( فمنها
nindex.php?page=treesubj&link=25591سحر أهل بابل ) الذين ذكرهم الله تعالى في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ( 2 : 102 ) وكانوا قوما صابئين يعبدون الكواكب ويسمونها آلهة ، ويعتقدون أن حوادث العالم كلها من أفعالها ، وهم معطلة لا يعترفون بالصانع الواحد المبدع للكواكب وجميع أجرام العالم ، وهم الذين بعث الله تعالى إليهم
إبراهيم خليله صلوات الله عليه فدعاهم إلى الله تعالى وحاجهم بالحجاج الذي بهرهم به ، وأقام عليهم به الحجة من حيث لم يمكنهم دفعه ، ثم ألقوه في النار فجعلها الله بردا وسلاما ، ثم أمره الله تعالى بالهجرة إلى
الشام ، وكان
أهل بابل وإقليم
العراق والشام ومصر والروم على هذه المقالة إلى أيام
بيوراسب الذي تسميه العرب
الضحاك ، وأن
أفريدون وكان من
أهل دنياوند استجاش عليه بلاده ، وكاتب سائر من يطيعه ، وله قصص طويلة حتى أزال ملكه وأسره ، وجهال العامة والنساء عندنا يزعمون أن
أفريدون حبس
بيوراسب في جبل
دنياوند العالي على الجبال ، وأنه حي هناك مقيد ، وأن السحرة يأتونه هناك فيأخذون عنه السحر ، وأنه سيخرج فيغلب على الأرض ، وأنه هو الدجال الذي أخبر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحذرناه ، وأحسبهم أخذوا ذلك عن المجوس ، وصارت مملكة إقليم
بابل للفرس ، فانتقل بعض ملوكهم إليها في بعض الأزمان فاستوطنوها ، ولم يكونوا عبدة أوثان ، بل كانوا موحدين مقرين بالله وحده ، إلا أنهم مع ذلك يعظمون العناصر الأربعة : الماء ، والنار ، والأرض ، والهواء ؛ لما فيها من منافع الخلق ، وأن بها قوام الحيوان ، وإنما حدثت المجوسية فيهم بعد ذلك في زمان
كشتاسب حين دعاه
زرادشت فاستجاب له على شرائط يطول شرحها ، وإنما غرضنا في هذا الموضع الإبانة عما كانت عليه سحرة
بابل ، ولما ظهر
الفرس على هذه الإقليم كانت
[ ص: 45 ] تتدين بقتل السحرة وإبادتها ، ولم يزل ذلك فيهم من دينهم بعد حدوث المجوسية فيهم وقبله إلى أن زال عنهم الملك .
" وكانت علوم
أهل بابل قبل ظهور
الفرس عليهم الحيل والنيرنجبات وأحكام النجوم ، وكانوا يعبدون أوثانا قد علموها على أسماء الكواكب السبعة ، وجعلوا لكل واحد منها هيكلا فيه صنمه ، ويتقربون إليها بضروب من الأفعال على حسب اعتقاداتهم من موافقة ذلك الكوكب الذي يطلبون منه بزعمهم فعل الخير أو شر ، فمن أراد شيئا من الخير والصلاح بزعمه يتقرب إليه بما يوافق المشترى من الدخن والرقى والعقد والنفث عليها ، ومن طلب شيئا من الشر والحرب والموت والبوار لغيره تقرب بزعمه إلى زحل بما يوافقه من ذلك ، ومن أراد البرق والحرق والطاعون تقرب بزعمه إلى المريخ بما يوافقه من ذلك من ذبح بعض الحيوانات ، وجميع تلك الرقى بالنبطية تشتمل على تعظيم تلك الكواكب إلى ما يريدون من خير أو شر ومحبة وبغض فيعطيهم ما شاءوا من ذلك ، فيزعمون أنهم عند ذلك يفعلون ما شاءوا في غيرهم من غير مماسة ولا ملامسة سوى ما قدموه من القربات للكوكب الذي طلبوا ذلك منه ، فمن العامة من يزعم أنه يقلب الإنسان حمارا أو كلبا ثم إذا شاء أعاده ، ويركب البيضة والمكنسة والخابية ويطير في الهواء يمضي من
العراق إلى
الهند وإلى ما شاء من البلدان ثم يرجع من ليلته .
" وكانت عوامهم تعتقد ذلك ؛ لأنهم كانوا يعبدون الكواكب ، وكل ما دعا إلى تعظيمها اعتقدوه ، وكانت السحرة تحتال في خلال ذلك بحيل تموه بها على العامة إلى اعتقاد صحته ، بأن يزعم أن ذلك لا ينفذ ولا ينتفع به أحد ، ولا يبلغ ما يريد إلا من اعتقد صحة قولهم وتصديقهم فيما يقولون .
" ولم تكن ملوكهم تعترض عليهم في ذلك ، بل كانت السحرة عندها بالمحل الأجل لما كان لها في نفوس العامة من محل التعظيم والإجلال ؛ ولأن الملوك في ذلك الوقت كانت تعتقد ما تدعيه السحرة للكواكب ، إلى أن زالت تلك الممالك ، ألا ترى أن الناس في زمن
فرعون كانوا يتبارون بالعلم والسحر والحيل والمخارق ؛ ولذلك بعث إليهم
موسى عليه السلام بالعصا والآيات التي علمت السحرة أنها ليست من السحر في شيء ، وأنها لا يقدر عليها غير الله تعالى ، فلما زالت تلك الممالك ، وكان من ملكهم بعد ذلك من الموحدين يطلبونهم ويتقربون إلى الله تعالى بقتلهم ، كانوا يدعون عوام الناس وجهالهم سرا كما يفعله الساعة كثير ممن يدعي ذلك مع النساء والأحداث الأغمار والجهال الحشو .
وكانوا يدعون من يعملون له ذلك إلى تصديق قولهم والاعتراف بصحته ، والمصدق لهم بذلك يكفر من وجوه : ( أحدهما ) :
nindex.php?page=treesubj&link=10045_28705_30540التصديق بوجوب تعظيم الكواكب وتسميتها آلهة .
( والثاني ) : اعترافه بأن الكواكب تقدر على ضره ونفعه .
( والثالث ) : أن السحرة تقدر على
[ ص: 46 ] مثل معجزات الأنبياء عليهم السلام ، فبعث الله إليهم ملكين يبينان للناس حقيقة ما يدعون ، وبطلان ما يذكرون ، ويكشفان لهم ما به يموهون ، ويخبرانهم بمعاني تلك الرقى ، وأنها شرك وكفر ، بحيلهم التي كانوا يتوصلون بها إلى التمويه على العامة ، ويظهران لهم حقائقها ، وينهيانهم عن قبولها والعمل بها ، بقولهما لهم :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102إنما نحن فتنة فلا تكفر ( 2 : 102 ) فهذا أصل سحر
بابل ، ومع ذلك فقد كانوا يستعملون سائر وجوه السحر والحيل التي نذكرها ، ويموهون بها على العامة ، ويعزونها إلى فعل الكواكب ؛ لئلا يبحث عنها ويسلمها لهم .
" فمن ضروب السحر كثير من التخيلات التي مظهرها على خلاف حقائقها ، فمنها ما يعرفه الناس بجريان العادة بها وظهورها ، ومنها ما يخفى ويلطف ولا يعرف حقيقته ومعنى باطنه إلا من تعاطى معرفة ذلك ؛ لأن كل علم لا بد أن يشتمل على جلي وخفي وظاهر وغامض ، فالجلي منه يعرفه كل من رآه وسمعه من العقلاء ، والغامض الخفي لا يعرفه إلا أهله ، ومن تعاطى معرفته وتكلف فعله والبحث عنه ، وذلك نحو ما يتخيل راكب السفينة إذا سارت في النهر فيرى أن الشط بما عليه من النخل والبنيان سائر معه ، وكما يرى القمر في مهب الشمال يسير للغيم في مهب الجنوب ، وكدوران الدوامة فيها الشامة فيراها كالطوق المستدير في أرجائها ، وكذلك يرى هذا في الرحى إذا كانت سريعة الدوران ، وكالعود في طرفه الجمرة إذا أداره مديره رأى تلك النار التي في طرفه كالطوق المستدير ، وكالعنبة التي يراها في قدح فيه ماء كالخوخة والإجاصة عظما ، وكالشخص الصغير يراه في الضباب عظيما جسيما ، وكبخار الأرض الذي يريك قرص الشمس عند طلوعها عظيما فإذا فارقته وارتفعت صغرت ، وكما يرى المرئي في الماء منكسرا أو معوجا ، وكما يرى الخاتم إذا قربته من عينك في سعة حلقة السوار ، ونظائر ذلك كثيرة من الأشياء التي تتخيل على غير حقائقها فيعرفها عامة الناس .
( فَمِنْهَا
nindex.php?page=treesubj&link=25591سِحْرُ أَهْلِ بَابِلَ ) الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ( 2 : 102 ) وَكَانُوا قَوْمًا صَابِئِينَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَيُسَمُّونَهَا آلِهَةً ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ حَوَادِثَ الْعَالَمِ كُلَّهَا مِنْ أَفْعَالِهَا ، وَهُمْ مُعَطِّلَةٌ لَا يَعْتَرِفُونَ بِالصَّانِعِ الْوَاحِدِ الْمُبْدِعِ لِلْكَوَاكِبِ وَجَمِيعِ أَجْرَامِ الْعَالَمِ ، وَهُمُ الَّذِينَ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ
إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَحَاجَّهُمْ بِالْحِجَاجِ الَّذِي بَهَرَهُمْ بِهِ ، وَأَقَامَ عَلَيْهِمْ بِهِ الْحُجَّةَ مِنْ حَيْثُ لَمْ يُمْكِنْهُمْ دَفْعَهُ ، ثُمَّ أَلْقَوْهُ فِي النَّارِ فَجَعَلَهَا اللَّهُ بَرْدًا وَسَلَامًا ، ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْهِجْرَةِ إِلَى
الشَّامِ ، وَكَانَ
أَهْلُ بَابِلَ وَإِقْلِيمِ
الْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ وَالرُّومِ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ إِلَى أَيَّامِ
بِيُورَاسِبَ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ
الضَّحَّاكَ ، وَأَنَّ
أَفْرِيدُونَ وَكَانَ مِنْ
أَهْلِ دَنْيَاوَنْدَ اسْتَجَاشَ عَلَيْهِ بِلَادَهُ ، وَكَاتَبَ سَائِرَ مَنْ يُطِيعُهُ ، وَلَهُ قَصَصٌ طَوِيلَةٌ حَتَّى أَزَالَ مُلْكَهُ وَأَسَرَهُ ، وَجُهَّالُ الْعَامَّةِ وَالنِّسَاءِ عِنْدَنَا يَزْعُمُونَ أَنَّ
أَفْرِيدُونَ حَبَسَ
بِيُورَاسِبَ فِي جَبَلِ
دَنْيَاوَنْدَ الْعَالِي عَلَى الْجِبَالِ ، وَأَنَّهُ حَيٌّ هُنَاكَ مُقَيَّدٌ ، وَأَنَّ السَّحَرَةَ يَأْتُونَهُ هُنَاكَ فَيَأْخُذُونَ عَنْهُ السِّحْرَ ، وَأَنَّهُ سَيَخْرُجُ فَيَغْلِبُ عَلَى الْأَرْضِ ، وَأَنَّهُ هُوَ الدَّجَّالُ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَحَذَّرَنَاهُ ، وَأَحْسَبُهُمْ أَخَذُوا ذَلِكَ عَنِ الْمَجُوسِ ، وَصَارَتْ مَمْلَكَةُ إِقْلِيمِ
بَابِلَ لِلْفُرْسِ ، فَانْتَقَلَ بَعْضُ مُلُوكِهِمْ إِلَيْهَا فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ فَاسْتَوْطَنُوهَا ، وَلَمْ يَكُونُوا عَبَدَةَ أَوْثَانٍ ، بَلْ كَانُوا مُوَحِّدِينَ مُقِرِّينَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ ، إِلَّا أَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُعَظِّمُونَ الْعَنَاصِرَ الْأَرْبَعَةَ : الْمَاءَ ، وَالنَّارَ ، وَالْأَرْضَ ، وَالْهَوَاءَ ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ مَنَافِعِ الْخَلْقِ ، وَأَنَّ بِهَا قِوَامَ الْحَيَوَانِ ، وَإِنَّمَا حَدَثَتِ الْمَجُوسِيَّةُ فِيهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ
كَشْتَاسِبَ حِينَ دَعَاهُ
زَرَادُشْتُ فَاسْتَجَابَ لَهُ عَلَى شَرَائِطَ يَطُولُ شَرْحُهَا ، وَإِنَّمَا غَرَضُنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْإِبَانَةُ عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ سَحَرَةُ
بَابِلَ ، وَلَمَّا ظَهَرَ
الْفُرْسُ عَلَى هَذِهِ الْإِقْلِيمِ كَانَتْ
[ ص: 45 ] تَتَدَيَّنُ بِقَتْلِ السَّحَرَةِ وَإِبَادَتِهَا ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ فِيهِمْ مِنْ دِينِهِمْ بَعْدَ حُدُوثِ الْمَجُوسِيَّةِ فِيهِمْ وَقَبْلَهُ إِلَى أَنْ زَالَ عَنْهُمُ الْمُلْكُ .
" وَكَانَتْ عُلُومُ
أَهْلِ بَابِلَ قَبْلَ ظُهُورِ
الْفُرْسِ عَلَيْهِمُ الْحِيَلَ وَالنِّيرَنْجَبَاتِ وَأَحْكَامَ النُّجُومِ ، وَكَانُوا يَعْبُدُونَ أَوْثَانًا قَدْ عَلِمُوهَا عَلَى أَسْمَاءِ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ ، وَجَعَلُوا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا هَيْكَلًا فِيهِ صَنَمُهُ ، وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهَا بِضُرُوبٍ مِنَ الْأَفْعَالِ عَلَى حَسَبِ اعْتِقَادَاتِهِمْ مِنْ مُوَافَقَةِ ذَلِكَ الْكَوْكَبِ الَّذِي يَطْلُبُونَ مِنْهُ بِزَعْمِهِمْ فِعْلَ الْخَيْرِ أَوْ شَرٍّ ، فَمَنْ أَرَادَ شَيْئًا مِنَ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ بِزَعْمِهِ يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِمَا يُوَافِقُ الْمُشْتَرَى مِنَ الدَّخَنِ وَالرُّقَى وَالْعُقَدِ وَالنَّفْثِ عَلَيْهَا ، وَمَنْ طَلَبَ شَيْئًا مِنَ الشَّرِّ وَالْحَرْبِ وَالْمَوْتِ وَالْبَوَارِ لِغَيْرِهِ تَقَرَّبَ بِزَعْمِهِ إِلَى زُحَلَ بِمَا يُوَافِقُهُ مِنْ ذَلِكَ ، وَمَنْ أَرَادَ الْبَرْقَ وَالْحَرْقَ وَالطَّاعُونَ تَقَرَّبَ بِزَعْمِهِ إِلَى الْمِرِّيخِ بِمَا يُوَافِقُهُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ ذَبْحِ بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ ، وَجَمِيعُ تِلْكَ الرُّقَى بِالنَّبَطِيَّةِ تَشْتَمِلُ عَلَى تَعْظِيمِ تِلْكَ الْكَوَاكِبِ إِلَى مَا يُرِيدُونَ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَمَحَبَّةٍ وَبُغْضٍ فَيُعْطِيهِمْ مَا شَاءُوا مِنْ ذَلِكَ ، فَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ يَفْعَلُونَ مَا شَاءُوا فِي غَيْرِهِمْ مِنْ غَيْرِ مُمَاسَّةٍ وَلَا مُلَامَسَةٍ سِوَى مَا قَدَّمُوهُ مِنَ الْقُرُبَاتِ لِلْكَوْكَبِ الَّذِي طَلَبُوا ذَلِكَ مِنْهُ ، فَمِنَ الْعَامَّةِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَقْلِبُ الْإِنْسَانَ حِمَارًا أَوْ كَلْبًا ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَعَادَهُ ، وَيَرْكَبُ الْبَيْضَةَ وَالْمِكْنَسَةَ وَالْخَابِيَةَ وَيَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ يَمْضِي مِنَ
الْعِرَاقِ إِلَى
الْهِنْدِ وَإِلَى مَا شَاءَ مِنَ الْبُلْدَانِ ثُمَّ يَرْجِعُ مِنْ لَيْلَتِهِ .
" وَكَانَتْ عَوَامُّهُمْ تَعْتَقِدُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ ، وَكُلُّ مَا دَعَا إِلَى تَعْظِيمِهَا اعْتَقَدُوهُ ، وَكَانَتِ السَّحَرَةُ تَحْتَالُ فِي خِلَالِ ذَلِكَ بِحِيَلٍ تُمَوِّهُ بِهَا عَلَى الْعَامَّةِ إِلَى اعْتِقَادِ صِحَّتِهِ ، بِأَنْ يَزْعُمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفُذُ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَحَدٌ ، وَلَا يَبْلُغُ مَا يُرِيدُ إِلَّا مَنِ اعْتَقَدَ صِحَّةَ قَوْلِهِمْ وَتَصْدِيقَهُمْ فِيمَا يَقُولُونَ .
" وَلَمْ تَكُنْ مُلُوكُهُمْ تَعْتَرِضُ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ ، بَلْ كَانَتِ السَّحَرَةُ عِنْدَهَا بِالْمَحَلِّ الْأَجَلِّ لِمَا كَانَ لَهَا فِي نُفُوسِ الْعَامَّةِ مِنْ مَحَلِّ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ ؛ وَلِأَنَّ الْمُلُوكَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَتْ تَعْتَقِدُ مَا تَدَّعِيهِ السَّحَرَةُ لِلْكَوَاكِبِ ، إِلَى أَنْ زَالَتْ تِلْكَ الْمَمَالِكُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّاسَ فِي زَمَنِ
فِرْعَوْنَ كَانُوا يَتَبَارُونَ بِالْعِلْمِ وَالسِّحْرِ وَالْحِيَلِ وَالْمَخَارِقِ ؛ وَلِذَلِكَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْعَصَا وَالْآيَاتِ الَّتِي عَلِمَتِ السَّحَرَةُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ السِّحْرِ فِي شَيْءٍ ، وَأَنَّهَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى ، فَلَمَّا زَالَتْ تِلْكَ الْمَمَالِكُ ، وَكَانَ مَنْ مَلَكَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ يَطْلُبُونَهُمْ وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِقَتْلِهِمْ ، كَانُوا يَدْعُونَ عَوَامَّ النَّاسِ وَجُهَّالَهُمْ سِرًّا كَمَا يَفْعَلُهُ السَّاعَةَ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَدَّعِي ذَلِكَ مَعَ النِّسَاءِ وَالْأَحْدَاثِ الْأَغْمَارِ وَالْجُهَّالِ الْحَشْوِ .
وَكَانُوا يَدْعُونَ مَنْ يَعْمَلُونَ لَهُ ذَلِكَ إِلَى تَصْدِيقِ قَوْلِهِمْ وَالِاعْتِرَافِ بِصِحَّتِهِ ، وَالْمُصَدِّقُ لَهُمْ بِذَلِكَ يَكْفُرُ مِنْ وُجُوهٍ : ( أَحَدُهُمَا ) :
nindex.php?page=treesubj&link=10045_28705_30540التَّصْدِيقُ بِوُجُوبِ تَعْظِيمِ الْكَوَاكِبِ وَتَسْمِيَتِهَا آلِهَةً .
( وَالثَّانِي ) : اعْتِرَافُهُ بِأَنَّ الْكَوَاكِبَ تَقْدِرُ عَلَى ضَرِّهِ وَنَفْعِهِ .
( وَالثَّالِثُ ) : أَنَّ السَّحَرَةَ تَقْدِرُ عَلَى
[ ص: 46 ] مِثْلِ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ مَلَكَيْنِ يُبَيِّنَانِ لِلنَّاسِ حَقِيقَةَ مَا يَدَّعُونَ ، وَبُطْلَانَ مَا يَذْكُرُونَ ، وَيَكْشِفَانِ لَهُمْ مَا بِهِ يُمَوِّهُونَ ، وَيُخْبِرَانِهِمْ بِمَعَانِي تِلْكَ الرُّقَى ، وَأَنَّهَا شِرْكٌ وَكُفْرٌ ، بِحِيَلِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَتَوَصَّلُونَ بِهَا إِلَى التَّمْوِيهِ عَلَى الْعَامَّةِ ، وَيُظْهِرَانِ لَهُمْ حَقَائِقَهَا ، وَيَنْهَيَانِهِمْ عَنْ قَبُولِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا ، بِقَوْلِهِمَا لَهُمْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ( 2 : 102 ) فَهَذَا أَصْلُ سِحْرِ
بَابِلَ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ سَائِرَ وُجُوهِ السِّحْرِ وَالْحِيَلِ الَّتِي نَذْكُرُهَا ، وَيُمَوِّهُونَ بِهَا عَلَى الْعَامَّةِ ، وَيَعْزُونَهُا إِلَى فِعْلِ الْكَوَاكِبِ ؛ لِئَلَّا يَبْحَثَ عَنْهَا وَيُسَلِّمَهَا لَهُمْ .
" فَمِنْ ضُرُوبِ السِّحْرِ كَثِيرٌ مِنَ التَّخَيُّلَاتِ الَّتِي مَظْهَرُهَا عَلَى خِلَافِ حَقَائِقِهَا ، فَمِنْهَا مَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ بِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِهَا وَظُهُورِهَا ، وَمِنْهَا مَا يَخْفَى وَيَلْطُفُ وَلَا يَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ وَمَعْنَى بَاطِنِهِ إِلَّا مَنْ تَعَاطَى مَعْرِفَةَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ عِلْمٍ لَا بُدَّ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى جَلِيٍّ وَخَفِيٍّ وَظَاهِرٍ وَغَامِضٍ ، فَالْجَلِيُّ مِنْهُ يَعْرِفُهُ كُلُّ مَنْ رَآهُ وَسَمِعَهُ مِنَ الْعُقَلَاءِ ، وَالْغَامِضُ الْخَفِيُّ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا أَهْلُهُ ، وَمَنْ تَعَاطَى مَعْرِفَتَهُ وَتَكَلَّفَ فِعْلَهُ وَالْبَحْثَ عَنْهُ ، وَذَلِكَ نَحْوُ مَا يَتَخَيَّلُ رَاكِبُ السَّفِينَةِ إِذَا سَارَتْ فِي النَّهْرِ فَيَرَى أَنَّ الشَّطَّ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ النَّخْلِ وَالْبُنْيَانِ سَائِرٌ مَعَهُ ، وَكَمَا يَرَى الْقَمَرَ فِي مَهَبِّ الشَّمَالِ يَسِيرُ لِلْغَيْمِ فِي مَهَبِّ الْجَنُوبِ ، وَكَدَوَرَانِ الدَّوَّامَةِ فِيهَا الشَّامَةُ فَيَرَاهَا كَالطَّوْقِ الْمُسْتَدِيرِ فِي أَرْجَائِهَا ، وَكَذَلِكَ يَرَى هَذَا فِي الرَّحَى إِذَا كَانَتْ سَرِيعَةَ الدَّوَرَانِ ، وَكَالْعُودِ فِي طَرَفِهِ الْجَمْرَةُ إِذَا أَدَارَهُ مُدِيرُهُ رَأَى تِلْكَ النَّارَ الَّتِي فِي طَرَفِهِ كَالطَّوْقِ الْمُسْتَدِيرِ ، وَكَالْعِنَبَةِ الَّتِي يَرَاهَا فِي قَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ كَالْخَوْخَةِ وَالْإِجَّاصَةِ عَظْمًا ، وَكَالشَّخْصِ الصَّغِيرِ يَرَاهُ فِي الضَّبَابِ عَظِيمًا جَسِيمًا ، وَكَبُخَارِ الْأَرْضِ الَّذِي يُرِيكَ قُرْصَ الشَّمْسِ عِنْدَ طُلُوعِهَا عَظِيمًا فَإِذَا فَارَقَتْهُ وَارْتَفَعَتْ صَغُرَتْ ، وَكَمَا يُرَى الْمَرْئِيُّ فِي الْمَاءِ مُنْكَسِرًا أَوْ مُعْوَجًّا ، وَكَمَا يُرَى الْخَاتَمُ إِذَا قَرَّبْتَهُ مِنْ عَيْنِكَ فِي سَعَةِ حَلْقَةِ السُّوَارِ ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَتَخَيَّلُ عَلَى غَيْرِ حَقَائِقِهَا فَيَعْرِفُهَا عَامَّةُ النَّاسِ .