( ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين   ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين    ) 
بعد أن بين تعالى لأمة الدعوة توحيد الربوبية وذكرهم بالآيات والدلائل عليها أمرهم بما يجب أن يكون لازما لها من توحيد الإلهية  وهو إفراده تعالى بالعبادة روحها ومخها الدعاء فقال :   [ ص: 406 ]   ( ادعوا ربكم تضرعا وخفية    ) التضرع تفعل من الضراعة معناه تكلفها أو المبالغة فيها أو إظهارها واختاره الراغب  ، وهي مصدر ضرع كخشع إذا ضعف وذل ، وتلوى وتململ ، ومأخذها من قولهم ضرع إليهم إذا تناول ضرع أمه ، وإن حاجة الصغير من الحيوان والإنسان إلى الرضاع من أمه لمن أشد مظاهر الحاجة والافتقار بشعور الوجدان إلى شيء واحد لا يتوجه إلى غيره معه ، ولذلك خص استعمال التضرع في التنزيل بمواطن الشدة كما تقدم في الآيات 42 ، 43 ، 63 من سورة الأنعام ، ومثله في سورة " المؤمنون " ( ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون    ) ( 76 ) وذلك أن دعاء الله عند الحاجة ولا سيما في حال الشدة هو مخ العبادة وروحها  ، وله مظهران : التضرع والابتهال ، والخفية والإسرار . أي ادعوا ربكم ومدبر أموركم متضرعين مبتهلين إليه تارة ، ومسرين مستخفين تارة أخرى ، أو دعاء تضرع وتذلل وابتهال ، ودعاء مناجاة وإسرار ووقار ، ولكل من الدعاءين وقت ، وداعية من النفس ، فالتضرع بالجهر المعتدل تحسن في حال الخلوة والأمن من رؤية الناس الداعي ومن سماعهم لصوته ، فلا جهره يؤذيهم ولا الفكر فيهم يشغله عن التوجه إلى الرب وحده ، أو يفسد عليه دعاءه بحب الرياء والسمعة . والإسرار يحسن في حال اجتماع الناس في المساجد والمشاعر وغيرها إلا ما ورد رفع الصوت فيه من الجميع ، كالتلبية في الحج وتكبير العيدين ، وهو مشترك لا رياء فيه ، ولما كان الليل سترا ولباسا شرع فيه الجهر في قراءة الصلاة ، وهو للمجتهد في خلوته يطرد الوسواس ، ويقاوم فتور النعاس ، ويعين على تدبر القرآن ، وبكاء الخشوع للرحمن . 
هذا هو المتبادر من اللفظ عندنا . ومن مفسري السلف من جعل التضرع والخفية متفقين غير متقابلين ، بتفسير التضرع بالتخشع والتذلل ، وفي الصحيحين من حديث  أبي موسى الأشعري  رضي الله عنه قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ، إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم " هذا لفظ مسلم    . قال النووي    : ففيه خفض الصوت بالذكر إذا لم تدع حاجة إلى رفعه  ، فإنه إذا خفضه كان أبلغ في توقيره وتعظيمه ، فإذا دعت حاجة إلى الرفع رفع كما جاءت به أحاديث اهـ . والمتبادر من العبارة أن الإنكار إنما كان على المبالغة في الجهر وناهيك بكونه من جماعة كثيرين ، وربما كان بعضهم يظن أن الجهر بتلك الصفة أرضى للرب وأرجى للقبول ، وقال تعالى : ( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا    ) ( 17 : 110 ) . 
وروي عن  الحسن البصري  أنه قال : " إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس ، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس ، وإن كان الرجل ليصلي   [ ص: 407 ] الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزوار وما يشعرون به ، ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبدا ، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم ، وذلك أن الله تعالى يقول : ( ادعوا ربكم تضرعا وخفية    ) وذلك أن الله ذكر عبدا صالحا رضي فعله فقال : ( إذ نادى ربه نداء خفيا    )   ( 19 : 3 ) اهـ . وقال  ابن جريج    : يكره رفع الصوت والنداء والصياح في الدعاء  ويؤمر بالتضرع والاستكانة . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					