ولما كان الكف عن هؤلاء مما قد يثقل على المسلمين ، لما جرت عليه عادة العرب من الشدة في أمر المعاهدين والمحالفين وتكليفهم قتال كل أحد يقاتل محالفيهم ، ولو كانوا من الأهل والأقربين ، قال تعالى مخففا ذلك عنهم ، ومؤكدا أمر منع قتال المسالمين ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم  ، أي : إن من رحمته تعالى بكم أن كف عنكم بأس هاتين الفئتين وصرفهم عن قتالكم ، ولو شاء أن يسلطهم عليكم لسلطهم فلقاتلوكم ، وذلك بأن يسوق إليهم من الأخبار ويلهمهم من الآراء ما يرجحون به ذلك ، ولكنه بتوفيقه ونظامه في الأسباب والمسببات ، وسننه في الأفراد وحال الاجتماع ، جعل الناس في ذلك العصر أزواجا ثلاثة : 
1 - السليمو الفطرة الأقوياء الاستقلال ، وهم الذين سارعوا إلى الإيمان . 
2 - المتوسطون ، هم الذين رجحوا مسالمة المسلمين فلم يكونوا معهم من أول وهلة ولا أشداء عليهم . 
3 - الموغلون في الضلال والشرك والراسخون في التقليد والمحافظة على القديم ، وهم المحاربون . 
وإذا كان وجود هؤلاء المسالمين بمشيئته الموافقة لحكمه وسننه فلا يثقل عليكم اتباع أمره بترك قتالهم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا  ، أي : فإن اعتزلكم أولئك الذين يمتون إليكم بإحدى تينك الطريقتين فلم يقاتلونكم وألقوا إليكم السلم ، أي : أعطوكم زمام أمرهم في المسالمة ، بحيث وثقتم بها وثوق المرء بما يلقى إليه ، فما جعل الله لكم طريقا تسلكونها إلى الاعتداء عليهم ، فإن أصل شرعه الذي هداكم إليه ألا تقاتلوا إلا من يقاتلكم ، ولا تعتدوا إلا على من اعتدى عليكم . 
وفي الآية من الأحكام على قول من قالوا : إنهم كانوا مسلمين أو مظهرين للإسلام ثم ارتدوا أن المرتدين لا يقتلون إذا كانوا مسالمين لا يقاتلون  ، ولا يوجد في القرآن نص بقتل المرتد فيجعل ناسخا لقوله : فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم  إلخ ، نعم ثبت في الحديث الصحيح الأمر بقتل من بدل دينه وعليه الجمهور ، وفي نسخ القرآن بالسنة  الخلاف المشهور ، ويؤيد الحديث عمل الصحابة ، وقد يقال : إن قتالهم للمرتدين في أول خلافة أبي بكر  كان بالاجتهاد ; فإنهم قاتلوا من تركوا الدين بالمرة كطيئ  وأسد  ، وقاتلوا من منع الزكاة من تميم  وهوازن    ; لأن الذين ارتدوا صاروا إلى عادة الجاهلية حربا لكل أحد لم يعاهدوه على ترك   [ ص: 267 ] الحرب ، والذين منعوا الزكاة كانوا مفرقين لجماعة الإسلام ناثرين لنظامهم ، والرجل الواحد إذا منع الزكاة  لا يقتل عند الجمهور . 
أما قول من قال : المراد بالمنافقين هنا العرنيون  ، ففيه أن قتل العرنيين  كان لمخادعتهم وغدرهم وقتلهم راعي الإبل التي أعطاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتمثيلهم به ، على أن هذا القول واه جدا لأن العرنيين  لا يأتي فيهم التفصيل الذي في الآيات ، ولكن من هم هؤلاء ؟ 
روى  ابن أبي حاتم  وابن مردويه  عن الحسن  أن سراقة بن مالك المدلجي  حدثهم قال : " لما ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أهل بدر   وأحد  وأسلم من حولهم قال سراقة    : بلغني أنه - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يبعث  خالد بن الوليد  إلى قومي من بني مدلج  فأتيته ، فقلت : أنشدك النعمة ، فقالوا : مه ، فقال : دعوه ، ما تريد ؟ قلت : بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي ، وأنا أريد أن توادعهم فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام وإن لم يسلموا لم تخش بقلوب قومك عليهم ، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيد خالد  فقال : " اذهب معه فافعل ما يريد " فصالحهم خالد  على ألا يعينوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن أسلمت قريش  أسلموا معهم ، ومن وصل إليهم من الناس كان لهم مثل عهدهم ، فأنزل الله - تعالى - : ودوا حتى بلغ ، إلا الذين يصلون  ، فكأن من وصل إليهم كانوا معهم على عهدهم ، انتهى من لباب النقول ، وعزا الألوسي  هذه الرواية إلى  ابن أبي شيبة  ، وروى  ابن جرير  عن عكرمة  أنه قال : نزلت في هلال بن عويمر الأسلمي  وسراقة بن مالك بن جعشم  وخزيمة بن عامر بن عبد مناف  ، انتهى من تفسيره ، وعزا السيوطي  هذه الرواية في اللباب إلى  ابن أبي حاتم  فقط ، ثم قال : وأخرج أيضا عن مجاهد  أنها أنزلت في هلال بن عويمر الأسلمي  وكان بينه وبين المسلمين عهد وقصده ناس من قومه فكره أن يقاتل المسلمين وكره أن يقاتل قومه . 
وقال الرازي  تبعا للكشاف : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وادع وقت خروجه إلى مكة  هلال بن عويمر الأسلمي  على ألا يعصيه ولا يعين عليه ، وعلى أن كل من وصل إلى هلال  ولجأ إليه فله من الجوار مثل ما لهلال    . 
وهذه الروايات كلها ترد ما ذكره السيوطي  في أسباب نزول الآية الأولى صحيحة السند وضعيفته ، وتؤيد ما قاله الأستاذ الإمام في كون المنافقين في هذا السياق هم المنافقين في العهد والولاء . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					