[ ص: 100 ] ثم انتقل في هذه الآية إلى المطلوب منه جعل الإله لهم ، وهوعليه السلام ، والمطلوب لأجله هذا الجعل - وهو الله تعالى -
وموسى على الحق ، والله تعالى هو الحق والذي يحق الحق ، وبين هذين الحقين وذينك الباطلين غاية المباينة ، فلذلك كان هذا جوابا مستقلا مباينا لما قبله ، بحيث لا ينبغي أن يعطف عليه عطفا ، ولا أن يعد معه عدا ، ولهذا أعاد فيه كلمة ( قال ) كما سنبينه ، وقد قدم فيه ذكر الأهم الأفضل المقصود بالذات من هذين الحقين ، فقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=140أغير الله فغير الله أعم الألفاظ الدالة على المحدثات ، فهو يشمل أخس المخلوقات وأعجزها عن النفع والضر كالأصنام ، ويشمل أفضلها وأكملها كالملائكة والنبيين عليهم السلام ، ليثبت أنه لا يوجد مخلوق يستحق العبادة مع الله تعالى ، وإن علا قدره ، وعظم أمره ، وأن تجهيلهم بما طلبوا لا لأن المطلوب كالأصنام خسيس وباطل في نفسه ، وعرضة للتبار فلا فائدة فيه لغيره - لا لهذا فقط - بل لأن العبادة لا يصح أن تكون لغير الله تعالى ألبتة ، مهما يكن غيره مكرما عنده ، ومفضلا على كثير من خلقه ، على أن طلب عبادة الأخس دليل على منتهى الخسة والجهل ، إذ لا شبهة توهم قدرته على الإثابة أو التقريب من الله عز وجل ، كشبهة من عبدوا الملائكة وبعض النبيين والصالحين زاعمين أنهم بكرامتهم عند الله يقربون إليه من قصر به إيمانه وعمله أن يتقرب إليه بنفسه ، مع إصراره على خبثه ورجسه ، جاهلين بأن الله تعالى أمر المشركين والفاسقين أن يتوبوا ؛ أي : يرجعوا إليه لا إلى غيره من عباده المكرمين ، وأن يدعوه وحده كدعائهم مخلصين له الدين ، وأن يخصوه مثلهم بالعبادة والاستعانة ، وذلك ما فرضه علينا في صلاتنا بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إياك نعبد وإياك نستعين ( 1 : 5 ) .
وبعد أن قدم المقصود بالذات من الإنكار ، وهو جعل غير الله إلها ذكر من أرادوا أن يكون الواسطة في هذا الجعل ، الذي دعا إليه ذلك الجهل ، وهو نفسه عليه السلام بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=140أبغيكم إلها ليعلمهم أن طلب هذا الأمر الإمر والشيء الإد ، والمنكر الفظيع منه عليه السلام جهل بقيمته ، وبمعنى رسالته ، وبما رأوه من جهاده
لفرعون وقومه ، من غير حول ولا قوة له في شخص أخيه ولا في شخصه ، بل بالاتكال على حول الله وقوته ، ولولا إرادة إنكار الأمرين معا : طلب إله مع الله ، وكونه بجعله عليه السلام - لقال : أغير الله تبغون إلها كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=83أفغير دين الله يبغون ( 13 : 83 ) .
ثم أيد هذا الإنكار بما يعرفون من آيات الله تعالى فيهم ، وهو تفضيلهم على أهل زمانهم ، فقد كان أرقى الناس في ذلك العصر
فرعون وقومه بما أوتوا من العلم والقوة والحضارة وسعة الملك ، ومن السيادة على بعض الشعوب ، وقد فضل الله
بني إسرائيل عليهم برسالة
موسى وهارون منهم ، وتجديد ملة
إبراهيم فيهم ، وإيتائهما من الآيات
[ ص: 101 ] ما تقدم بيانه ، وأثره في السياق الذي قبل هذا ، وقيل : إن المراد تفضيلهم على العالمين مطلقا بكثرة الأنبياء والمرسلين منهم ، والأول أظهر ؛ لأنه - عليه السلام - احتج عليهم بما عرفوا ، فيبعد أن يراد به تفضيلهم على القرون الأولى ، وأقوام رسلهم وعلى من سيأتي بعدهم ، وحال كل منهما مجهول عنده وعندهم ، فقد سأل
فرعون موسى عن القرون الأولى فقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=187علمها عند ربي ( 20 : 52 ) والقرون الآخرة بذلك أولى ، وأنت إذا قلت لغني أو عالم إنك أغنى أو أعلم الناس ، أو لملك : إنك أقوى الملوك ، أو في شعب إنه أرقى الشعوب - فإن أحدا لا يفهم من مثل هذا تفضيل من ذكر على غير أهل زمانهم ، ولا سيما من يأتي بعدهم ، وأهل الحضارة في زماننا يعتقدون أن الأجيال الآتية سيكونون خيرا من هذا الجيل ، وكان
موسى يعلم أن هداية الدين سترتقي إلى أن تكمل برسالة خاتم النبيين ، ولكنه أوتي هذا العلم بما أوحاه الله إليه في التوراة ، ولم يكن نزل منها شيء عند طلب
بني إسرائيل منه ما ذكر .
والدليل على أن المراد بتفضيلهم على العالمين ما ذكرنا أنه عطف عليه أعظم مظاهره الحديثة العهد بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=141nindex.php?page=treesubj&link=28978وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نسائكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم قرأ
ابن عامر ( وإذ نجيناكم ) على أنه من مقول
موسى - عليه السلام - قطعا والباقون ( أنجيناكم ) وذكروا فيه احتمالين : أحدهما وهو الأظهر والمتبادر أن يكون مسندا إلى الله - تعالى - متمما لكلام
موسى ، ومبينا المراد منه على طريقة الالتفات عن الحكاية عنه ، ولهذا الالتفات نظائر في التنزيل وفي كلام بلغاء العرب ، ومنه قوله - تعالى - في قصة
موسى من سورة طه :
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=53الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى ( 20 : 53 ) إلخ ، فأول الآية من قول
موسى في جواب
فرعون ، وقوله : ( فأخرجنا ) التفات عن الحكاية ، وانتقال إلى كلامه - تعالى - عن نفسه خاطب به من أنزل إليهم هذا الوحي من خلقه ، تنبيها لهم بتلوين الكلام ، وبما في مخاطبة الرب لهم كفاحا من التأثير الخاص إلى كونه هو المسدي لهذا الإنعام ، واقتصر بعض المفسرين على أن المخاطب بهذه القراءة من كان من
بني إسرائيل في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأفادت قراءة
ابن عامر أن
موسى قالها لقومه في ذلك الوقت ، وأفادت قراءة الآخرين أن
محمدا - صلى الله عليه وسلم - ذكر بها قوم
موسى في زمنه كما تقدم في سورة البقرة ، وهذه فائدة الجمع بين القراءتين وهي من
nindex.php?page=treesubj&link=28741_28899_32450إعجاز إيجاز القرآن .
( الثاني ) أن قراءة الالتفات من جملة الحكاية عن
موسى - عليه الصلاة والسلام - أسند الإنجاء فيها إلى الله - تعالى - مع حذف القول للعلم به من القرينة أو بدونه أو إلى نفسه وحده أو مع أخيه ، للإشارة إلى جعله - تعالى - هذا الإنجاء بسبب رسالتهما وتأييده - تعالى - لهما بتلك الآيات .
[ ص: 102 ] والمعنى : واذكروا إذ أنجاكم الله - تعالى - بفضله ، أو إذ أنجيناكم بإرساله - تعالى - إيانا لأجل ذلك ، وبما أيدنا به من الآيات من
آل فرعون ، حال كونهم يسومونكم سوء العذاب ، بجعلكم عبيدا مسخرين لخدمتهم كالبهائم فلا يعدونكم منهم ، وخص بالذكر من هذا العذاب شر أنواعه بقوله " يقتلون " ما يولد لكم من الذكور ، ويستبقون نساءكم بترك الإناث لكم لتزدادوا ضعفا بكثرتهن - وهذا بدل بعض من كل - وفي ذلكم العذاب والإنجاء منه بفضل الرب الواحد عليكم ، وتفضيله إياكم على أولئك الغالين في الأرض ، وعلى غيركم كسكان البلاد المقدسة التي سترثونها بلاء عظيم ؛ أي : اختبار لكم من ربكم المنفرد بتربيتكم ، وتدبير أموركم ليس وراءه بلاء واختبار ، فإن أجدر الناس بالاعتبار والاستفادة من أحداث الزمان من يعطى النعمة بعد النقمة ، وأحق الناس بمعرفة وحدانية الله - تعالى - وإخلاص العبادة له من يرى من آياته في نفسه ، وفي الآفاق ما يوقن به أنه لا يمكن أن يكون لغيره شركة فيه ؛ أي : فكيف تطلبون بعد هذا كله ممن رأيتم هذه الآيات على يده - وليس له فيها أقل تأثير - أن يجعل لكم إلها من أخس المخلوقات تجعلونه واسطة بينكم وبين الله - تعالى - ، وهو قد فضلكم عليها وعلى عابديها ومن هم أرقى منهم ؟ ! .
وقد غفل
الشهاب الخفاجي عن كون تفضيلهم على العالمين لم يكن إلا بدعوة التوحيد المؤيدة بتلك الآيات ، فزعم أن الاحتجاج به خطابي ، لا برهان عقلي ، واعتذر عن عدم احتجاج
موسى ببرهان التمانع بأنهم من العوام ، وهو لا ينكر أن تلك المعجزات من البراهين القطعية ، وإن اختلف المتكلمون في دلالتها ، هل هي عقلية أو وضعية ؟ وغفل أيضا عن كون برهان التمانع إنما يحتج به على المشركين في الربوبية دون العبادة فقط ، وقد تعقبه في هذا
الآلوسي فقال : وفي إقامة برهان التمانع على الوثنيين القائلين :
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=3ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ( 39 : 3 ) والمجيبين إذا سئلوا : من خلق السماوات والأرض ؟ يخلقهن الله خفاء ، والظاهر إقامته على الوثنية كما لا يخفى ا هـ .
ووجهه أن الوثنية يقولون بوجود ربين إلهين اشتركا في خلق العالم وتدبير أمره ، أحدهما رب النور والخير ، والثاني رب الظلمة والشر ، ويحتج عليهم بأنه لو كان في العالم خالقان مدبران أو أكثر ؛ لامتنع أن يوجد فيه نظام يصلح به أمره إذا فرض جواز وجوده ؛ لأن تعدد المدبرين لأمر الشيء كتعدد الخالقين يقتضي تعدد العلم والإرادة والقدرة التي يكون بها التدبير والخلق والتقدير ، وتعددها يقتضي التغاير والاختلاف فيها ، وإلا فلا تعدد ، وهذا الاختلاف يقتضي التعارض في متعلقاتها بأن يتعلق بعضها بغير ما تعلق به الآخر من ضد ونقيض ، وأي فساد في النظام ، وموجب للاختلال أشد من هذا ؟ وإنما قلنا : إذا جاز وجوده ؛ لأن الإشارة إلى البرهان في قوله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=22لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ( 21 : 22 ) قد بني على أن السماوات
[ ص: 103 ] والأرض موجودتان والنظام فيهما مشاهد بالأبصار والبصائر ، وكما يمتنع استقامة النظام وصلاح التدبير الصادر عن علوم وإرادات قدر مختلفة متعارضة ، كذلك يمتنع صدور الكون نفسه عنها بالأولى .
[ ص: 100 ] ثُمَّ انْتَقَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى الْمَطْلُوبِ مِنْهُ جَعْلُ الْإِلَهِ لَهُمْ ، وَهُوَعَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَالْمَطْلُوبِ لِأَجْلِهِ هَذَا الْجَعْلُ - وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى -
وَمُوسَى عَلَى الْحَقِّ ، وَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْحَقُّ وَالَّذِي يُحِقُّ الْحَقَّ ، وَبَيْنَ هَذَيْنِ الْحَقَّيْنِ وَذَيْنِكَ الْبَاطِلَيْنِ غَايَةُ الْمُبَايَنَةِ ، فَلِذَلِكَ كَانَ هَذَا جَوَابًا مُسْتَقِلًّا مُبَايِنًا لِمَا قَبِلَهُ ، بِحَيْثُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهِ عَطْفًا ، وَلَا أَنْ يَعُدَّ مَعَهُ عَدًّا ، وَلِهَذَا أَعَادَ فِيهِ كَلِمَةَ ( قَالَ ) كَمَا سَنُبَيِّنُهُ ، وَقَدْ قَدَّمَ فِيهِ ذِكْرَ الْأَهَمِّ الْأَفْضَلِ الْمَقْصُودِ بِالذَّاتِ مِنْ هَذَيْنِ الْحَقَّيْنِ ، فَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=140أَغَيْرَ اللَّهِ فَغَيْرُ اللَّهِ أَعَمُّ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُحْدَثَاتِ ، فَهُوَ يَشْمَلُ أَخَسَّ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَعْجَزَهَا عَنِ النَّفْعِ وَالضُّرِّ كَالْأَصْنَامِ ، وَيَشْمَلُ أَفْضَلَهَا وَأَكْمَلَهَا كَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ ، لِيُثْبِتَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ مَخْلُوقٌ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنْ عَلَا قَدْرُهُ ، وَعَظُمَ أَمْرُهُ ، وَأَنَّ تَجْهِيلَهُمْ بِمَا طَلَبُوا لَا لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ كَالْأَصْنَامِ خَسِيسٌ وَبَاطِلٌ فِي نَفْسِهِ ، وَعُرْضَةٌ لِلتَّبَارِ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ لِغَيْرِهِ - لَا لِهَذَا فَقَطْ - بَلْ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى أَلْبَتَّةَ ، مَهْمَا يَكُنْ غَيْرُهُ مُكَرَّمًا عِنْدَهُ ، وَمُفَضَّلًا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِهِ ، عَلَى أَنَّ طَلَبَ عِبَادَةِ الْأَخَسِّ دَلِيلٌ عَلَى مُنْتَهَى الْخِسَّةِ وَالْجَهْلِ ، إِذْ لَا شُبْهَةَ تُوهِمُ قُدْرَتَهُ عَلَى الْإِثَابَةِ أَوِ التَّقْرِيبِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، كَشُبْهَةِ مَنْ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ وَبَعْضَ النَّبِيِّينَ وَالصَّالِحِينَ زَاعِمِينَ أَنَّهُمْ بِكَرَامَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ يُقَرِّبُونَ إِلَيْهِ مَنْ قَصُرَ بِهِ إِيمَانُهُ وَعَمَلُهُ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ ، مَعَ إِصْرَارِهِ عَلَى خُبْثِهِ وَرِجْسِهِ ، جَاهِلِينَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمُشْرِكِينَ وَالْفَاسِقِينَ أَنْ يَتُوبُوا ؛ أَيْ : يَرْجِعُوا إِلَيْهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ مِنْ عِبَادِهِ الْمُكَرَّمِينَ ، وَأَنْ يَدْعُوهُ وَحْدَهُ كَدُعَائِهِمْ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ، وَأَنْ يَخُصُّوهُ مِثْلَهُمْ بِالْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ ، وَذَلِكَ مَا فَرَضَهُ عَلَيْنَا فِي صَلَاتِنَا بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ( 1 : 5 ) .
وَبَعْدَ أَنْ قَدَّمَ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ مِنَ الْإِنْكَارِ ، وَهُوَ جَعْلُ غَيْرِ اللَّهِ إِلَهًا ذَكَرَ مَنْ أَرَادُوا أَنْ يَكُونَ الْوَاسِطَةَ فِي هَذَا الْجَعْلِ ، الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْجَهْلُ ، وَهُوَ نَفْسُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=140أَبْغِيكُمْ إِلَهًا لِيُعَلِّمَهُمْ أَنَّ طَلَبَ هَذَا الْأَمْرِ الْإِمْرِ وَالشَّيْءِ الْإِدِّ ، وَالْمُنْكَرِ الْفَظِيعِ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَهْلٌ بِقِيمَتِهِ ، وَبِمَعْنَى رِسَالَتِهِ ، وَبِمَا رَأَوْهُ مِنْ جِهَادِهِ
لِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ، مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ وَلَا قُوَّةٍ لَهُ فِي شَخْصِ أَخِيهِ وَلَا فِي شَخْصِهِ ، بَلْ بِالِاتِّكَالِ عَلَى حَوْلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ ، وَلَوْلَا إِرَادَةُ إِنْكَارِ الْأَمْرَيْنِ مَعًا : طَلَبُ إِلَهٍ مَعَ اللَّهِ ، وَكَوْنُهُ بِجَعْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَقَالَ : أَغَيْرَ اللَّهِ تَبْغُونَ إِلَهًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=83أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ ( 13 : 83 ) .
ثُمَّ أَيَّدَ هَذَا الْإِنْكَارَ بِمَا يَعْرِفُونَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ ، وَهُوَ تَفْضِيلُهُمْ عَلَى أَهْلِ زَمَانِهِمْ ، فَقَدْ كَانَ أَرْقَى النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ
فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ بِمَا أُوتُوا مِنَ الْعِلْمِ وَالْقُوَّةِ وَالْحَضَارَةِ وَسَعَةِ الْمُلْكِ ، وَمِنَ السِّيَادَةِ عَلَى بَعْضِ الشُّعُوبِ ، وَقَدْ فَضَّلَ اللَّهُ
بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَيْهِمْ بِرِسَالَةِ
مُوسَى وَهَارُونَ مِنْهُمْ ، وَتَجْدِيدِ مِلَّةِ
إِبْرَاهِيمَ فِيهِمْ ، وَإِيتَائِهِمَا مِنَ الْآيَاتِ
[ ص: 101 ] مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، وَأَثَرُهُ فِي السِّيَاقِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا ، وَقِيلَ : إِنَّ الْمُرَادَ تَفْضِيلُهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ مُطْلَقًا بِكَثْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ مِنْهُمْ ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِمَا عَرَفُوا ، فَيَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ بِهِ تَفْضِيلُهُمْ عَلَى الْقُرُونِ الْأَوْلَى ، وَأَقْوَامِ رُسُلِهِمْ وَعَلَى مَنْ سَيَأْتِي بَعْدَهُمْ ، وَحَالُ كُلٍّ مِنْهُمَا مَجْهُولٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمْ ، فَقَدْ سَأَلَ
فِرْعَوْنُ مُوسَى عَنِ الْقُرُونِ الْأُولَى فَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=187عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي ( 20 : 52 ) وَالْقُرُونُ الْآخِرَةُ بِذَلِكَ أَوْلَى ، وَأَنْتَ إِذَا قُلْتَ لِغَنِيٍّ أَوْ عَالِمٍ إِنَّكَ أَغْنَى أَوْ أَعْلَمُ النَّاسِ ، أَوْ لِمَلِكٍ : إِنَّكَ أَقْوَى الْمُلُوكِ ، أَوْ فِي شَعْبٍ إِنَّهُ أَرْقَى الشُّعُوبِ - فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَفْهَمُ مِنْ مِثْلِ هَذَا تَفْضِيلَ مَنْ ذَكَرَ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ زَمَانِهِمْ ، وَلَا سِيَّمَا مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ ، وَأَهْلُ الْحَضَارَةِ فِي زَمَانِنَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْأَجْيَالَ الْآتِيَةَ سَيَكُونُونَ خَيْرًا مِنْ هَذَا الْجِيلِ ، وَكَانَ
مُوسَى يَعْلَمُ أَنَّ هِدَايَةَ الدِّينِ سَتَرْتَقِي إِلَى أَنْ تَكْمُلَ بِرِسَالَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ ، وَلَكِنَّهُ أُوتِيَ هَذَا الْعِلْمَ بِمَا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي التَّوْرَاةِ ، وَلَمْ يَكُنْ نَزَلَ مِنْهَا شَيْءٌ عِنْدَ طَلَبِ
بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْهُ مَا ذَكَرَ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِتَفْضِيلِهِمْ عَلَى الْعَالَمِينَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ أَعْظَمَ مَظَاهِرِهِ الْحَدِيثَةِ الْعَهْدِ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=141nindex.php?page=treesubj&link=28978وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَائَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ قَرَأَ
ابْنُ عَامِرٍ ( وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ ) عَلَى أَنَّهُ مِنْ مَقُولِ
مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَطْعًا وَالْبَاقُونَ ( أَنْجَيْنَاكُمْ ) وَذَكَرُوا فِيهِ احْتِمَالَيْنِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَالْمُتَبَادَرُ أَنْ يَكُونَ مُسْنَدًا إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - مُتَمِّمًا لِكَلَامِ
مُوسَى ، وَمُبِيِّنًا الْمُرَادَ مِنْهُ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ عَنِ الْحِكَايَةِ عَنْهُ ، وَلِهَذَا الِالْتِفَاتُ نَظَائِرُ فِي التَّنْزِيلِ وَفِي كَلَامِ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي قِصَّةِ
مُوسَى مِنْ سُورَةِ طه :
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=53الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى ( 20 : 53 ) إِلَخْ ، فَأَوَّلُ الْآيَةِ مِنْ قَوْلِ
مُوسَى فِي جَوَابِ
فِرْعَوْنَ ، وَقَوْلُهُ : ( فَأَخْرَجْنَا ) الْتِفَاتٌ عَنِ الْحِكَايَةِ ، وَانْتِقَالٌ إِلَى كَلَامِهِ - تَعَالَى - عَنْ نَفْسِهِ خَاطَبَ بِهِ مَنْ أَنْزَلَ إِلَيْهِمْ هَذَا الْوَحْيَ مِنْ خَلْقِهِ ، تَنْبِيهًا لَهُمْ بِتَلْوِينِ الْكَلَامِ ، وَبِمَا فِي مُخَاطَبَةِ الرَّبِّ لَهُمْ كِفَاحًا مِنَ التَّأْثِيرِ الْخَاصِّ إِلَى كَوْنِهِ هُوَ الْمُسْدِي لِهَذَا الْإِنْعَامِ ، وَاقْتَصَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ مَنْ كَانَ مِنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَفَادَتْ قِرَاءَةُ
ابْنُ عَامِرٍ أَنَّ
مُوسَى قَالَهَا لِقَوْمِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَأَفَادَتْ قِرَاءَةُ الْآخَرِينَ أَنَّ
مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَّرَ بِهَا قَوْمَ
مُوسَى فِي زَمَنِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَهَذِهِ فَائِدَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ وَهِيَ مِنْ
nindex.php?page=treesubj&link=28741_28899_32450إِعْجَازِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ .
( الثَّانِي ) أَنَّ قِرَاءَةَ الِالْتِفَاتِ مِنْ جُمْلَةِ الْحِكَايَةِ عَنْ
مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَسْنَدَ الْإِنْجَاءَ فِيهَا إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - مَعَ حَذْفِ الْقَوْلِ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنَ الْقَرِينَةِ أَوْ بِدُونِهِ أَوْ إِلَى نَفْسِهِ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ أَخِيهِ ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى جَعْلِهِ - تَعَالَى - هَذَا الْإِنْجَاءَ بِسَبَبِ رِسَالَتِهِمَا وَتَأْيِيدِهِ - تَعَالَى - لَهُمَا بِتِلْكَ الْآيَاتِ .
[ ص: 102 ] وَالْمَعْنَى : وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْجَاكُمُ اللَّهُ - تَعَالَى - بِفَضْلِهِ ، أَوْ إِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ بِإِرْسَالِهِ - تَعَالَى - إِيَّانَا لِأَجْلِ ذَلِكَ ، وَبِمَا أَيَّدَنَا بِهِ مِنَ الْآيَاتِ مِنْ
آلِ فِرْعَوْنَ ، حَالَ كَوْنِهِمْ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ، بِجَعْلِكُمْ عَبِيدًا مُسَخَّرِينَ لِخِدْمَتِهِمْ كَالْبَهَائِمِ فَلَا يَعُدُّونَكُمْ مِنْهُمْ ، وَخَصَّ بِالذِّكْرِ مِنْ هَذَا الْعَذَابِ شَرَّ أَنْوَاعِهِ بِقَوْلِهِ " يُقَتِّلُونَ " مَا يُوَلَدُ لَكُمْ مِنَ الذُّكُورِ ، وَيَسْتَبْقُونَ نِسَاءَكُمْ بِتَرْكِ الْإِنَاثِ لَكُمْ لِتَزْدَادُوا ضَعْفًا بِكَثْرَتِهِنَّ - وَهَذَا بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ - وَفِي ذَلِكُمُ الْعَذَابِ وَالْإِنْجَاءِ مِنْهُ بِفَضْلِ الرَّبِّ الْوَاحِدِ عَلَيْكُمْ ، وَتَفْضِيلِهِ إِيَّاكُمْ عَلَى أُولَئِكَ الْغَالِينَ فِي الْأَرْضِ ، وَعَلَى غَيْرِكُمْ كَسُكَّانِ الْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي سَتَرِثُونَهَا بَلَاءٌ عَظِيمٌ ؛ أَيِ : اخْتِبَارٌ لَكُمْ مِنْ رَبِّكُمُ الْمُنْفَرِدِ بِتَرْبِيَتِكُمْ ، وَتَدْبِيرِ أُمُورِكُمْ لَيْسَ وَرَاءَهُ بَلَاءٌ وَاخْتِبَارٌ ، فَإِنَّ أَجْدَرَ النَّاسِ بِالِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِفَادَةِ مِنْ أَحْدَاثِ الزَّمَانِ مَنْ يُعْطَى النِّعْمَةَ بَعْدَ النِّقْمَةِ ، وَأَحَقَّ النَّاسِ بِمَعْرِفَةِ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ مَنْ يَرَى مِنْ آيَاتِهِ فِي نَفْسِهِ ، وَفِي الْآفَاقِ مَا يُوقِنُ بِهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ شَرِكَةً فِيهِ ؛ أَيْ : فَكَيْفَ تَطْلُبُونَ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ مِمَّنْ رَأَيْتُمْ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى يَدِهِ - وَلَيْسَ لَهُ فِيهَا أَقَلُّ تَأْثِيرٍ - أَنْ يَجْعَلَ لَكُمْ إِلَهًا مِنْ أَخَسِّ الْمَخْلُوقَاتِ تَجْعَلُونَهُ وَاسِطَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ - تَعَالَى - ، وَهُوَ قَدْ فَضَّلَكُمْ عَلَيْهَا وَعَلَى عَابِدِيهَا وَمَنْ هُمْ أَرْقَى مِنْهُمْ ؟ ! .
وَقَدْ غَفَلَ
الشِّهَابُ الْخَفَاجِيُّ عَنْ كَوْنِ تَفْضِيلِهِمْ عَلَى الْعَالَمِينَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِدَعْوَةِ التَّوْحِيدِ الْمُؤَيَّدَةِ بِتِلْكَ الْآيَاتِ ، فَزَعَمَ أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِهِ خِطَابِيٌّ ، لَا بُرْهَانٌ عَقْلِيٌّ ، وَاعْتَذَرَ عَنْ عَدَمِ احْتِجَاجِ
مُوسَى بِبُرْهَانِ التَّمَانُعِ بِأَنَّهُمْ مِنَ الْعَوَامِّ ، وَهُوَ لَا يُنْكِرُ أَنَّ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ مِنَ الْبَرَاهِينِ الْقَطْعِيَّةِ ، وَإِنِ اخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي دَلَالَتِهَا ، هَلْ هِيَ عَقْلِيَّةٌ أَوْ وَضْعِيَّةٌ ؟ وَغَفَلَ أَيْضًا عَنْ كَوْنِ بُرِهَانِ التَّمَانُعِ إِنَّمَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي الرُّبُوبِيَّةِ دُونَ الْعِبَادَةِ فَقَطْ ، وَقَدْ تَعَقَّبَهُ فِي هَذَا
الْآلُوسِيُّ فَقَالَ : وَفِي إِقَامَةِ بُرِهَانِ التَّمَانُعِ عَلَى الْوَثَنِيِّينَ الْقَائِلِينَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=3مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ( 39 : 3 ) وَالْمُجِيبِينَ إِذَا سُئِلُوا : مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ؟ يَخْلُقُهُنَّ اللَّهُ خَفَاءً ، وَالظَّاهِرُ إِقَامَتُهُ عَلَى الْوَثَنِيِّةِ كَمَا لَا يَخْفَى ا هـ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوَثَنِيَّةَ يَقُولُونَ بِوُجُودِ رَبَّيْنِ إِلَهَيْنِ اشْتَرَكَا فِي خَلْقِ الْعَالَمِ وَتَدْبِيرِ أَمْرِهِ ، أَحَدُهُمَا رَبُّ النُّورِ وَالْخَيْرِ ، وَالثَّانِي رَبُّ الظُّلْمَةِ وَالشَّرِّ ، وَيُحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْعَالَمِ خَالِقَانِ مُدَبِّرَانِ أَوْ أَكْثَرُ ؛ لَامْتَنَعَ أَنْ يُوجَدَ فِيهِ نِظَامٌ يَصْلُحُ بِهِ أَمْرُهُ إِذَا فُرِضَ جَوَازُ وُجُودِهِ ؛ لِأَنَّ تَعَدُّدَ الْمُدَبِّرِينَ لِأَمْرِ الشَّيْءِ كَتَعَدُّدِ الْخَالِقِينَ يَقْتَضِي تَعَدُّدَ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا التَّدْبِيرُ وَالْخَلْقُ وَالتَّقْدِيرُ ، وَتَعَدُّدُهَا يَقْتَضِي التَّغَايُرَ وَالِاخْتِلَافَ فِيهَا ، وَإِلَّا فَلَا تَعَدُّدَ ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ يَقْتَضِي التَّعَارُضَ فِي مُتَعَلِّقَاتِهَا بِأَنْ يَتَعَلَّقَ بَعْضُهَا بِغَيْرِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْآخَرُ مِنْ ضِدٍّ وَنَقِيضٍ ، وَأَيُّ فَسَادٍ فِي النِّظَامِ ، وَمُوجِبٍ لِلِاخْتِلَالِ أَشَدُّ مِنْ هَذَا ؟ وَإِنَّمَا قُلْنَا : إِذَا جَازَ وُجُودُهُ ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى الْبُرْهَانِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=22لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهَ لَفَسَدَتَا ( 21 : 22 ) قَدْ بُنِيَ عَلَى أَنَّ السَّمَاوَاتِ
[ ص: 103 ] وَالْأَرْضَ مَوْجُودَتَانِ وَالنِّظَامَ فِيهِمَا مُشَاهَدٌ بِالْأَبْصَارِ وَالْبَصَائِرِ ، وَكَمَا يَمْتَنِعُ اسْتِقَامَةُ النِّظَامِ وَصَلَاحُ التَّدْبِيرِ الصَّادِرِ عَنْ عُلُومٍ وَإِرَادَاتِ قَدَرٍ مُخْتَلِفَةٍ مُتَعَارِضَةٍ ، كَذَلِكَ يَمْتَنِعُ صُدُورُ الْكَوْنِ نَفْسُهُ عَنْهَا بِالْأَوْلَى .