[ ص: 324 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=27nindex.php?page=treesubj&link=28978_28798_28796إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ) الجملة تعليل للنهي عن تمكين الشيطان مما يبغي من الفتنة ، وتأكيد للتحذير منه والتذكير بعداوته وضرره ، وذلك أنه يرانا هو وقبيله أي جنوده وذريته من شياطين الجن ولا نراهم ( وأصل القبيل : الجماعة كالقبيلة وخص بعضهم القبيلة بمن كان لهم أب واحد والقبيل أعم ) و ( حيث ) ظرف مكان ، أي يرونكم من حيث يكونون غير مرئيين منكم ، والضرر إذا جاء من حيث لا يرى كان خطره أكبر ، ووجوب العناية باتقائه أشد ، كاتقاء أسباب بعض الأدواء والأوبئة التي تثبت في هذا الزمان برؤية العينين بالمجهر - أي المرآة أو النظارة المكبرة للمرئيات - وهو أن لكل داء منها جنة من الديدان أو الهوام الخفية تنفذ إلى البدن بنقل الذباب أو البعوض أو القمل أو البراغيث ، أو مع الطعام أو الشراب أو الهواء ، فتتوالد وتنمى بسرعة عجيبة حتى تفسد على المرء رئته في داء السل ، وأمعاءه في الهيضة الوبائية ، ودمه في الطاعون والحميات الخبيثة ، وقد أشير في الحديث إلى سبب الطاعون فيما ورد من أنه من وخز الجن ، وإلى داء السل فيما ورد من تحول الغبار في الصدر إلى نسمة .
وفعل جنة الشياطين في أنفس البشر كفعل هذه الجنة التي يسميها الأطباء الميكروبات في أجسادهم ، وفي غيرها من أجسام الأحياء : تؤثر فيها من حيث لا ترى فتتقى . وإنما ينبغي للعقلاء أن يأخذوا في اتقاء ضررها بنصائح أطباء الأبدان - ولا سيما في أوقات الأوبئة - كاستعمال المطهرات الطبية والتوقي من شرب الماء الملوث بوصول شيء إليه مما يخرج من المصابين بالهيضة أو الحمى التيفوئيدية ، إلا أن يغلى ثم يحفظ في آنية نظيفة وغير ذلك . ولو كانوا يرون تلك الجنة بأعينهم كما يراها الأطباء بمجاهرهم لاتقوها من غير توصية بقدر طاقتهم . والوقاية نوعان : أحدهما اتخاذ الأسباب التي تمنع طروءها من الخارج ، كالذي تفعله الحكومات في المحاجر الصحية في ثغور البلاد ومداخلها ، أو في أمكنة بعيدة عنها كجزائر البحار للوقاية العامة للبلاد كلها . أو في بعض البلاد دون بعض ، ومثله ما يتخذه أهل البيوت لوقاية بيوتهم .
والنوع الثاني : تقوية الأبدان بالأغذية الجيدة والنظافة التامة لتقوى على منع فتك هذه الجنة فيها إذا وصلت إليها ، كما يتقى تولد السوس في حب الحصيد بتجفيفه ووضع بعض المواد الواقية فيه ، وكما يتقى وصول العث إلى الثياب الصوفية بمنع وصول الغبار إليها ، أو بوضع الدواء المسمى بالنفتالين بينها ، وهو يقتل العث برائحته .
كذلك يجب الأخذ بإرشاد طب الأنفس والأرواح في وقايتها من فتك جنة الشياطين فيها بالوسوسة التي تزين للناس الأباطيل والشرور المحرمة في هذا الطب لشدة ضررها - ولم يحرم الدين شيئا على الناس إلا لضرره وإفساده - فإن مداخلها في أنفسهم ، وتأثيرها في
[ ص: 325 ] قلوبهم وخواطرهم ، كدخول تلك في أجسادهم ، وتأثيرها في أعضائهم من حيث لا ترى واتقاؤها كاتقائها نوعان :
أحدهما :
nindex.php?page=treesubj&link=28678_29679_29674تقوية الأرواح بالإيمان بالله تعالى وصفاته ومراقبته ومناجاته وإخلاص العبادة له والتخلق بالأخلاق الكريمة والفضائل ، وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير حق ؛ حتى ترسخ فيه ملكات الخير ، وحب الحق ، وكراهة الباطل والشر - فحينئذ تبعد المناسبة بينها وبين تلك الأرواح الشيطانية التي تدعو إلى الباطل والشر فتبعد عنها ، ولا تطيق الدنو منها ، كما هو شأن العث مع الثوب المشبع برائحة النفتالين ، بل الجعل مع عطر الورد أو الياسمين ، وهؤلاء المتقون هم عباد الله المخلصون ، الذين ليس للشيطان عليهم من سلطان كما بينه تعالى بقوله في بيان هذه الحقائق الفطرية الواردة بأسلوب الخطاب بين الشيطان وبين الرب تبارك وتعالى من سورة الحجر : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=39قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ) ( 15 : 39 - 42 ) وقد تقدم هذا وأمثاله في تفسير القصة ، وهذا الصراط المستقيم في الآية هو سنته تعالى في الخلقة الروحية بأن الروح الكامل المهذب بالتقوى والإخلاص لا تؤثر فيه الوسوسة الشيطانية ولا تتمكن منه ، وهذا هو معنى نفي سلطان الشيطان عنه ، كما أن الميكروبات والهوام لا تجد لها مأوى في الأجساد النظيفة الطاهرة القوية .
والنوع الثاني - من هذه
nindex.php?page=treesubj&link=19874التقوى - ما يعالج به الوسواس بعد طروئه ، كما يعالج المرض بعد حدوثه بتأثير تلك الهوام الخفية فيه ، بالأدوية التي تقتلها وتمنع امتداد ضررها . وأول ما يجب في ذلك بعد التنبيه والتذكر لما حصل بسبب الوسوسة من فعل معصية أو ترك واجب ، أن تترك المعصية ويؤدى الواجب ويتوب العاصي كما تاب أبونا
آدم وزوجه عليهما السلام ، وأن يستعان على ذلك بذكر الله تعالى بالقلب والتضرع إليه باللسان كما فعل أبوانا بقولهما : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=23ربنا ظلمنا أنفسنا ) ( 23 ) الآية . وفاقا لما ذكرنا في معالجة الأمراض البدنية ، وسيأتي تفصيل القول في تأثير ذكر الله تعالى في معالجة الخواطر الرديئة والأفكار الباطلة التي تحدثها هذه الوسوسة في تفسير قوله تعالى في أواخر السورة : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=200وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=201إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ) ( 200 ، 201 ) ومنه ما ورد من الحديث الصحيح في
nindex.php?page=treesubj&link=31205فضل nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب رضي الله عنه من فرار الشيطان ، وكونه ما سلك فجا إلا سلك الشيطان فجا غيره .
[ ص: 326 ] قد سبق لنا بيان مثل هذا التشابه بين تأثير الأحياء الخفية المجتنة في الأجساد وفي الأنفس وقد أعدناه هنا مفصلا لقوة المناسبة ، ولتذكير المؤمنين بأقوى ما يردون به شبهات بعض الماديين الذين ينكرون وجود الجنة والشياطين ؛ لأنهم لا يرونهم ؛ أو لأن وجودهم بعيد عن النظريات والمألوفات عندهم ، على أن أرواحهم الخبيثة التي ينكرون وجودها أيضا هي أوسع الأوطان لهم ، ولو كان الاستدلال بعدم رؤية الشيء على عدم وجوده صحيحا وأصلا ينبغي للعقلاء الاعتماد عليه لما بحث عاقل في الدنيا عما في الوجود من المواد والقوى المجهولة ، ولما كشفت هذه الميكروبات التي ارتقت بها علوم الطب والجراحة إلى الدرجة التي وصلت إليها ، ولا تزال قابلة للارتقاء بكشف أمثالها ، ولما عرفت الكهرباء التي أحدث كشفها هذا التأثير العظيم في الحضارة ، ولو لم تكشف هذه الميكروبات وأخبر أمثالهم بها مخبر في القرون الخالية لعدوه مجنونا ، وجزموا باستحالة وجود أحياء لا ترى يوجد في نقطة الماء الصغيرة ألوف الألوف منها ، وأنها تدخل في الأبدان من خرطوم البعوضة أو البرغوث إلخ . كما أن ما يجزم به علماء الكهرباء من تأثيرها في تكوين العالم ، وما تعرفه الشعوب الكثيرة الآن من تخاطب الناس بها من البلاد البعيدة بآلات التلغراف والتليفون اللاسلكية - كله مما لم يكن يتصوره عقل وقد وقع بالفعل .
فإن كانوا يقولون : إن مقتضى العقل ألا يقبل أحد قول الأطباء في اتقاء ميكروبات الأمراض والأوبئة وفي المعالجة والتداوي منها إلا إذا رآها كما يرونها وثبت عنده ضررها كما ثبت عندهم - فإننا نعذرهم حينئذ في قولهم : إن من مقتضى العقل ألا يقبل أحد قول أطباء الأرواح وهم الرسل عليهم السلام وورثتهم من العلماء الهادين المرشدين في اتقاء تأثير وسوسة الشياطين ، وفي التوبة من سوء تأثيرها بارتكاب المعاصي والشرور - وحينئذ يكون هذا العقل المادي المألوف قاضيا على أصحابه المساكين بفساد أبدانهم وأرواحهم جميعا .
فإن قيل : إن الأطباء قد ثبتت فائدة طبهم وأدويتهم بالتجربة فوجبت عليهم طاعتهم والتسليم لهم بما يقولون - قلنا : إن فائدة طب الأنبياء وورثتهم في هداية الناس وتهذيب أخلاقهم وصلاح أعمالهم أشد ثبوتا ، ولكن هؤلاء الماديين على ضعف عقولهم يؤمنون بكل ما يقوله الأطباء . وإن لم يثبت عندهم بالرؤية ، ولا بنظريات الفكر ، فهم يجتهدون في حفظ أبدانهم من الجهة المادية ، ولكنهم يجهلون ما يجني عليهم كفرهم بالطب الروحي الديني في أرواحهم وأبدانهم جميعا ، فإن هذا الكفر يحصر همهم في التمتع باللذات الدنيوية فيسرفون فيها بما يضعف أبدانهم مهما تكن العناية بها عظيمة ، دع إفساد أخلاقهم وأرواحهم وما يجنيه عليهم وعلى أمتهم وعلى البشر جميعا ، وناهيك بمضار ما يستحلونه من السكر والزنا والقمار وما يستبيحونه من الخيانة للأمة في هذه السبيل ، فلو كان الخونة الذين يتخذهم الأجانب
[ ص: 327 ] أعوانا لهم على استعباد أمتهم مؤمنين ، معتصمين بتقوى الله وهدي كتبه ورسله من الطمع وحب الرياسة بالباطل وغير ذلك مما حرمه الله تعالى ، لما خانوا الله وخانوا أمانة أمتهم وأوطانهم اتباعا لشهواتهم ، وطمعا في تأثل الأموال والادخار لأولادهم (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=27يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=28واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم ) ( 8 : 27 ، 28 ) .
بل قال أعظم فيلسوف يحترمون عقله وعلمه : إن هذه الأفكار المادية التي تغلبت في
أوربة على الفضائل قد محت الحق من عقول أهلها ، فلا يعقلون منه إلا تحكيم القوة ، وستتخبط به الأمم ويتخبط بعضهم ببعض ليتبين من هو الأقوى فيكون سلطان العالم . هذا ما سمعه الأستاذ الإمام من الفيلسوف
هربرت سبنسر ( في10 أغسطس سنة 1903 ) وكتبه عنه ، وقد زادنا في روايته اللفظية له عنه ما يدل على أنه كان يتوقع هذه الحرب العامة الوحشية ، ويعدها من سيئات الأفكار المادية وضعف الفضيلة . وقد روينا ذلك عنه بالمعنى من فوائد أخرى في رحلتنا الأوربية ( ج 3 م 23 من المنار ) .
[ ص: 324 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=27nindex.php?page=treesubj&link=28978_28798_28796إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ) الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنْ تَمْكِينِ الشَّيْطَانِ مِمَّا يَبْغِي مِنَ الْفِتْنَةِ ، وَتَأْكِيدٌ لِلتَّحْذِيرِ مِنْهُ وَالتَّذْكِيرِ بِعَدَاوَتِهِ وَضَرَرِهِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَرَانَا هُوَ وَقَبِيلُهُ أَيْ جُنُودُهُ وَذُرِّيَّتُهُ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَلَا نَرَاهُمْ ( وَأَصْلُ الْقَبِيلِ : الْجَمَاعَةُ كَالْقَبِيلَةِ وَخَصَّ بَعْضُهُمُ الْقَبِيلَةَ بِمَنْ كَانَ لَهُمْ أَبٌ وَاحِدٌ وَالْقَبِيلُ أَعَمُّ ) وَ ( حَيْثُ ) ظَرْفُ مَكَانٍ ، أَيْ يَرَوْنَكُمْ مِنْ حَيْثُ يَكُونُونَ غَيْرَ مَرْئِيِّينَ مِنْكُمْ ، وَالضَّرَرُ إِذَا جَاءَ مِنْ حَيْثُ لَا يُرَى كَانَ خَطَرُهُ أَكْبَرَ ، وَوُجُوبُ الْعِنَايَةِ بِاتِّقَائِهِ أَشَدَّ ، كَاتِّقَاءِ أَسْبَابِ بَعْضِ الْأَدْوَاءِ وَالْأَوْبِئَةِ الَّتِي تَثْبُتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِرُؤْيَةِ الْعَيْنَيْنِ بِالْمِجْهَرِ - أَيِ الْمِرْآةِ أَوِ النَّظَّارَةِ الْمُكَبِّرَةِ لِلْمَرْئِيَّاتِ - وَهُوَ أَنَّ لِكُلِّ دَاءٍ مِنْهَا جِنَّةً مِنَ الدِّيدَانِ أَوِ الْهَوَامِّ الْخَفِيَّةِ تَنْفُذُ إِلَى الْبَدَنِ بِنَقْلِ الذُّبَابِ أَوِ الْبَعُوضِ أَوِ الْقَمْلِ أَوِ الْبَرَاغِيثِ ، أَوْ مَعَ الطَّعَامِ أَوِ الشَّرَابِ أَوِ الْهَوَاءِ ، فَتَتَوَالَدُ وَتُنَمَّى بِسُرْعَةٍ عَجِيبَةٍ حَتَّى تُفْسِدَ عَلَى الْمَرْءِ رِئَتَهُ فِي دَاءِ السُّلِّ ، وَأَمْعَاءَهُ فِي الْهَيْضَةِ الْوَبَائِيَّةِ ، وَدَمَهُ فِي الطَّاعُونِ وَالْحُمَّيَاتِ الْخَبِيثَةِ ، وَقَدْ أُشِيرَ فِي الْحَدِيثِ إِلَى سَبَبِ الطَّاعُونِ فِيمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُ مِنْ وَخْزِ الْجِنِّ ، وَإِلَى دَاءِ السُّلِّ فِيمَا وَرَدَ مِنْ تَحَوُّلِ الْغُبَارِ فِي الصَّدْرِ إِلَى نَسَمَةٍ .
وَفِعْلُ جِنَّةِ الشَّيَاطِينِ فِي أَنْفُسِ الْبَشَرِ كَفِعْلِ هَذِهِ الْجِنَّةِ الَّتِي يُسَمِّيهَا الْأَطِبَّاءُ الْمَيَكْرُوبَاتِ فِي أَجْسَادِهِمْ ، وَفِي غَيْرِهَا مِنْ أَجْسَامِ الْأَحْيَاءِ : تُؤَثِّرُ فِيهَا مِنْ حَيْثُ لَا تُرَى فَتُتَّقَى . وَإِنَّمَا يَنْبَغِي لِلْعُقَلَاءِ أَنْ يَأْخُذُوا فِي اتِّقَاءِ ضَرَرِهَا بِنَصَائِحِ أَطِبَّاءِ الْأَبْدَانِ - وَلَا سِيَّمَا فِي أَوْقَاتِ الْأَوْبِئَةِ - كَاسْتِعْمَالِ الْمُطَهِّرَاتِ الطِّبِّيَّةِ وَالتَّوَقِّي مِنْ شُرْبِ الْمَاءِ الْمُلَوَّثِ بِوُصُولِ شَيْءٍ إِلَيْهِ مِمَّا يَخْرُجُ مِنَ الْمُصَابِينَ بِالْهَيْضَةِ أَوِ الْحُمَّى التَّيْفُوئِيدِيَّةِ ، إِلَّا أَنْ يُغْلَى ثُمَّ يُحْفَظَ فِي آنِيَةٍ نَظِيفَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَلَوْ كَانُوا يَرَوْنَ تِلْكَ الْجِنَّةَ بِأَعْيُنِهِمْ كَمَا يَرَاهَا الْأَطِبَّاءُ بِمُجَاهَرِهِمْ لَاتَّقَوْهَا مِنْ غَيْرِ تَوْصِيَةٍ بِقَدْرِ طَاقَتِهِمْ . وَالْوِقَايَةُ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا اتِّخَاذُ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَمْنَعُ طُرُوءَهَا مِنَ الْخَارِجِ ، كَالَّذِي تَفْعَلُهُ الْحُكُومَاتُ فِي الْمَحَاجِرِ الصِّحِّيَّةِ فِي ثُغُورِ الْبِلَادِ وَمَدَاخِلِهَا ، أَوْ فِي أَمْكِنَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْهَا كَجَزَائِرِ الْبِحَارِ لِلْوِقَايَةِ الْعَامَّةِ لِلْبِلَادِ كُلِّهَا . أَوْ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ دُونَ بَعْضٍ ، وَمِثْلُهُ مَا يَتَّخِذُهُ أَهْلُ الْبُيُوتِ لِوِقَايَةِ بُيُوتِهِمْ .
وَالنَّوْعُ الثَّانِي : تَقْوِيَةُ الْأَبْدَانِ بِالْأَغْذِيَةِ الْجَيِّدَةِ وَالنَّظَافَةِ التَّامَّةِ لِتَقْوَى عَلَى مَنْعِ فَتْكِ هَذِهِ الْجِنَّةِ فِيهَا إِذَا وَصَلَتْ إِلَيْهَا ، كَمَا يُتَّقَى تَوَلُّدُ السُّوسِ فِي حَبِّ الْحَصِيدِ بِتَجْفِيفِهِ وَوَضْعِ بَعْضِ الْمَوَادِّ الْوَاقِيَةِ فِيهِ ، وَكَمَا يُتَّقَى وُصُولُ الْعُثِّ إِلَى الثِّيَابِ الصُّوفِيَّةِ بِمَنْعِ وُصُولِ الْغُبَارِ إِلَيْهَا ، أَوْ بِوَضْعِ الدَّوَاءِ الْمُسَمَّى بِالنَّفْتَالِينِ بَيْنَهَا ، وَهُوَ يَقْتُلُ الْعُثَّ بِرَائِحَتِهِ .
كَذَلِكَ يَجِبُ الْأَخْذُ بِإِرْشَادِ طِبِّ الْأَنْفُسِ وَالْأَرْوَاحِ فِي وِقَايَتِهَا مِنْ فَتْكِ جِنَّةِ الشَّيَاطِينِ فِيهَا بِالْوَسْوَسَةِ الَّتِي تُزَيِّنُ لِلنَّاسِ الْأَبَاطِيلَ وَالشُّرُورَ الْمُحَرَّمَةَ فِي هَذَا الطِّبِّ لِشِدَّةِ ضَرَرِهَا - وَلَمْ يُحَرِّمِ الدِّينُ شَيْئًا عَلَى النَّاسِ إِلَّا لِضَرَرِهِ وَإِفْسَادِهِ - فَإِنَّ مَدَاخِلَهَا فِي أَنْفُسِهِمْ ، وَتَأْثِيرَهَا فِي
[ ص: 325 ] قُلُوبِهِمْ وَخَوَاطِرِهِمْ ، كَدُخُولِ تِلْكَ فِي أَجْسَادِهِمْ ، وَتَأْثِيرِهَا فِي أَعْضَائِهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا تُرَى وَاتِّقَاؤُهَا كَاتِّقَائِهَا نَوْعَانِ :
أَحَدُهُمَا :
nindex.php?page=treesubj&link=28678_29679_29674تَقْوِيَةُ الْأَرْوَاحِ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَمُرَاقَبَتِهِ وَمُنَاجَاتِهِ وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَالتَّخَلُّقِ بِالْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ وَالْفَضَائِلِ ، وَتَرْكِ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمِ وَالْبَغْيِ بِغَيْرِ حَقٍّ ؛ حَتَّى تَرْسُخَ فِيهِ مَلَكَاتُ الْخَيْرِ ، وَحُبُّ الْحَقِّ ، وَكَرَاهَةُ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ - فَحِينَئِذٍ تَبْعُدُ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ الشَّيْطَانِيَّةِ الَّتِي تَدْعُو إِلَى الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ فَتَبْعُدُ عَنْهَا ، وَلَا تُطِيقُ الدُّنُوَّ مِنْهَا ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْعُثِّ مَعَ الثَّوْبِ الْمُشَبَّعِ بِرَائِحَةِ النَّفْتَالِينِ ، بَلِ الْجُعَلِ مَعَ عِطْرِ الْوَرْدِ أَوِ الْيَاسَمِينِ ، وَهَؤُلَاءِ الْمُتَّقُونَ هُمْ عِبَادُ اللَّهِ الْمُخْلَصُونَ ، الَّذِينَ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْفِطْرِيَّةِ الْوَارِدَةِ بِأُسْلُوبِ الْخِطَابِ بَيْنَ الشَّيْطَانِ وَبَيْنَ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْحِجْرِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=39قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ) ( 15 : 39 - 42 ) وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا وَأَمْثَالُهُ فِي تَفْسِيرِ الْقِصَّةِ ، وَهَذَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ فِي الْآيَةِ هُوَ سُنَّتُهُ تَعَالَى فِي الْخِلْقَةِ الرُّوحِيَّةِ بِأَنَّ الرُّوحَ الْكَامِلَ الْمُهَذَّبَ بِالتَّقْوَى وَالْإِخْلَاصِ لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ الْوَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِيَّةُ وَلَا تَتَمَكَّنُ مِنْهُ ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى نَفْيِ سُلْطَانِ الشَّيْطَانِ عَنْهُ ، كَمَا أَنَّ الْمَيُكْرُوبَاتِ وَالْهَوَامَّ لَا تَجِدُ لَهَا مَأْوًى فِي الْأَجْسَادِ النَّظِيفَةِ الطَّاهِرَةِ الْقَوِيَّةِ .
وَالنَّوْعُ الثَّانِي - مِنْ هَذِهِ
nindex.php?page=treesubj&link=19874التَّقْوَى - مَا يُعَالَجُ بِهِ الْوَسْوَاسُ بَعْدَ طُرُوئِهِ ، كَمَا يُعَالَجُ الْمَرَضُ بَعْدَ حُدُوثِهِ بِتَأْثِيرِ تِلْكَ الْهَوَامِّ الْخَفِيَّةِ فِيهِ ، بِالْأَدْوِيَةِ الَّتِي تَقْتُلُهَا وَتَمْنَعُ امْتِدَادَ ضَرَرِهَا . وَأَوَّلُ مَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ التَّنْبِيهِ وَالتَّذَكُّرِ لِمَا حَصَلَ بِسَبَبِ الْوَسْوَسَةِ مِنْ فِعْلِ مَعْصِيَةٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ ، أَنْ تُتْرَكَ الْمَعْصِيَةُ وَيُؤَدَّى الْوَاجِبُ وَيَتُوبُ الْعَاصِي كَمَا تَابَ أَبُونَا
آدَمُ وَزَوْجُهُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ، وَأَنْ يُسْتَعَانَ عَلَى ذَلِكَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْقَلْبِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ بِاللِّسَانِ كَمَا فَعَلَ أَبَوَانَا بِقَوْلِهِمَا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=23رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا ) ( 23 ) الْآيَةَ . وَفَاقَا لِمَا ذَكَرْنَا فِي مُعَالَجَةِ الْأَمْرَاضِ الْبَدَنِيَّةِ ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي تَأْثِيرِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي مُعَالَجَةِ الْخَوَاطِرِ الرَّدِيئَةِ وَالْأَفْكَارِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي تُحْدِثُهَا هَذِهِ الْوَسْوَسَةُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَاخِرِ السُّورَةِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=200وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=201إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ) ( 200 ، 201 ) وَمِنْهُ مَا وَرَدَ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=31205فَضْلِ nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ فِرَارِ الشَّيْطَانِ ، وَكَوْنِهِ مَا سَلَكَ فَجًّا إِلَّا سَلَكَ الشَّيْطَانُ فَجًّا غَيْرَهُ .
[ ص: 326 ] قَدْ سَبَقَ لَنَا بَيَانُ مِثْلِ هَذَا التَّشَابُهِ بَيْنَ تَأْثِيرِ الْأَحْيَاءِ الْخَفِيَّةِ الْمُجْتَنَّةِ فِي الْأَجْسَادِ وَفِي الْأَنْفُسِ وَقَدْ أَعَدْنَاهُ هُنَا مُفَصَّلًا لِقُوَّةِ الْمُنَاسَبَةِ ، وَلِتَذْكِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَقْوَى مَا يَرُدُّونَ بِهِ شُبَهَاتِ بَعْضِ الْمَادِّيِّينَ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ وُجُودَ الْجِنَّةِ وَالشَّيَاطِينِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَهُمْ ؛ أَوْ لِأَنَّ وَجُودَهُمْ بَعِيدٌ عَنِ النَّظَرِيَّاتِ وَالْمَأْلُوفَاتِ عِنْدَهُمْ ، عَلَى أَنَّ أَرْوَاحَهُمُ الْخَبِيثَةَ الَّتِي يُنْكِرُونَ وَجُودَهَا أَيْضًا هِيَ أَوْسَعُ الْأَوْطَانِ لَهُمْ ، وَلَوْ كَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِعَدَمِ رُؤْيَةِ الشَّيْءِ عَلَى عَدَمِ وُجُودِهِ صَحِيحًا وَأَصْلًا يَنْبَغِي لِلْعُقَلَاءِ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ لَمَّا بَحَثَ عَاقِلٌ فِي الدُّنْيَا عَمَّا فِي الْوُجُودِ مِنَ الْمَوَادِّ وَالْقُوَى الْمَجْهُولَةِ ، وَلَمَا كُشِفَتْ هَذِهِ الْمَيُكْرُوبَاتُ الَّتِي ارْتَقَتْ بِهَا عُلُومُ الطِّبِّ وَالْجِرَاحَةِ إِلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي وَصَلَتْ إِلَيْهَا ، وَلَا تَزَالُ قَابِلَةً لِلِارْتِقَاءِ بِكَشْفِ أَمْثَالِهَا ، وَلَمَّا عُرِفَتِ الْكَهْرَبَاءُ الَّتِي أَحْدَثَ كَشْفُهَا هَذَا التَّأْثِيرَ الْعَظِيمَ فِي الْحَضَارَةِ ، وَلَوْ لَمْ تُكْشَفْ هَذِهِ الْمَيْكُرُوبَاتُ وَأَخْبَرَ أَمْثَالَهُمْ بِهَا مُخْبِرٌ فِي الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ لِعَدُّوهُ مَجْنُونًا ، وَجَزَمُوا بِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ أَحْيَاءٍ لَا تُرَى يُوجَدُ فِي نُقْطَةِ الْمَاءِ الصَّغِيرَةِ أُلُوفُ الْأُلُوفِ مِنْهَا ، وَأَنَّهَا تَدْخُلُ فِي الْأَبْدَانِ مِنْ خُرْطُومِ الْبَعُوضَةِ أَوِ الْبُرْغُوثِ إِلَخْ . كَمَا أَنَّ مَا يَجْزِمُ بِهِ عُلَمَاءُ الْكَهْرَبَاءِ مِنْ تَأْثِيرِهَا فِي تَكْوِينِ الْعَالَمِ ، وَمَا تَعْرِفُهُ الشُّعُوبُ الْكَثِيرَةُ الْآنَ مِنْ تَخَاطُبِ النَّاسِ بِهَا مِنَ الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ بِآلَاتِ التِّلِغْرَافِ وَالتِّلِيفُونِ اللَّاسِلْكِيَّةِ - كُلُّهُ مِمَّا لَمْ يَكُنْ يَتَصَوَّرُهُ عَقْلٌ وَقَدْ وَقَعَ بِالْفِعْلِ .
فَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ : إِنَّ مُقْتَضَى الْعَقْلِ أَلَّا يَقْبَلَ أَحَدٌ قَوْلَ الْأَطِبَّاءِ فِي اتِّقَاءِ مَيُكْرُوبَاتِ الْأَمْرَاضِ وَالْأَوْبِئَةِ وَفِي الْمُعَالَجَةِ وَالتَّدَاوِي مِنْهَا إِلَّا إِذَا رَآهَا كَمَا يَرَوْنَهَا وَثَبَتَ عِنْدَهُ ضَرَرُهَا كَمَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ - فَإِنَّنَا نَعْذُرُهُمْ حِينَئِذٍ فِي قَوْلِهِمْ : إِنَّ مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْلِ أَلَّا يَقْبَلَ أَحَدٌ قَوْلَ أَطِبَّاءِ الْأَرْوَاحِ وَهُمُ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَوَرَثَتُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْهَادِينَ الْمُرْشِدِينَ فِي اتِّقَاءِ تَأْثِيرِ وَسْوَسَةِ الشَّيَاطِينِ ، وَفِي التَّوْبَةِ مِنْ سُوءِ تَأْثِيرِهَا بِارْتِكَابِ الْمَعَاصِي وَالشُّرُورِ - وَحِينَئِذٍ يَكُونُ هَذَا الْعَقْلُ الْمَادِّيُّ الْمَأْلُوفُ قَاضِيًا عَلَى أَصْحَابِهِ الْمَسَاكِينِ بِفَسَادِ أَبْدَانِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ جَمِيعًا .
فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْأَطِبَّاءَ قَدْ ثَبَتَتْ فَائِدَةُ طِبِّهِمْ وَأَدْوِيَتِهِمْ بِالتَّجْرِبَةِ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِمْ طَاعَتُهُمْ وَالتَّسْلِيمُ لَهُمْ بِمَا يَقُولُونَ - قُلْنَا : إِنَّ فَائِدَةَ طِبِّ الْأَنْبِيَاءِ وَوَرَثَتِهِمْ فِي هِدَايَةِ النَّاسِ وَتَهْذِيبِ أَخْلَاقِهِمْ وَصَلَاحِ أَعْمَالِهِمْ أَشَدُّ ثُبُوتًا ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَادِّيِّينَ عَلَى ضَعْفِ عُقُولِهِمْ يُؤْمِنُونَ بِكُلِّ مَا يَقُولُهُ الْأَطِبَّاءُ . وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُمْ بِالرُّؤْيَةِ ، وَلَا بِنَظَرِيَّاتِ الْفِكْرِ ، فَهُمْ يَجْتَهِدُونَ فِي حِفْظِ أَبْدَانِهِمْ مِنَ الْجِهَةِ الْمَادِّيَّةِ ، وَلَكِنَّهُمْ يَجْهَلُونَ مَا يَجْنِي عَلَيْهِمْ كُفْرُهُمْ بِالطِّبِّ الرُّوحِيِّ الدِّينِيِّ فِي أَرْوَاحِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ جَمِيعًا ، فَإِنَّ هَذَا الْكُفْرَ يَحْصُرُ هَمَّهُمْ فِي التَّمَتُّعِ بِاللَّذَّاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَيُسْرِفُونَ فِيهَا بِمَا يُضْعِفُ أَبْدَانَهُمْ مَهْمَا تَكُنِ الْعِنَايَةُ بِهَا عَظِيمَةً ، دَعْ إِفْسَادَ أَخْلَاقِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ وَمَا يَجْنِيهِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أُمَّتِهِمْ وَعَلَى الْبَشَرِ جَمِيعًا ، وَنَاهِيكَ بِمَضَارِّ مَا يَسْتَحِلُّونَهُ مِنَ السُّكْرِ وَالزِّنَا وَالْقُمَارِ وَمَا يَسْتَبِيحُونَهُ مِنَ الْخِيَانَةِ لِلْأُمَّةِ فِي هَذِهِ السَّبِيلِ ، فَلَوْ كَانَ الْخَوَنَةُ الَّذِينَ يَتَّخِذُهُمُ الْأَجَانِبُ
[ ص: 327 ] أَعْوَانًا لَهُمْ عَلَى اسْتِعْبَادِ أُمَّتِهِمْ مُؤْمِنِينَ ، مُعْتَصِمِينَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَهَدْيِ كُتُبِهِ وَرُسُلِهِ مِنَ الطَّمَعِ وَحُبِّ الرِّيَاسَةِ بِالْبَاطِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، لَمَا خَانُوا اللَّهَ وَخَانُوا أَمَانَةَ أُمَّتِهِمْ وَأَوْطَانِهِمُ اتِّبَاعًا لِشَهَوَاتِهِمْ ، وَطَمَعًا فِي تَأَثُّلِ الْأَمْوَالِ وَالِادِّخَارِ لِأَوْلَادِهِمْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=27يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=28وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) ( 8 : 27 ، 28 ) .
بَلْ قَالَ أَعْظَمُ فَيْلَسُوفٍ يَحْتَرِمُونَ عَقْلَهُ وَعِلْمَهُ : إِنَّ هَذِهِ الْأَفْكَارَ الْمَادِّيَّةَ الَّتِي تَغَلَّبَتْ فِي
أُورُبَّةَ عَلَى الْفَضَائِلِ قَدْ مَحَتِ الْحَقَّ مِنْ عُقُولِ أَهْلِهَا ، فَلَا يَعْقِلُونَ مِنْهُ إِلَّا تَحْكِيمَ الْقُوَّةِ ، وَسَتَتَخَبَّطُ بِهِ الْأُمَمُ وَيَتَخَبَّطُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ لِيَتَبَيَّنَ مَنْ هُوَ الْأَقْوَى فَيَكُونُ سُلْطَانَ الْعَالَمِ . هَذَا مَا سَمِعَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنَ الْفَيْلَسُوفِ
هِرْبِرْتِ سِبِنْسَرْ ( فِي10 أَغُسْطُسَ سَنَةَ 1903 ) وَكَتَبَهُ عَنْهُ ، وَقَدْ زَادَنَا فِي رِوَايَتِهِ اللَّفْظِيَّةِ لَهُ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَتَوَقَّعُ هَذِهِ الْحَرْبَ الْعَامَّةَ الْوَحْشِيَّةَ ، وَيُعِدُّهَا مِنْ سَيِّئَاتِ الْأَفْكَارِ الْمَادِّيَّةِ وَضِعْفِ الْفَضِيلَةِ . وَقَدْ رَوَيْنَا ذَلِكَ عَنْهُ بِالْمَعْنَى مِنْ فَوَائِدَ أُخْرَى فِي رِحْلَتِنَا الْأُورُبِّيَّةِ ( ج 3 م 23 مِنَ الْمَنَارِ ) .