الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ثم ذكر تعالى مكابرة من مكابرات هؤلاء المشركين المعاندين الماكرين ، قالها بعضهم فأعجبت أمثاله منهم فرددوها فعزيت إليهم على الإطلاق وهي : وإذا تتلى عليهم آياتنا المنزلة في القرآن ، الذي يعجز عن مثله الثقلان ، فيما أودع من علم وحكمة وتشريع وقصص وبيان ، وماله من التأثير في نفس كل إنسان ، بقدر ما أوتي من بلاغة وعقل وقلب ووجدان قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا نقل هذا القول جمهور رواة التفسير المأثور عن النضر بن الحارث من بني عبد الدار ، وعلل هذه الدعوى الكاذبة بما هو أكذب منها وهو قوله : إن هذا إلا أساطير الأولين أي: قصصهم وأحاديثهم التي سطرت في الكتب [ ص: 543 ] على علاتها ، وما هو بوحي من عند الله تعالى . قال المبرد في أساطير : هي جمع أسطورة كأرجوحة وأراجيح وأثفية وأثافي وأحدوثة وأحاديث . وفي القاموس : الأساطير الأحاديث لا نظام لها جمع أسطار وأسطير وأسطور وبالهاء في الكل . وأصل السطر الصف من الشيء كالكتاب والشجر اهـ . قال المفسرون : وكان النضر هذا يختلف إلى أرض فارس فيسمع أخبارهم عن رستم واسفنديار وكبار العجم ، ويمر باليهود والنصارى فيسمع منهم التوراة والإنجيل ، كأنهم يعنون أن أخبار القرآن عن الرسل وأقوامهم اشتبهت عليه بقصص أولئك الأمم فقال: إنه يستطيع أن يأتي بمثلها ، فما هي من خبر الغيب الدال على أنه وحي من الله ، ولعله أول من قال هذه الكلمة فقلده فيها غيره ، ولم يكونوا يعتقدون أنها أساطير مختلفة ، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم هو الذي افتراها ، فإنهم لم يكونوا يتهمونه بالكذب كما نقل عن كبار طواغيتهم ، ومنهم النضر بن الحارث ، وقد قال تعالى في ذلك : فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ( 6 : 33 ) بل كانوا يوهمون عامة العرب أنه اكتتبها وجمعها كما في آية الفرقان : وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ( 25 : 5 ) أي ليحفظها ، ولم يكن كبراء مجرمي قريش ، ولا أهل مكة يعتقدون هذا أيضا ، فإنهم كلهم كانوا يعلمون أنه أمي لم يتعلم شيئا ، بل تشاوروا في شيء يقولونه; ليصدوا به العرب عن القرآن فكان هذا القول منه ، وقد كذبهم الله تعالى فيه فما استطاعوا له إثباتا ، وكانالنضر بن الحارث من أشدهم كفرا وعنادا ، وحرصا على صد الناس عن القرآن ، وقد روي عنه أنه هو الذي نزل فيه قوله تعالى : ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا ( 31 : 6 ) إذ اشترى قينة جميلة كانت تغني الناس بأخبار الأمم وغير الأمم وغير ذلك لصرفهم عن سماع القرآن إليها ، وهو الذي نزلت فيه الآية التي بعد هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها ، وهي الدالة على منتهى الجحود والعناد على قول بعض الرواة .

                          وهذا القول الذي قاله النضر لا يدل على أنه كان يرى من نفسه القدرة على معارضة القرآن في أسلوبه أو بلاغته وتأثيره ، وهو من بلغاء قريش ، إذ لو قدر لفعل; لأنه كان من أحرصهم على تكذيبه ، بل هو طعن في أخبار القرآن عن الرسل; لتشكيك العرب فيه وصرفها عنه ، وقد حكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا " افتراه " وقد يكون بعضهم اعتقد ذلك إذا كان نفي لتكذيبهم إياه خاصا ببعضهم كالوليد بن المغيرة الذي قال لأبي جهل والأخنس وغيرهما حين دعوه لتكذيبه : إن محمدا لم يكن يكذب على أحد من الناس ، أفيكذب على الله ؟ وقد شمل التحدي بالقرآن هؤلاء المفترين عن اعتقاد أو غير اعتقاد إذ قال في سورة يونس : أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ( 10 : 38 ) أي بسورة مثله مفتراة كما صرح بالوصف في سورة هود فقال : أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات [ ص: 544 ] ( 11 : 13 ) إلخ . وبينا الفرق بين هاتين الآيتين وآية سورة البقرة في التحدي عند تفسير هذه الأخيرة ( راجع 159 - 164 من الجزء الأول تفسير ط الهيئة ) . ولقد كان زعماء طواغيت قريش كالنضر بن الحارث هذا وأبي جهل ، والوليد بن المغيرة يتواصون بالإعراض عن سماع القرآن ، كما يمنعون الناس منه ثم يختلفون أفرادا إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم ليلا يستمعون إليه ، ويعجبون منه ومن تأثيره وسلطانه على العقول والقلوب ، وكان يلتقي بعضهم ببعض أحيانا فيتلاومون ، ويؤكد بعضهم لبعض القول بعدم العود إلى ذلك ، ومما كان من تأثير استماعهم أن قال الوليد بن المغيرة فيه كلمته المشهورة في وصفه ومنها " أنه يعلو ولا يعلى عليه ، وأنه يحطم ما تحته " فخافوا أن تسمعها العرب ، فما زالوا يلحون عليه في قول كلمة منفرة تؤثر عنه حتى إذا ما أقنعوه بوجوب ذلك أطال التفكير والتقدير والنظر والتأمل والعبوس والتقطيب حتى اهتدى إلى الكلمة المأثورة عن جميع مكذبي الأنبياء في تسمية آياتهم سحرا فقال : سحر يؤثر - وقد تقدم بيان هذا في بحث الإعجاز من تفسير آية البقرة في التحدي .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية