الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( البشارة الخامسة )

                          جاء في ترجمات سنة 1722 وسنة 1831 وسنة 1844 العربية من سفر التكوين ( 49 : 10 فلا يزول القضيب من يهوذا . والمدبر من فخذه حتى يجيء الذي له الكل وإياه تنتظر الأمم ) وفي ترجمة سنة 1811 ( فلا يزول القضيب من يهوذا والراسم من تحت أمره إلى أن يجيء الذي هو له وإليه تجتمع الشعوب ) ولفظ الذي له الكل أو الذي هو له ترجمة لفظ " شيلوه " وفي ترجمة هذا اللفظ اختلاف كثير فيما بينهم كما عرفت في الأمر السابع أيضا . وقال عبد السلام في الرسالة الهادية هكذا ( لا يزول الحاكم من يهوذا ولا راسم من بين رجليه حتى يجيء الذي له وإليه تجتمع الشعوب ) وفي هذه الآية دلالة على مجيء سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد تمام حكم موسى وعيسى ؛ لأن المراد من الحاكم هو موسى ؛ لأنه بعد يعقوب ما جاء صاحب شريعة إلى زمان موسى إلا موسى ، والمراد من الراسم هو عيسى ؛ لأنه بعد موسى إلى زمان عيسى ما جاء صاحب شريعة إلا عيسى ، وبعدهما ما جاء صاحب شريعة إلى محمد ، فعلم أن المراد من قول يعقوب في آخر الأيام ، هو نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه في آخر الزمان بعد مضي حكم الحاكم والراسم ما جاء إلا سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ويدل عليه أيضا قوله : حتى يجيء الذي له - أي : الحكم - بدلالة مساق الآية وسياقها ، وأما قوله ( وإليه تجتمع الشعوب ) فهي علامة صريحة ودلالة واضحة على أن المراد منها هو سيدنا محمد ؛ لأنه ما اجتمع الشعوب إلا إليه ، وإنما لم يذكر الزبور ؛ لأنه لا أحكام فيه ، وداود النبي تابع لموسى ، والمراد من خبر يعقوب هو صاحب " الأحكام " انتهى كلامه بلفظه .

                          أقول : إنما أراد من الحاكم موسى - عليه السلام - ؛ لأن شريعته جبرية انتقامية ومن الراسم عيسى - عليه السلام - ؛ لأن شريعته ليست بجبرية ولا انتقامية ، وإن أريد من القضيب السلطنة الدنيوية ، ومن المدبر الحاكم الدنيوي - كما يفهم من رسائل القسيسين من فرقة بروتستنت ، ومن بعض تراجمهم - فلا يصح أن يراد بشيلوه مسيح اليهود كما هو مزعومهم ، ولا عيسى - عليه السلام - كما هو مزعوم النصارى . ( أما الأول ) فظاهر ؛ لأن السلطنة الدنيوية [ ص: 226 ] والحاكم الدنيوي زالا من آل يهوذا من مدة هي أزيد من ألفي سنة من عهد بختنصر ، ولم يسمع إلى الآن حسيس مسيح اليهود ( وأما الثاني فلأنهما زالا من آل يهوذا أيضا قبل ظهور عيسى - عليه السلام - بمقدار ستمائة سنة من عهد بختنصر ، وهو أجلى بني يهوذا إلى بابل وكانوا في الجلاء ثلاثا وستين سنة لا سبعين كما يقول بعض علماء بروتستنت تغليظا للعوام - كما عرفت في الفصل الثالث من الباب الأول ، ثم وقع عليهم في عهد انتيوكس ما وقع فإنه عزل أنياس حبر اليهود وباع منصبه لأخيه ياسون بثلاثمائة وستين وزنة ذهب يقدمها له خراجا كل سنة ، ثم عزله وباع ذلك لأخيه مينالاوس بستمائة وستين وزنة ، ثم شاع خبر موته فطلب ياسون أن يسترد لنفسه الكهنوت ، ودخل أورشليم بألوف من الجنود فقتل كل من كان يظنه عدوا له - وهذا الخبر كان كاذبا - فهجم أنتيوكس على أورشليم وامتلكها ثانية في سنة 170 قبل ميلاد المسيح وقتل من أهلها أربعين ألفا ، وباع مثل ذلك عبيدا وفي الفصل العشرين من الجزء الثاني من مرشد الطالبين في بيان الجدول التاريخي في الصفحة 481 من النسخة المطبوعة سنة 1852 من الميلاد ( إنه نهب أورشليم وقتل ثمانين ألفا ) ا هـ ، وسلب ما كان في الهيكل من الأمتعة النفسية التي كانت قيمتها ثمانمائة وزنة ذهب ، وقرب خنزيرة وقودا على المذبح للإهانة ثم رجع إلى إنطاكية وأقام فيلبس أحد الأراذل حاكما على اليهودية - وفي رحلته الرابعة إلى مصر أرسل أبولوينوس بعشرين ألفا من جنوده وأمرهم أن يخربوا أورشليم ، ويقتلوا كل من فيها من الرجال ، ويسبوا النساء والصبيان فانطلقوا إلى هناك ، وبينما كان الناس في المدينة مجتمعين للصلاة يوم السبت هجموا عليهم على غفلة فقتلوا الكل إلا من أفلت إلى الجبال أو اختفى في المغاور ، ونهبوا أموال المدينة وأحرقوها وهدموا أسوارها وخربوا منازلها ، ثم ابتنوا لهم من بسائط ذلك الهدم قلعة حصينة على جبل أكرا ، وكانت العساكر تشرف منها على جميع نواحي الهيكل ، ومن دنا منهم يقتلونه ثم أرسل أنتيوكس أثانيوس ليعلم اليهود طقوس عبادة الأصنام اليونانية ، ويقتل كل من لا يتمثل ذلك الأمر ، فجاء أثانيوس إلى أورشليم ، وساعده على ذلك بعض اليهود الكافرين ، وأبطل الذبيحة اليومية ، ونسخ كل طاعة للدين اليهودي عموما وخصوصا ، وأحرق كل ما وجده من نسخ كتب العهد العتيق بالفحص التام وكرس الهيكل للمشتري ، ونصب صورة ذلك على مذبح اليهود ، وأهلك كل من وجده مخالفا أمر أنتيوكس ، ونجا متاثياس الكاهن مع أبنائه الخمسة في هذه الداهية ، وفروا إلى وطنهم مودين في سبط دان ، فانتقم من هؤلاء الكفار انتقاما ما قدروا عليه - على استطاعته - كما هو مصرح به في التواريخ ، فكيف يصدق هذا الخبر على عيسى - عليه السلام - ؟

                          وإن قالوا : إن المراد ببقاء السلطنة والحكومة امتياز القوم كما يقول بعضهم الآن [ ص: 227 ] ( قلنا ) : هذا الأمر كان باقيا إلى ظهور محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وكانوا في أقطار العرب ذوي حصون وأملاك غير مطيعين لأحد ، مثل يهود خيبر وغيرهم كما تشهد به التواريخ ، وبعد ظهور محمد - صلى الله عليه وسلم - ضربت عليهم الذلة والمسكنة ، وصاروا في كل إقليم مطيعين للغير - فالأليق أن يكون المراد بشيلوه النبي - صلى الله عليه وسلم - لا مسيح اليهود ولا عيسى - عليه السلام - .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية