[ ص: 314 ] nindex.php?page=treesubj&link=31807مغزى القصة والعبرة فيها
قد بينا من قبل أن الله قص علينا خبر نشأتنا الأولى ، بما يبين لنا سنته تعالى في فطرتنا وما يجب علينا من شكره وطاعته في تزكيتها وتهذيب غرائزها ، وملخص هذه الآيات فيها مع ما يفسرها ويوضحها من السور الأخرى : أن الله تعالى خلق الإنسان ليكون خليفة له في الأرض ، وجعله مستعدا لعلم كل شيء فيها ، ولتسخير جميع ما فيها من القوة والمادة لمنافعه ليكون في ذلك مظهرا لأسمائه الحسنى ، وصفاته العلى ، وتعلقها بتدبير خلقه ومعاملتهم في الآخرة والأولى وأنه كان في نشأته الأولى في جنة من النعيم وراحة البال ، وأنه لاستعداده للأمور المتضادة ، التي يكون بها مظهرا للصفات المتقابلة ، كالضار والنافع ، والمنتقم والغافر ، كانت نفسه مستعدة للتأثير بالأرواح الملكية التي تجذبها إلى الحق والخير ، وبالأرواح الشيطانية التي تجذبها إلى الباطل والشر ، وأن عاقبة التأثر الأول سعادة الدارين بما تقبله طبيعة كل منهما ، وعاقبة الثاني شقاء الدارين بقدر ما يوجد من أسباب الشقاء فيهما ، ويحتاج البشر في ذلك إلى هداية الوحي الإلهي الهادية إلى اتقاء الأول والتعرض للآخر ، وهو ما بينه تعالى في سورة طه بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=123قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=124ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=124ونحشره يوم القيامة أعمى nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=125قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=126قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ) ( 20 : 123 - 126 ) ونحوه ما تقدم في سورة البقرة ، فهذا أثر الدين في الحفظ من شقاء الدنيا وهلاك الآخرة ، وكتاب الله حجة على من لا يصدق عليهم ذلك في حالهم ، ومن يفسرونه بما يخالف ذلك بأقوالهم .
وقد تقدم في تفسير القصة من سورة البقرة أن بعضهم جعلها تمثيلا لبيان هذه
nindex.php?page=treesubj&link=31825السنن والنواميس في فطرة البشر والشياطين ، على أن يكون المراد
بآدم نوع الإنسان الذي هو أصله ، كما تسمي العرب القبيلة باسم أصلها وجدها الأشهر فنقول فعلت
قريش كذا وكذا ، وقالت
تميم : كيت وكيت ، وتكون الجنة عبارة عن نعمة الحياة ، والشجرة عبارة عن الغريزة التي تثمر المعصية والمخالفة ، كما مثل كلمتي الكفر والإيمان بالشجرة الخبيثة والشجرة الطيبة ، ويكون الأمر بالخروج من الجنة أمر قدر وتكوين ، لا أمر تشريع وتكليف ، وقد شرح الأستاذ الإمام هذا التأويل شرحا بليغا يراجع هنالك ، والغرض المقصود منه لا يتوقف عليه وإنما هو أقرب إلى أذهان من يعسر إقناعهم بظواهر النصوص ولا تطمئن قلوبهم إلا بمثل هذا الضرب من البيان .
[ ص: 315 ] هذا ملخص مضمون القصة أو ملخص بقيتها ، وأما ملخص ما فيها من العبرة فهو أنه ينبغي لنا أن نعرف أنفسنا بغرائزها واستعدادها للكمال ، وما يعرض لها دونه من الموانع فيصرفها عنه إلى النقائص ، وأن أنفع ما يعيننا على تربيتها عهد الله إلينا بأن نعبده وحده ، وألا نعبد معه الشيطان ولا غيره ، وأن نذكره ولا ننساه فننسى أنفسنا ، ونغفل عن تزكيتها ، وصقلها بصقال التوبة كلما عرض لها من وسواس الشيطان ما يلوثها ، فإنه إن يترك صار صدأ وطبعا مفسدا لها ، وما أفسد أنفس البشر ودساها إلا غفلة عقولهم وبصائرهم عنها ، وتركها كالريشة في مهاب أهواء الشهوات ، ووساوس شياطين الضلالات ، فعلى العاقل أن يعرف قيمتها ، ويحرص عليها أشد من حرصه على ما عساه يملك من نفائس الجواهر ، وأعلاق الذخائر ، فإن حرصه على مثل هذا إنما يكون لأجلها ، وهو يبذله عند الضرورة في أحقر ما لا بد لها منه . وذلك بأن يطلب لها أقصى ما تسمو إليه همته من الكمال ، ويحاسبها كل يوم مرة أو أكثر على ما بذلت من السعي لذلك ، وعلى مكافحة ما يصدها عنه من الأهواء والوساوس ، وينصب الميزان القسط لما يشتبه عليها من الآراء والخواطر ، ليعرف كنه الحق والخير فيلتزمهما ، وأضدادهما من الشر والباطل فيجتنبهما . وليتدبر ما قفى به الكتاب العزيز على القصة من الوصايا في الآيات الآتية .
[ ص: 314 ] nindex.php?page=treesubj&link=31807مَغْزَى الْقِصَّةِ وَالْعِبْرَةُ فِيهَا
قَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّ اللَّهَ قَصَّ عَلَيْنَا خَبَرَ نَشْأَتِنَا الْأُولَى ، بِمَا يُبَيِّنُ لَنَا سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي فِطْرَتِنَا وَمَا يَجِبُ عَلَيْنَا مِنْ شُكْرِهِ وَطَاعَتِهِ فِي تَزْكِيَتِهَا وَتَهْذِيبِ غَرَائِزِهَا ، وَمُلَخَّصُ هَذِهِ الْآيَاتِ فِيهَا مَعَ مَا يُفَسِّرُهَا وَيُوَضِّحُهَا مِنَ السُّوَرِ الْأُخْرَى : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ لِيَكُونَ خَلِيفَةً لَهُ فِي الْأَرْضِ ، وَجَعَلَهُ مُسْتَعِدًّا لِعِلْمِ كُلِّ شَيْءٍ فِيهَا ، وَلِتَسْخِيرِ جَمِيعِ مَا فِيهَا مِنَ الْقُوَّةِ وَالْمَادَّةِ لِمَنَافِعِهِ لِيَكُونَ فِي ذَلِكَ مُظْهِرًا لِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى ، وَصِفَاتِهِ الْعُلَى ، وَتَعَلُّقِهَا بِتَدْبِيرِ خَلْقِهِ وَمُعَامَلَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى وَأَنَّهُ كَانَ فِي نَشْأَتِهِ الْأَوْلَى فِي جَنَّةٍ مِنَ النَّعِيمِ وَرَاحَةِ الْبَالِ ، وَأَنَّهُ لِاسْتِعْدَادِهِ لِلْأُمُورِ الْمُتَضَادَّةِ ، الَّتِي يَكُونُ بِهَا مُظْهِرًا لِلصِّفَاتِ الْمُتَقَابِلَةِ ، كَالضَّارِّ وَالنَّافِعِ ، وَالْمُنْتَقِمِ وَالْغَافِرِ ، كَانَتْ نَفْسُهُ مُسْتَعِدَّةً لِلتَّأْثِيرِ بِالْأَرْوَاحِ الْمَلَكِيَّةِ الَّتِي تَجْذِبُهَا إِلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ ، وَبِالْأَرْوَاحِ الشَّيْطَانِيَّةِ الَّتِي تَجْذِبُهَا إِلَى الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ ، وَأَنَّ عَاقِبَةَ التَّأَثُّرِ الْأَوَّلِ سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ بِمَا تَقْبَلُهُ طَبِيعَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا ، وَعَاقِبَةُ الثَّانِي شَقَاءُ الدَّارَيْنِ بِقَدْرِ مَا يُوجَدُ مِنْ أَسْبَابِ الشَّقَاءِ فِيهِمَا ، وَيَحْتَاجُ الْبَشَرُ فِي ذَلِكَ إِلَى هِدَايَةِ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ الْهَادِيَةِ إِلَى اتِّقَاءِ الْأَوَّلِ وَالتَّعَرُّضِ لِلْآخَرِ ، وَهُوَ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ طَهَ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=123قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هَدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=124وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=124وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=125قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=126قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) ( 20 : 123 - 126 ) وَنَحْوِهِ مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، فَهَذَا أَثَرُ الدِّينِ فِي الْحِفْظِ مِنْ شَقَاءِ الدُّنْيَا وَهَلَاكِ الْآخِرَةِ ، وَكِتَابُ اللَّهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَا يُصَدِّقُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فِي حَالِهِمْ ، وَمَنْ يُفَسِّرُونَهُ بِمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ بِأَقْوَالِهِمْ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْقِصَّةِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ بَعْضَهُمْ جَعَلَهَا تَمْثِيلًا لِبَيَانِ هَذِهِ
nindex.php?page=treesubj&link=31825السُّنَنِ وَالنَّوَامِيسِ فِي فِطْرَةِ الْبَشَرِ وَالشَّيَاطِينِ ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ
بِآدَمَ نَوْعَ الْإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ أَصْلُهُ ، كَمَا تُسَمِّي الْعَرَبُ الْقَبِيلَةَ بِاسْمِ أَصْلِهَا وَجَدِّهَا الْأَشْهَرِ فَنَقُولُ فَعَلَتْ
قُرَيْشٌ كَذَا وَكَذَا ، وَقَالَتْ
تَمِيمٌ : كَيْتَ وَكَيْتَ ، وَتَكُونُ الْجَنَّةُ عِبَارَةً عَنْ نِعْمَةِ الْحَيَاةِ ، وَالشَّجَرَةُ عِبَارَةً عَنِ الْغَرِيزَةِ الَّتِي تُثْمِرُ الْمَعْصِيَةَ وَالْمُخَالَفَةَ ، كَمَا مَثَّلَ كَلِمَتَيِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ بِالشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ وَالشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْجَنَّةِ أَمْرَ قَدَرٍ وَتَكْوِينٍ ، لَا أَمْرَ تَشْرِيعٍ وَتَكْلِيفٍ ، وَقَدْ شَرَحَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هَذَا التَّأْوِيلَ شَرْحًا بَلِيغًا يُرَاجَعُ هُنَالِكَ ، وَالْغَرَضُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى أَذْهَانِ مَنْ يَعْسُرُ إِقْنَاعُهُمْ بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ وَلَا تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ إِلَّا بِمِثْلِ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْبَيَانِ .
[ ص: 315 ] هَذَا مُلَخَّصُ مَضْمُونِ الْقِصَّةِ أَوْ مُلَخَّصُ بَقِيَّتِهَا ، وَأَمَّا مُلَخَّصُ مَا فِيهَا مِنَ الْعِبْرَةِ فَهُوَ أَنَّهُ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَعْرِفَ أَنْفُسَنَا بِغَرَائِزِهَا وَاسْتِعْدَادِهَا لِلْكَمَالِ ، وَمَا يَعْرِضُ لَهَا دُونَهُ مِنَ الْمَوَانِعِ فَيَصْرِفُهَا عَنْهُ إِلَى النَّقَائِصِ ، وَأَنَّ أَنْفَعَ مَا يُعِينُنَا عَلَى تَرْبِيَّتِهَا عَهْدُ اللَّهِ إِلَيْنَا بِأَنْ نَعْبُدَهُ وَحْدَهُ ، وَأَلَّا نَعْبُدَ مَعَهُ الشَّيْطَانَ وَلَا غَيْرَهُ ، وَأَنْ نَذْكُرَهُ وَلَا نَنْسَاهُ فَنَنْسَى أَنْفُسَنَا ، وَنَغْفُلُ عَنْ تَزْكِيَتِهَا ، وَصَقْلِهَا بِصِقَالِ التَّوْبَةِ كُلَّمَا عَرَضَ لَهَا مِنْ وَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ مَا يُلَوِّثُهَا ، فَإِنَّهُ إِنْ يُتْرَكْ صَارَ صَدَأً وَطَبْعًا مُفْسِدًا لَهَا ، وَمَا أَفْسَدَ أَنْفُسَ الْبَشَرِ وَدَسَّاهَا إِلَّا غَفْلَةُ عُقُولِهِمْ وَبَصَائِرِهِمْ عَنْهَا ، وَتَرْكُهَا كَالرِّيشَةِ فِي مَهَابِّ أَهْوَاءِ الشَّهَوَاتِ ، وَوَسَاوِسِ شَيَاطِينَ الضَّلَالَاتِ ، فَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ قِيمَتَهَا ، وَيَحْرِصَ عَلَيْهَا أَشَدَّ مِنْ حِرْصِهِ عَلَى مَا عَسَاهُ يَمْلِكُ مِنْ نَفَائِسِ الْجَوَاهِرِ ، وَأَعْلَاقِ الذَّخَائِرِ ، فَإِنَّ حِرْصَهُ عَلَى مِثْلِ هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ لِأَجْلِهَا ، وَهُوَ يَبْذُلُهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فِي أَحْقَرِ مَا لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ . وَذَلِكَ بِأَنْ يَطْلُبَ لَهَا أَقْصَى مَا تَسْمُو إِلَيْهِ هِمَّتُهُ مِنَ الْكَمَالِ ، وَيُحَاسِبُهَا كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً أَوْ أَكْثَرَ عَلَى مَا بَذَلَتْ مِنَ السَّعْيِ لِذَلِكَ ، وَعَلَى مُكَافَحَةِ مَا يَصُدُّهَا عَنْهُ مِنَ الْأَهْوَاءِ وَالْوَسَاوِسِ ، وَيَنْصُبُ الْمِيزَانَ الْقِسْطَ لِمَا يُشْتَبَهُ عَلَيْهَا مِنَ الْآرَاءِ وَالْخَوَاطِرِ ، لِيَعْرِفَ كُنْهَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ فَيَلْتَزِمَهُمَا ، وَأَضْدَادِهِمَا مِنَ الشَّرِّ وَالْبَاطِلِ فَيَجْتَنِبَهُمَا . وَلِيَتَدَبَّرَ مَا قَفَّى بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ عَلَى الْقِصَّةِ مِنَ الْوَصَايَا فِي الْآيَاتِ الْآتِيَةِ .