(
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=34nindex.php?page=treesubj&link=28978ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون )
هذه الآية الثالثة مما قفى به على النداء الثالث لبني
آدم ، ووجه وصلها بما قبلها أنه تعالى قد بين في الثانية مجامع المحرمات على بني
آدم ، وهي أصول المفاسد والمضار الشخصية والاجتماعية ، في إثر إباحة أصول المنافع من الزينة والطيبات النافعة لهم ، أو إيجابها بشرط عدم الإسراف فيها - وسبق هذه وتلك ما قفى به على النداء الثاني من بيان أصل الأصول لما أمر الله تعالى به عباده على ألسنة رسله ، وهو القسط والعدل في الآداب والأعمال ، وعبادة الله وحده بالإخلاص له في الدين وعقيدة البعث - ولما وصل ما هنالك بقسم الناس إلى فريقين
[ ص: 358 ] مهتدين وضالين - وصل ما هنا ببيان عاقبة الأمم في قبول هذه الأصول أو ردها ، والاستقامة على طريقتها بعد القبول أو الزيغ عنها ، فقال عز وجل :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=34ولكل أمة أجل ) هذا معطوف على مقول القول في الآية السابقة ، أي قل أيها الرسول : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=33إنما حرم ربي الفواحش ) إلخ دون ما حرمتم من النعم والمنافع بأهوائكم وجهالاتكم - وقل : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=34ولكل أمة أجل ) أي أمد مضروب لحياتها ، مقدر فيما وضع الخالق سبحانه من السنن لوجودها ، وهو على نوعين :
أحدهما : أجل من يبعث الله فيهم رسلا لهدايتهم فيردون دعوتهم كبرا وعنادا في الجحود ، ويقترحون عليهم الآيات فيعطونها مع إنذارهم بالهلاك إذا لم يؤمنوا بها فيكذبون فيهلكون ، وبهذا هلك أقوام
نوح وعاد وثمود وفرعون وإخوان
لوط وغيرهم . وهذا النوع من الهلاك كان خاصا بأقوام الرسل أولي الدعوة الخاصة لأقوامهم ، وقد انتهى ببعثة صاحب الدعوة العامة خاتم النبيين المخاطب بقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=107وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ( 21 : 107 ) لكن انتهاءه عند الله لا يمنع جعله إنذارا لقومه خاصة بهلاكهم إن أعطوا ما اقترحوه من الآيات إرضاء لعنادهم ، ليعلم أهل البصيرة بعد ذلك أن منعهم إياه إنما كان رحمة بهم وبغيرهم .
وقد مضت سنة الله في الأمم أن الجاحدين الذين يقترحون الآيات لا يؤمنون بها ، ولأجل هذا لم يعط الله تعالى رسوله شيئا مما كانوا يقترحونه عليه منها ، كما تقدم بيانه في سورة الأنعام وتفسيرها ، وهذا الأجل لم يكن يعلمه أحد إلا بعد أن يبينه تعالى على ألسنة الرسل .
والنوع الثاني : الأجل المقدر لحياة الأمم سعيدة عزيزة بالاستقلال ، التي تنتهي بالشقاء والمهانة أو الاستعباد والاستذلال ، إن لم تنته بالفناء والزوال ، وهذا النوع منوط بسنن الله تعالى في الاجتماع البشري والعمران ، وأسبابه محصورة في مخالفة هدي الآيات التي قبل هذه الآية ، بالإسراف في الزينة والتمتع بالطيبات ، وباقتراف الفواحش والآثام والبغي على الناس ، وبخرافات الشرك والوثنية التي ما أنزل بها من سلطان ، وبالكذب على الله بإرهاق الأمة بما لم يشرعه لها من الأحكام ، تحكما من رؤساء الدين عن تقليد أو اجتهاد . وذلك قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=11إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) ( 13 : 11 ) .
فما من أمة من الأمم العزيزة السعيدة ، ارتكبت هذه الضلالات والمفاسد المبيدة ، إلا سلبها الله سعادتها وعزها ، وسلط عليها من استذلها وسلب ملكها (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=102وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ) ( 11 : 102 ) .
وأمامنا
nindex.php?page=treesubj&link=32016تاريخ اليهود والرومان والفرس والعرب والترك وغيرهم ، منهم من سلب ملكه كله ، ومنهم من سلب بعضه أو أكثره ، ومن لم يرجع إلى رشده ، فإنه يسلب ما بقي له منه .
[ ص: 359 ] وهذا النوع من آجال الأمم - وإن عرفت أسبابه وسننه - لا يمكن لأحد أن يحدده بالسنين والأيام ، وهو محدد في علم الله تعالى بالساعات ، ولذلك قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=34فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) الساعة : في اللغة عبارة عن أقل مدة من الزمن ، والساعة الفلكية اصطلاح ، وهي جزء من 24 جزء من مجموع الليل والنهار . أي فإذا جاء أجل كل أمة كان عقابهم فيه لا يتأخرون عنه أقل تأخر ، كما أنهم لا يتقدمون عنه إذا لم يجيء ، أو لا يملكون طلب تأخيره كما أنهم لا يملكون طلب تقديمه ، وقد قالوا : إن " استقدم " ورد بمعنى قدم وأقدم وتقدم كما ورد " استجاب " بمعنى أجاب ، ومثله " استأخر " ، ولا يمنع هذا كون الأصل في السين والتاء للطلب أو مظنة للطلب ، والطلب قد يكون بالقول وقد يكون بالفعل ، فمن أتى سبب الشيء كان طالبا له بالفعل ، وإن كان غافلا عن استتباعه له ، فالأمة التي ترتكب أسباب الهلاك تكون طالبة له بلسان حالها واستعدادها ولابد أن يأتيها ؛ لأن هذا الطلب هو الذي لا يرد . ومفهوم الشرط هنا أن الأمة قد تملك طلب تأخير الهلاك قبل مجيء أجله ، أي قبل أن تغلبها على نفسها وعلى إرادتها أسباب الهلاك ، ذلك بأن تترك الفواحش والآثام ، والظلم والبغي ، والفساد في الأرض ، والإسراف في الترف المفسد للأخلاق ، وخرافات الشرك المفسدة للعقول والأعمال ، وكذا التكاليف التقليدية بتكثير ما ابتدع من العبادات والمحرمات ، التي لم يخاطب الرب بها العباد . والمراد : أن يكون الغالب على الأمة الصلاح لإصلاح جميع الأفراد .
فإن قيل : إنه قد جاء معنى هذه الآية بالجزم ، وغير مشروط بهذا الشرط ، في قوله تعالى من سورة الحجر : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=4وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ) ( 15 : 4 ، 5 ) قلنا : إن امتناع السبق والتأخر أو طلبه والسعي له هنا إنما هو بالنسبة إلى ما علمه الله تعالى وأثبته في كتاب مقادير العالم ، فإن علمه تعالى لا يتغير ، وسننه لا تتبدل ولا تتحول ، ولذلك يمتنع التأخير أو طلبه من طريق أسبابه إذا جاء الأجل بالفعل ، ولهذا أمثلة كثيرة في الحسن ، منها ما يمكن ضبطه بالتحديد ، ومنها ما يعلم بالتقريب . كقوة الحرارة وتأثيرها في الأجسام . وقوة المواد الضاغطة وما يترتب عليها من الانفجار ، كل منهما يضبط بحساب معلوم . ومنها مقدار الماء الذي يمسك وراء السدود كخزان
أسوان . فقوة السد ومقادير الماء وقوة ضغطه مقدرة بحساب . وكذا الماء والوقود الذي تسير به مراكب البر والبحر . والغاز المحرك للطيارات والمناطيد في الجو ، يمكن العلم بما تحتاج إليه كل مسافة منه ، والجزم بوقوف هذه المراكب بعد نفاده في الوقت المقدر له ، وكل عمل منظم بعلم صحيح ، يأتي فيه مثل هذا التقدير ، ويكون ضبطه وتحديده بقدر إحاطة العلم به ، مثل درجات الحرارة والرطوبة وسنن الضغط والجذب ، ككون جاذبية الثقل على نسبة
[ ص: 360 ] مربع البعد . ومما يكون التقدير فيه بالتقريب ، فيخطئ فيه المقدر ويصيب ، تقدير سير الأمراض المعروفة كالسل الرئوي ، فإن له درجات يسرع قطع المسلول لها ويبطئ بقدر قوة المناعة والمقاومة في جسمه وطرق المعالجة والتغذية والرياضة وما يتعلق بها من جودة الهواء وأشعة الشمس . وكم من مرض اتفق الأطباء على إمكان الشفاء منه قبل وصوله إلى الدرجة التي لا تنفع معها المعالجة وهم مصيبون في ذلك ، كالسرطان الذي يمكن استئصاله بعملية جراحية في وقت قريب ويتعذر في آخر .
وكذلك شأن الأمم ، قد يبلغ فيها الفساد درجة تستعصي فيها معالجته على أطباء الاجتماع ، ولكنها إذا تنبهت قبل انتشار الفساد فيها ، وتبريحه بزعمائها ودهمائها ، فقد يمكن أن يظهر فيها من أفراد المصلحين أو جماعاتهم من ينقذها فيرشدها إلى تغيير ما بأنفسها من الفساد فيغير الله ما بها ، وهو من استئخار الهلاك أو منعه عنها قبل مجيء أجلها .
وقد سبق حكيمنا العربي
ابن خلدون إلى الكلام في آجال الأمم وأعمال الدول ، وبيان ما يعرض لها من الهرم ، وكونه إذا وقع لا يرتفع ، فأصاب في بعض قوله وأخطأ في بعض ، ومما أخطأ فيه جعله عمر الدولة ثلاثة أجيال أي 120 سنة كالأجل الطبيعي للأفراد على تقدير بعض متقدمي الأطباء . ولو قال : عمر الدولة ثلاثة أيام من أيام الله . طفولية ، وبلوغ أشد ورشد ، وشيخوخة وهرم . ولم يقدرها بالسنين لسدد وقارب .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=34nindex.php?page=treesubj&link=28978وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ )
هَذِهِ الْآيَةُ الثَّالِثَةُ مِمَّا قَفَّى بِهِ عَلَى النِّدَاءِ الثَّالِثِ لِبَنِي
آدَمَ ، وَوَجْهُ وَصْلِهَا بِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ فِي الثَّانِيَةِ مَجَامِعَ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى بَنِي
آدَمَ ، وَهِيَ أُصُولُ الْمَفَاسِدِ وَالْمَضَارِّ الشَّخْصِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ ، فِي إِثْرِ إِبَاحَةِ أُصُولِ الْمَنَافِعِ مِنَ الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ النَّافِعَةِ لَهُمْ ، أَوْ إِيجَابِهَا بِشَرْطِ عَدَمِ الْإِسْرَافِ فِيهَا - وَسَبَقَ هَذِهِ وَتِلْكَ مَا قَفَّى بِهِ عَلَى النِّدَاءِ الثَّانِي مِنْ بَيَانِ أَصْلِ الْأُصُولِ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عِبَادَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ ، وَهُوَ الْقِسْطُ وَالْعَدْلُ فِي الْآدَابِ وَالْأَعْمَالِ ، وَعِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ بِالْإِخْلَاصِ لَهُ فِي الدِّينِ وَعَقِيدَةِ الْبَعْثِ - وَلَمَّا وَصَلَ مَا هُنَالِكَ بِقَسْمِ النَّاسِ إِلَى فَرِيقَيْنِ
[ ص: 358 ] مُهْتَدِينَ وَضَالِّينَ - وَصَلَ مَا هُنَا بِبَيَانِ عَاقِبَةِ الْأُمَمِ فِي قَبُولِ هَذِهِ الْأُصُولِ أَوْ رَدِّهَا ، وَالِاسْتِقَامَةُ عَلَى طَرِيقَتِهَا بَعْدَ الْقَبُولِ أَوِ الزَّيْغِ عَنْهَا ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=34وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ) هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى مَقُولِ الْقَوْلِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ ، أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=33إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ ) إِلَخْ دُونَ مَا حَرَّمْتُمْ مِنَ النِّعَمِ وَالْمَنَافِعِ بِأَهْوَائِكُمْ وَجَهَالَاتِكُمْ - وَقُلْ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=34وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ) أَيْ أَمَدٌ مَضْرُوبٌ لِحَيَاتِهَا ، مُقَدَّرٌ فِيمَا وَضَعَ الْخَالِقُ سُبْحَانَهُ مِنَ السُّنَنِ لِوُجُودِهَا ، وَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَجَلُ مَنْ يَبْعَثُ اللَّهُ فِيهِمْ رُسُلًا لِهِدَايَتِهِمْ فَيَرُدُّونَ دَعْوَتَهُمْ كِبْرًا وَعِنَادًا فِي الْجُحُودِ ، وَيَقْتَرِحُونَ عَلَيْهِمُ الْآيَاتِ فَيُعْطَوْنَهَا مَعَ إِنْذَارِهِمْ بِالْهَلَاكِ إِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا فَيُكَذِّبُونَ فَيَهْلَكُونَ ، وَبِهَذَا هَلَكَ أَقْوَامُ
نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ
لُوطٍ وَغَيْرُهُمْ . وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْهَلَاكِ كَانَ خَاصًّا بِأَقْوَامِ الرُّسُلِ أُولِي الدَّعْوَةِ الْخَاصَّةِ لِأَقْوَامِهِمْ ، وَقَدِ انْتَهَى بِبِعْثَةِ صَاحِبِ الدَّعْوَةِ الْعَامَّةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ الْمُخَاطَبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=107وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ ) ( 21 : 107 ) لَكِنَّ انْتِهَاءَهُ عِنْدَ اللَّهِ لَا يَمْنَعُ جَعْلَهُ إِنْذَارًا لِقَوْمِهِ خَاصَّةً بِهَلَاكِهِمْ إِنْ أُعْطَوْا مَا اقْتَرَحُوهُ مِنَ الْآيَاتِ إِرْضَاءً لِعِنَادِهِمْ ، لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْبَصِيرَةِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ مَنْعَهُمْ إِيَّاهُ إِنَّمَا كَانَ رَحْمَةً بِهِمْ وَبِغَيْرِهِمْ .
وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الْأُمَمِ أَنَّ الْجَاحِدِينَ الَّذِينَ يَقْتَرِحُونَ الْآيَاتِ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا ، وَلِأَجْلِ هَذَا لَمْ يُعْطِ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ شَيْئًا مِمَّا كَانُوا يَقْتَرِحُونَهُ عَلَيْهِ مِنْهَا ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَتَفْسِيرِهَا ، وَهَذَا الْأَجَلُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُبَيِّنَهُ تَعَالَى عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ .
وَالنَّوْعُ الثَّانِي : الْأَجَلُ الْمُقَدَّرُ لِحَيَاةِ الْأُمَمِ سَعِيدَةً عَزِيزَةً بِالِاسْتِقْلَالِ ، الَّتِي تَنْتَهِي بِالشَّقَاءِ وَالْمَهَانَةِ أَوِ الِاسْتِعْبَادِ وَالِاسْتِذْلَالِ ، إِنْ لَمْ تَنْتَهِ بِالْفَنَاءِ وَالزَّوَالِ ، وَهَذَا النَّوْعُ مَنُوطٌ بِسُنَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ وَالْعُمْرَانِ ، وَأَسْبَابُهُ مَحْصُورَةٌ فِي مُخَالَفَةِ هَدْيِ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ ، بِالْإِسْرَافِ فِي الزِّينَةِ وَالتَّمَتُّعِ بِالطَّيِّبَاتِ ، وَبِاقْتِرَافِ الْفَوَاحِشِ وَالْآثَامِ وَالْبَغْيِ عَلَى النَّاسِ ، وَبِخُرَافَاتِ الشِّرْكِ وَالْوَثَنِيَّةِ الَّتِي مَا أَنْزَلَ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ، وَبِالْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ بِإِرْهَاقِ الْأُمَّةِ بِمَا لَمْ يُشَرِّعْهُ لَهَا مِنَ الْأَحْكَامِ ، تَحَكُّمًا مِنْ رُؤَسَاءِ الدِّينِ عَنْ تَقْلِيدٍ أَوِ اجْتِهَادٍ . وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=11إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) ( 13 : 11 ) .
فَمَا مِنْ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ الْعَزِيزَةِ السَّعِيدَةِ ، ارْتَكَبَتْ هَذِهِ الضَّلَالَاتِ وَالْمَفَاسِدَ الْمُبِيدَةَ ، إِلَّا سَلَبَهَا اللَّهُ سَعَادَتَهَا وَعِزَّهَا ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا مَنِ اسْتَذَلَّهَا وَسَلَبَ مُلْكَهَا (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=102وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ) ( 11 : 102 ) .
وَأَمَامُنَا
nindex.php?page=treesubj&link=32016تَارِيخُ الْيَهُودِ وَالرُّومَانِ وَالْفُرْسِ وَالْعَرَبِ وَالتُّرْكِ وَغَيْرِهِمْ ، مِنْهُمْ مَنْ سُلِبَ مُلْكُهُ كُلُّهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ سُلِبَ بَعْضُهُ أَوْ أَكْثَرُهُ ، وَمَنْ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى رُشْدِهِ ، فَإِنَّهُ يُسْلَبُ مَا بَقِيَ لَهُ مِنْهُ .
[ ص: 359 ] وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ آجَالِ الْأُمَمِ - وَإِنْ عُرِفَتْ أَسْبَابُهُ وَسُنَنُهُ - لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَدِّدَهُ بِالسِّنِينَ وَالْأَيَّامِ ، وَهُوَ مُحَدَّدٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالسَّاعَاتِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=34فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ) السَّاعَةُ : فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ أَقَلِّ مُدَّةٍ مِنَ الزَّمَنِ ، وَالسَّاعَةُ الْفَلَكِيَّةُ اصْطِلَاحٌ ، وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ 24 جُزْءٍ مِنْ مَجْمُوعِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ . أَيْ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُ كُلِّ أُمَّةٍ كَانَ عِقَابُهُمْ فِيهِ لَا يَتَأَخَّرُونَ عَنْهُ أَقَلَّ تَأَخُّرٍ ، كَمَا أَنَّهُمْ لَا يَتَقَدَّمُونَ عَنْهُ إِذَا لَمْ يَجِيءْ ، أَوْ لَا يَمْلِكُونَ طَلَبَ تَأْخِيرِهِ كَمَا أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ طَلَبَ تَقْدِيمِهِ ، وَقَدْ قَالُوا : إِنَّ " اسْتَقْدَمَ " وَرَدَ بِمَعْنَى قَدِمَ وَأَقْدَمَ وَتَقَدَّمَ كَمَا وَرَدَ " اسْتَجَابَ " بِمَعْنَى أَجَابَ ، وَمِثْلُهُ " اسْتَأْخَرَ " ، وَلَا يَمْنَعُ هَذَا كَوْنَ الْأَصْلِ فِي السِّينِ وَالتَّاءِ لِلطَّلَبِ أَوْ مَظِنَّةٍ لِلطَّلَبِ ، وَالطَّلَبُ قَدْ يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَقَدْ يَكُونُ بِالْفِعْلِ ، فَمَنْ أَتَى سَبَبَ الشَّيْءِ كَانَ طَالِبًا لَهُ بِالْفِعْلِ ، وَإِنْ كَانَ غَافِلًا عَنِ اسْتِتْبَاعِهِ لَهُ ، فَالْأُمَّةُ الَّتِي تَرْتَكِبُ أَسْبَابَ الْهَلَاكِ تَكُونُ طَالِبَةً لَهُ بِلِسَانِ حَالِهَا وَاسْتِعْدَادِهَا وَلَابُدَّ أَنْ يَأْتِيَهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا الطَّلَبَ هُوَ الَّذِي لَا يُرَدُّ . وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ هُنَا أَنَّ الْأُمَّةَ قَدْ تَمْلِكُ طَلَبَ تَأْخِيرِ الْهَلَاكِ قَبْلَ مَجِيءِ أَجَلِهِ ، أَيْ قَبْلَ أَنْ تَغْلِبَهَا عَلَى نَفْسِهَا وَعَلَى إِرَادَتِهَا أَسْبَابُ الْهَلَاكِ ، ذَلِكَ بِأَنْ تَتْرُكَ الْفَوَاحِشَ وَالْآثَامَ ، وَالظُّلْمَ وَالْبَغْيَ ، وَالْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ، وَالْإِسْرَافَ فِي التَّرَفِ الْمُفْسِدِ لِلْأَخْلَاقِ ، وَخُرَافَاتِ الشِّرْكِ الْمَفْسَدَةَ لِلْعُقُولِ وَالْأَعْمَالِ ، وَكَذَا التَّكَالِيفَ التَّقْلِيدِيَّةَ بِتَكْثِيرِ مَا ابْتُدِعَ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ ، الَّتِي لَمْ يُخَاطِبِ الرَّبُّ بِهَا الْعِبَادَ . وَالْمُرَادُ : أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ عَلَى الْأُمَّةِ الصَّلَاحَ لِإِصْلَاحِ جَمِيعِ الْأَفْرَادِ .
فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ قَدْ جَاءَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ بِالْجَزْمِ ، وَغَيْرَ مَشْرُوطٍ بِهَذَا الشَّرْطِ ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْحِجْرِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=4وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ) ( 15 : 4 ، 5 ) قُلْنَا : إِنَّ امْتِنَاعَ السَّبْقِ وَالتَّأَخُّرِ أَوْ طَلَبَهُ وَالسَّعْيَ لَهُ هُنَا إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا عَلِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَثْبَتَهُ فِي كِتَابِ مَقَادِيرِ الْعَالَمِ ، فَإِنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى لَا يَتَغَيَّرُ ، وَسُنَنَهُ لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ ، وَلِذَلِكَ يَمْتَنِعُ التَّأْخِيرُ أَوْ طَلَبُهُ مِنْ طَرِيقِ أَسْبَابِهِ إِذَا جَاءَ الْأَجَلُ بِالْفِعْلِ ، وَلِهَذَا أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ فِي الْحُسْنِ ، مِنْهَا مَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ بِالتَّحْدِيدِ ، وَمِنْهَا مَا يُعْلَمُ بِالتَّقْرِيبِ . كَقُوَّةِ الْحَرَارَةِ وَتَأْثِيرِهَا فِي الْأَجْسَامِ . وَقُوَّةِ الْمَوَادِّ الضَّاغِطَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الِانْفِجَارِ ، كُلٌّ مِنْهُمَا يُضْبَطُ بِحِسَابٍ مَعْلُومٍ . وَمِنْهَا مِقْدَارُ الْمَاءِ الَّذِي يُمْسَكُ وَرَاءَ السُّدُودِ كَخَزَّانِ
أَسْوَانَ . فَقُوَّةُ السَّدِّ وَمَقَادِيرُ الْمَاءِ وَقُوَّةُ ضَغْطِهِ مُقَدَّرَةً بِحِسَابٍ . وَكَذَا الْمَاءُ وَالْوَقُودُ الَّذِي تَسِيرُ بِهِ مَرَاكِبُ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ . وَالْغَازُ الْمُحَرِّكُ لِلطَّيَّارَاتِ وَالْمَنَاطِيدِ فِي الْجَوِّ ، يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِمَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ كُلُّ مَسَافَةٍ مِنْهُ ، وَالْجَزْمُ بِوُقُوفِ هَذِهِ الْمَرَاكِبِ بَعْدَ نَفَادِهِ فِي الْوَقْتِ الْمُقَدَّرِ لَهُ ، وَكُلُّ عَمَلٍ مُنَظَّمٍ بِعِلْمٍ صَحِيحٍ ، يَأْتِي فِيهِ مِثْلُ هَذَا التَّقْدِيرِ ، وَيَكُونُ ضَبْطُهُ وَتَحْدِيدُهُ بِقَدْرِ إِحَاطَةِ الْعِلْمِ بِهِ ، مِثْلِ دَرَجَاتِ الْحَرَارَةِ وَالرُّطُوبَةِ وَسُنَنِ الضَّغْطِ وَالْجَذْبِ ، كَكَوْنِ جَاذِبِيَّةِ الثِّقْلِ عَلَى نِسْبَةِ
[ ص: 360 ] مُرَبَّعِ الْبُعْدِ . وَمِمَّا يَكُونُ التَّقْدِيرُ فِيهِ بِالتَّقْرِيبِ ، فَيُخْطِئُ فِيهِ الْمُقَدِّرُ وَيُصِيبُ ، تَقْدِيرُ سَيْرِ الْأَمْرَاضِ الْمَعْرُوفَةِ كَالسُّلِّ الرِّئَوِيِّ ، فَإِنَّ لَهُ دَرَجَاتٍ يُسْرِعُ قَطْعُ الْمَسْلُولِ لَهَا وَيُبْطِئُ بِقَدْرِ قُوَّةِ الْمَنَاعَةِ وَالْمُقَاوَمَةِ فِي جِسْمِهِ وَطُرُقِ الْمُعَالَجَةِ وَالتَّغْذِيَةِ وَالرِّيَاضَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ جَوْدَةِ الْهَوَاءِ وَأَشِعَّةِ الشَّمْسِ . وَكَمْ مِنْ مَرَضٍ اتَّفَقَ الْأَطِبَّاءُ عَلَى إِمْكَانِ الشِّفَاءِ مِنْهُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي لَا تَنْفَعُ مَعَهَا الْمُعَالَجَةُ وَهُمْ مُصِيبُونَ فِي ذَلِكَ ، كَالسَّرَطَانِ الَّذِي يُمْكِنُ اسْتِئْصَالُهُ بِعَمَلِيَّةٍ جِرَاحِيَّةٍ فِي وَقْتٍ قَرِيبٍ وَيَتَعَذَّرُ فِي آخَرَ .
وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْأُمَمِ ، قَدْ يَبْلُغُ فِيهَا الْفَسَادُ دَرَجَةً تَسْتَعْصِي فِيهَا مُعَالَجَتُهُ عَلَى أَطِبَّاءِ الِاجْتِمَاعِ ، وَلَكِنَّهَا إِذَا تَنَبَّهَتْ قَبْلَ انْتِشَارِ الْفَسَادِ فِيهَا ، وَتَبْرِيحِهِ بِزُعَمَائِهَا وَدَهْمَائِهَا ، فَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَظْهَرَ فِيهَا مِنْ أَفْرَادِ الْمُصْلِحِينَ أَوْ جَمَاعَاتِهِمْ مَنْ يُنْقِذُهَا فَيُرْشِدُهَا إِلَى تَغْيِيرِ مَا بِأَنْفُسِهَا مِنَ الْفَسَادِ فَيُغَيِّرُ اللَّهُ مَا بِهَا ، وَهُوَ مِنِ اسْتِئْخَارِ الْهَلَاكِ أَوْ مَنْعِهِ عَنْهَا قَبْلَ مَجِيءِ أَجَلِهَا .
وَقَدْ سَبَقَ حَكِيمُنَا الْعَرَبِيُّ
ابْنُ خَلْدُونَ إِلَى الْكَلَامِ فِي آجَالِ الْأُمَمِ وَأَعْمَالِ الدُّوَلِ ، وَبَيَانِ مَا يَعْرِضُ لَهَا مِنَ الْهَرَمِ ، وَكَوْنِهِ إِذَا وَقَعَ لَا يَرْتَفِعُ ، فَأَصَابَ فِي بَعْضِ قَوْلِهِ وَأَخْطَأَ فِي بَعْضٍ ، وَمِمَّا أَخْطَأَ فِيهِ جَعْلُهُ عُمْرَ الدَّوْلَةِ ثَلَاثَةَ أَجْيَالٍ أَيْ 120 سَنَةً كَالْأَجَلِ الطَّبِيعِيِّ لِلْأَفْرَادِ عَلَى تَقْدِيرِ بَعْضِ مُتَقَدِّمِي الْأَطِبَّاءِ . وَلَوْ قَالَ : عُمْرُ الدَّوْلَةِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مِنْ أَيَّامِ اللَّهِ . طُفُولِيَّةٌ ، وَبُلُوغُ أَشُدِّ وَرُشْدٍ ، وَشَيْخُوخَةٍ وَهَرَمٍ . وَلَمْ يُقَدِّرْهَا بِالسِّنِينَ لَسَدَّدَ وَقَارَبَ .