى آخَرَ كَمَا قَالُوهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=6خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) ( 39 : 6 ) وَالْبَيْتُ الَّذِي ذَكَرَهُ فِيهِ تَرْتِيبٌ لِتَسَلْسُلِ السِّيَادَةِ فِي بَيْتِ الْمَمْدُوحِ بِطَرِيقِ التَّرَقِّي بِكَوْنِهَا كَانَتْ قَبْلَهُ فِي الْأَبِ ثُمَّ قَبْلَهُ فِي الْجِدِّ . وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ جُمْلَةَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=154آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ) فِعْلِيَّةٌ ، وَجُمْلَةَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=153وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا ) فِيهَا قِرَاءَتَانِ ، فَهِيَ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ عَلَى إِحْدَاهُمَا وَهِيَ قِرَاءَةُ مَنْ كَسَرَ هَمْزَةَ " إِنَّ " ، وَإِنْشَائِيَّةٌ عَلَى الْأُخْرَى وَهِيَ قِرَاءَةُ مَنْ فَتَحَهَا كَمَا تَقَدَّمَ ، فَكَيْفَ جَعَلَ
ابْنُ كَثِيرٍ عَطْفَ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ عَلَيْهَا هُوَ الصَّوَابَ الَّذِي لَا مَجَالَ لِلنَّظَرِ فِي صِحَّتِهِ وَفَصَاحَتِهِ اللَّائِقَةِ بِالتَّنْزِيلِ وَجَزَمَ بِأَنَّ عَطْفَ الْجُمْلَةِ الْإِنْشَائِيَّةِ عَلَى مِثْلِهَا فِيهِ نَظَرٌ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْبَيَانِ وَالتَّأْوِيلِ ؟ وَالْإِنْصَافُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي قَوْلِ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنِ جَرِيرٍ وَقْفَةٌ لِصَاحِبِ الذَّوْقِ السَّلِيمِ إِلَّا تَقْدِيرُ كَلِمَةِ ( قُلْ ) وَلَكِنَّ قَرِينَتَهُ ظَاهِرَةٌ . وَأَنَّ أَحْسَنَ مَا قَالَهُ
ابْنُ كَثِيرٍ هُوَ التَّذْكِيرُ بِمَا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْقِرَانِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْرَاةِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّشَابُهِ فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا شَرِيعَةً كَامِلَةً ، وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ لَيْسَا كَذَلِكَ ، بَلْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِ عِظَاتٌ وَأَمْثَالٌ ، وَأَكْثَرُ الثَّانِي ثَنَاءٌ وَمُنَاجَاةٌ .
وَمِنَ التَّشَابُهِ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ أَنَّ هَذِهِ الْوَصَايَا التِّسْعَ أَوِ الْعَشْرَ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ وَنَظِيرِهَا فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ ، كَانَتْ مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ
بِمَكَّةَ قَبْلَ تَفْصِيلِ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ فِي السُّورَةِ الْمَدَنِيَّةِ ، كَمَا أَنَّ الْوَصَايَا الْعَشْرَ الْمَشْهُورَةَ كَانَتْ أَوَّلَ مَا نَزَلَ عَلَى
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ قَبْلَ تَفْصِيلِ سَائِرِ الْأَحْكَامِ الْمَدَنِيَّةِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=28900_29568_28890وَوَصَايَا الْقُرْآنِ أَجْمَعُ لِلْمَعَانِي ، فَهِيَ تَبْلُغُ الْعَشَرَاتِ إِذَا فُصِّلَتْ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=16850كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّ وَصَايَا سُورَةِ الْأَنْعَامِ هَنَا عَيْنُ وَصَايَا التَّوْرَاةِ . وَالصَّوَابُ مَا قُلْنَاهُ آنِفًا وَنَحْنُ نَذْكُرُ نَصَّ
[ ص: 179 ] وَصَايَا التَّوْرَاةِ مِنَ الْفَصْلِ الْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ لِيُعْرَفَ بِهِ صِحَّةُ قَوْلِنَا وَغِشُّ
كَعْبٍ لِلْمُسْلِمِينَ وَهُوَ :
" أَنَا الرَّبُّ إِلَهُكَ الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أَرْضِ
مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ ( 1 ) لَا يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي ( 2 ) لَا تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالًا مَنْحُوتًا وَلَا صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ ، وَلَا مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ تَحْتُ ، وَلَا مَا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ لَا تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلَا تَعْبُدْهُنَّ ، لِأَنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلَهُكَ إِلَهٌ غَيُّورٌ أَفْتَقِدُ ذُنُوبَ الْآبَاءِ فِي الْأَبْنَاءِ فِي الْجِيلِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ مِنْ مُبْغِضِيَّ ، وَأَصْنَعُ إِحْسَانًا إِلَى أُلُوفٍ مِنْ مُحِبِّيَّ وَحَافِظِي وَصَايَايَ ( 3 ) لَا تَنْطِقْ بِاسْمِ الرَّبِّ إِلَهِكَ بَاطِلًا ، لِأَنَّ الرَّبَّ لَا يُبَرِّئُ مَنْ نَطَقَ بِاسْمِهِ بَاطِلًا ( 4 ) اذْكُرْ يَوْمَ السَّبْتِ لِتُقَدِّسَهُ ، سِتَّةُ أَيَّامٍ تَعْمَلُ وَتَصْنَعُ جَمِيعَ عَمَلِكَ ، وَأَمَّا الْيَوْمُ السَّابِعُ فَفِيهِ سَبْتٌ لِلرَّبِّ إِلَهِكَ ، لَا تَصْنَعْ عَمَلًا مَا أَنْتَ وَابْنُكَ وَابْنَتُكَ وَعَبْدُكَ وَأَمَتُكَ وَبَهِيمَتُكَ وَنَزِيلُكَ الَّذِي دَاخِلَ أَبْوَابِكَ ، لِأَنَّ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ صَنَعَ الرَّبُّ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَالْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا ، وَاسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ ; لِذَلِكَ بَارَكَ الرَّبُّ يَوْمَ السَّبْتِ وَقَدَّسَهُ ( 5 ) أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ لِكَيْ تَطُولَ أَيَّامُكَ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلَهُكَ ( 6 ) لَا تَقْتُلْ ( 7 ) لَا تَزْنِ ( 8 ) لَا تَسْرِقْ ( 9 ) لَا تَشْهَدْ عَلَى قَرِيبِكَ شَهَادَةَ زُورٍ ( 10 ) لَا تَشْتَهِ بَيْتَ قَرِيبِكَ لَا تَشْتَهِ امْرَأَةَ قَرِيبِكَ وَلَا عَبْدَهُ وَلَا أَمَتَهُ وَلَا ثَوْرَهُ وَلَا حِمَارَهُ وَلَا شَيْئًا مِمَّا لِقَرِيبِكَ " .
وَلَمَّا كَانَ جُلُّ هَذِهِ الْوَصَايَا وَتِلْكَ هِيَ أُصُولَ دِينِ اللَّهِ عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ رُسُلِهِ ، حَكَمْنَا بِأَنَّ كَلَامَ الْكَشَّافِ فِي تَقْدِيرِهِ الْعَطْفُ وَجِيهٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى ، وَإِنْ كَانَ النَّاظِرُ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَحْدَهُ يُعِدُّهُ تَكَلُّفًا . وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّورَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=13شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ) ( 42 : 13 ) وَلَيْسَ الدِّينُ الْمُشْتَرَكُ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى مُوصِيًا بِهِ هَؤُلَاءِ الرُّسُلَ وَغَيْرَهُمْ إِلَّا التَّوْحِيدَ وَأُصُولَ الْفَضَائِلِ وَالنَّهْيَ عَنْ كَبَائِرِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ الْمَذْكُورَةِ .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي نَفْسِ الْآيَةِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=13أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) كَمَا قَالَ فِي آخِرِ وَصَايَا الْأَنْعَامِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=153وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) فَبِهَذَا التَّشَابُهِ يَقْوَى كَوْنُ الْخِطَابِ بِالْوَصِيَّةِ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ الَّذِينَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ خَاتَمُ الرُّسُلِ ، وَكَوْنُ الْمُرَادِ بِهَا مَا أُشِيرَ إِلَيْهِ فِي آيَةِ الشُّورَى .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=154nindex.php?page=treesubj&link=28977تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ ) مَعْنَاهُ آتَيْنَا
مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا لِلنِّعْمَةِ وَالْكَرَامَةِ عَلَى مَنْ أَحْسَنَ فِي اتِّبَاعِهِ وَاهْتَدَى بِهِ ، كَمَا قَالَ فِي أَوَاخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) ( 5 : 3 ) وَقِيلَ : إِنَّ الْمَعْنَى آتَيْنَاهُ الْكِتَابَ تَمَامًا كَامِلًا جَامِعًا لِمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ كَقَوْلِهِ :
[ ص: 180 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=145وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) ( 7 : 145 ) جَزَاءً عَلَى إِحْسَانِهِ أَوْ تَمَامًا عَلَى إِحْسَانِهِ - التَّقْدِيرُ الْأَوَّلُ
لِابْنِ كَثِيرٍ ، وَجَعَلَهُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=124وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) ( 2 : 124 ) وَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=24وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ) ( 32 : 24 ) وَالثَّانِي عَزَاهُ إِلَى
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنِ جَرِيرٍ عَلَى جَعْلِ ( الَّذِي ) مَصْدَرِيَّةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=69وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا ) ( 9 : 69 ) أَيْ كَخَوْضِهِمْ ، وَقَوْلِ
nindex.php?page=showalam&ids=82عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ فِي مَدْحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
وَثَبَّتَ اللَّهُ مَا آتَاكَ مِنْ حُسْنٍ فِي الْمُرْسَلِينَ وَنَصْرًا كَالَّذِي نُصِرُوا
وَمَا قَدَّرْنَاهُ أَوَّلًا أَبْعَدُ عَنِ التَّكَلُّفِ .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=154nindex.php?page=treesubj&link=28977وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ ) عَامٌّ فِي بَابِهِ ، أَيْ مُفَصِّلًا لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ كَالْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْمَدَنِيَّةِ وَالْعُقُوبَاتِ وَالْحَرْبِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=154وَهُدًى وَرَحْمَةً ) أَيْ عَلَمًا مِنْ أَعْلَامِ الْهِدَايَةِ وَسَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الرَّحْمَةِ لِمَنِ اهْتَدَى بِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=154لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ) أَيْ آتَاهُ الْكِتَابَ جَامِعًا لِمَا ذَكَرَ لِيَعِدَ بِهِ قَوْمَهُ ، وَيَجْعَلَهُمْ مَحَلَّ الرَّجَاءِ لِلْإِيمَانِ بِلِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فِي دَارِ كَرَامَتِهِ الَّتِي أَعَدَّهَا لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُهْتَدِينَ بِوَحْيِهِ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=155nindex.php?page=treesubj&link=28977وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ) أَيْ وَهَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي يُتْلَى عَلَيْكُمْ كِتَابٌ عَظِيمُ الْقَدْرِ فَتَنْكِيرُهُ لِلتَّعْظِيمِ - أَنْزَلْنَاهُ كَمَا أَنْزَلْنَا الْكِتَابَ عَلَى
مُوسَى ، جَامِعًا لِكُلِّ أَسْبَابِ الْهِدَايَةِ الثَّابِتَةِ الدَّائِمَةِ النَّامِيَةِ الزَّائِدَةِ عَلَى مَا فِي كِتَابِ
مُوسَى ، فَالْمُبَارَكُ مِنَ الْبَرَكَةِ ، وَهِيَ الزِّيَادَةُ وَالنَّمَاءُ فِي الْخَيْرِ ، قِيلَ : إِنَّهَا مِنْ بِرْكَةِ الْمَاءِ ، وَقِيلَ : مِنْ بَرْكِ الْبَعِيرِ وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ مَزَايَا الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=155nindex.php?page=treesubj&link=28977فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) أَيْ فَاتَّبِعُوا مَا هَدَاكُمْ إِلَيْهِ ، وَاتَّقُوا مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ وَحَذَّرَكُمْ إِيَّاهُ لِتَكُونَ رَحْمَتُهُ تَعَالَى مَرْجُوَّةً لَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، فَإِنَّ الْكِتَابَ هُدًى وَرَحْمَةٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِيمَا يَلِي تَعْلِيلًا لِإِنْزَالِهِ .