[ ص: 78 ] إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا قال الأستاذ الإمام : هذا تعليل أو بمنزلة التعليل لكل هذه الوصايا المتقدمة ، والمختال : هو المتكبر الذي يظهر على بدنه أثر من كبره في الحركات والأعمال ، فترى نفسه أعلى من نفوس الناس ، وأنه يجب على غيره أن يتحمل من تيهه ما لا يتحمله هو منه ، فالمختال : من تمكنت في نفسه ملكة الكبر ، وظهر أثرها في عمله وشمائله ، فهو شر من المتكبر غير المختال ، والفخور : هو المتكبر الذي يظهر أثر الكبر في قوله كما يظهر في فعل المختال ، فهو يذكر ما يرى أنه ممتاز به على الناس تبجحا بنفسه وتعريضا باحتقاره غيره ، فالمختال الفخور مبغوض عند الله تعالى ; لأنه احتقر جميع الحقوق التي وضعها الله عز وجل ، وأوجبها للناس ، وعمي عن نعمه تعالى عليهم وعنايته بهم ، بل لا يجد هذا المتكبر في نفسه معنى عظمة الله وكبريائه ; لأنه لو وجدها لتأدب وشعر بضعفه وعجزه وصغاره ، فهو جاحد أو كالجاحد لصفات الألوهية التي لا تليق إلا بها ولا تكون بحق إلا لها ، فمن فتش نفسه وحاسبها ، علم أنه لا يعينه على القيام بعبادة الله تعالى ويطهره من نزغات الشرك به ومنازعته في صفاته ، ويسهل عليه القيام بوصاياه هذه ، وبغيرها إلى سكون النفس ومعرفتها قدرها ببراءتها من خلق الكبر الخبيث الذي تظهر آثار تمكنه ورسوخه بالخيلاء والفخر ، إن المختال لا يقوم بعبادة الله تعالى ؛ لأن عملا ما لا يسمى عبادة إلا إذا كان صادرا عن الشعوب بعظمة المعبود وسلطانه الأعلى غير المحدود ، ومن أوتي هذا الشعور خشع قلبه ، ومن خشع قلبه خشعت جوارحه فلا يكون مختالا ، إن المختال لا يقوم بحقوق الوالدين ، ولا حقوق ذوي القربى ؛ لأنه لا يشعر بما عليه من الحق لغيره ، وإذا كان لا يقوم بحقوق الوالدين وفضلهما عليه ليس فوقه فضل إلا الله تعالى ، ولا بحقوق ذوي القربى وهم بمقتضى النسب في طبقته ، فهل يرى نفسه مطالبا بحق ما لليتيم الضعيف ، أو للمسكين الأسيف ، أو للجار القريب أو البعيد ، أو للصاحب النبيه أو المغمول ، أو لابن السبيل المعروف أو المجهول ؟ كلا إن هذا رجل مفتون بنفسه مسحور في عقله وحسه ، فلا يرجى منه البر والإحسان ، وإنما يتوقع منه الإساءة والكفران ، انتهى بتصرف وزيادة .
وأقول : ليس من الكبر والخيلاء أن يكون المرء وقورا في غير غلظة ، عزيز النفس مع الأدب والرقة ، حسن الثياب بلا تطرس ، ولا ابتغاء شهرة ، روى مسلم ، وأبو داود ، من حديث والترمذي قال : ابن مسعود الكبر بطر الحق وغمص الناس وبطر الحق : رده استخفافا به وترفعا أو عنادا ، وغمص الناس وغمطهم : احتقارهم والازدراء بهم ، وروى قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ، فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا [ ص: 79 ] ونعله حسنة ، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إن الله جميل يحب الجمال ، الطبراني وابن مردويه ، قال : كنت عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقرأ هذه الآية فذكر الكبر وعظمه فبكى ثابت بن قيس بن شماس ثابت ، فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " ما يبكيك " ؟ فقال : يا رسول الله ، إني لأحب الجمال حتى إنه ليعجبني أن يحسن شراك نعلي ، قال : فأنت من أهل الجنة إنه ليس بالكبر أن تحسن راحلتك ورحلك ، ولكن الكبر من سفه الحق وغمص الناس ، وروى عن أبو داود من حديث : أبي هريرة ، ومن الخيلاء إطالة الثياب وجر الأذيال بطرا ، ومنه مشية المرح ، فترى الشاب يتمطى ويمرح ويأرن كالمهر أو العجل ويضرب برجليه الأرض : أن رجلا جميلا أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : إني أحب الجمال وقد أعطيت منه ما ترى حتى ما أحب أن يفوقني أحد بشراك نعل فمن الكبر ذلك ؟ قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لا ، ولكن الكبر من بطر الحق وغمص الناس ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ( 17 : 37 ) ، ولكن يجوز ذلك في الحرب ، ومثله التعليم العسكري ، والفخور : كثير الفخر يعد مناقبه ويزكي نفسه تعاظما وتطاولا على الناس وتعريضا بنقصهم وتقصيرهم عن بلوغ مداه ، والجمع بين هاتين الخلتين ـ الخيلاء وكثرة الفخر هو التناهي في الكبرياء والعتو على الله تعالى باحتقار خلقه ، والامتناع عن الإحسان إليهم بالقول والعمل بدلا من الفخر والزهو عليهم بالقول والعمل ، ولا سيما أصحاب تلك الحقوق المؤكدة والأحاديث في ذلك كثيرة ، وكانوا يتفاخرون في الجاهلية بآبائهم فنهوا عن ذلك في الأحاديث صريحا فتركوه ، والفخر في الشعر إذا أريد به الترغيب في الفضيلة فلا بأس به ، وإلا كان مذموما .