فصل .  
الإيجاز قسمان : إيجاز قصر وإيجاز حذف     .  
فالأول هو الوجيز بلفظه .  
قال الشيخ  بهاء الدين     : الكلام القليل إن كان بعضا من كلام أطول منه فهو إيجاز حذف وإن كان كلاما يعطي معنى أطول منه فهو إيجاز قصر .  
وقال بعضهم : إيجاز القصر هو تكثير المعنى بتقليل اللفظ .  
وقال آخر : هو أن يكون اللفظ بالنسبة إلى المعنى أقل من القدر المعهود عادة ، وسبب حسنه أنه يدل على التمكن في الفصاحة ؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم :  أوتيت جوامع      [ ص: 76 ] الكلم  ، وقال  الطيبي  في " التبيان " : الإيجاز الخالي من الحذف ثلاثة أقسام :  
أحدها :  إيجاز القصر     : وهو أن يقصر اللفظ على معناه كقوله :  إنه من سليمان   إلى قوله :  وأتوني مسلمين      [ النمل : 30 ، 31 ] ، جمع في أحرف العنوان والكتاب والحاجة . وقيل : في وصف بليغ : كانت ألفاظه قوالب معناه .  
قلت : وهذا رأي من يدخل المساواة في الإيجاز .  
الثاني :  إيجاز التقدير  ، وهو أن يقدر معنى زائدا على المنطوق ، ويسمى بالتضييق أيضا ، وبه سماه  بدر الدين بن مالك  في المصباح ؛ لأنه نقص من الكلام ما صار لفظه أضيق من قدر معناه ، نحو :  فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف      [ البقرة : 275 ] ؛ أي : خطاياه غفرت فهي له لا عليه .  هدى للمتقين      [ البقرة : 2 ] ؛ أي : الضالين الصائرين بعد الضلال إلى التقوى .  
الثالث :  الإيجاز الجامع  ، وهو أن يحتوي اللفظ على معان متعددة ، نحو :  إن الله يأمر بالعدل والإحسان      [ النحل : 90 ] الآية ، فإن العدل هو الصراط المستقيم المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط ، المومى به إلى جميع الواجبات في الاعتقاد والأخلاق والعبودية .  
والإحسان     : هو الإخلاص في واجبات العبودية لتفسيره في الحديث بقوله :  أن تعبد الله كأنك تراه  ؛ أي : تعبده مخلصا في نيتك ، وواقفا في الخضوع ، آخذا أهبة الحذر إلى ما لا يحصى .  وإيتاء ذي القربى   هو الزيادة على الواجب من النوافل . هذا في الأوامر ، وأما النواهي : فب ( الفحشاء ) الإشارة إلى القوة الشهوانية ، وب ( المنكر ) إلى الإفراط الحاصل من آثار الغضبية ، أو كل محرم شرعا ، وب ( البغي ) إلى الاستعلاء الفائض عن الوهمية .  
قلت : ولهذا  قال   ابن مسعود     : ما في القرآن آية أجمع للخير والشر من هذه الآية ،   [ ص: 77 ] أخرجه في المستدرك .  
وروى  البيهقي  في شعب الإيمان  عن  الحسن  أنه قرأها يوما ثم وقف فقال : إن الله جمع لكم الخير كله والشر كله في آية واحدة ، فوالله ما ترك العدل والإحسان من طاعة الله شيئا إلا جمعه ، ولا ترك الفحشاء والمنكر والبغي من معصية الله شيئا إلا جمعه .  
وروى أيضا  عن   ابن شهاب  في معنى حديث الشيخين :  بعثت بجوامع الكلم  قال : بلغني أن جوامع الكلم أن الله يجمع له الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد والأمرين ، ونحو ذلك ، ومن ذلك قوله تعالى :  خذ العفو      [ الأعراف : 199 ] الآية ، فإنها جامعة لمكارم الأخلاق ; لأن في أخذ العفو التساهل والتسامح في الحقوق واللين والرفق في الدعاء إلى الدين ، وفي الأمر بالمعروف كف الأذى وغض البصر وما شاكلهما من المحرمات ، وفي الإعراض بالصبر والحلم والتؤدة     .  
ومن بديع الإيجاز  قوله تعالى :  قل هو الله أحد      [ الإخلاص : 1 ] ، إلى آخرها ، فإنه نهاية التنزيه وقد تضمنت الرد على نحو : أربعين فرقة ، كما أفرد ذلك بالتصنيف  بهاء الدين بن شداد     .  
وقوله :  أخرج منها ماءها ومرعاها      [ النازعات : 31 ] ، دل بهاتين الكلمتين على جميع ما أخرجه من الأرض قوتا ومتاعا للأنام من العشب والشجر والحب والثمر والعصف والحطب واللباس والنار والملح ؛ لأن النار من العيدان والملح من الماء .  
وقوله :  لا يصدعون عنها ولا ينزفون      [ الواقعة : 19 ] ، جمع فيه جميع عيوب الخمر من الصداع ، وعدم العقل ، وذهاب المال ، ونفاذ الشراب .  
وقوله :  وقيل يا أرض ابلعي ماءك      [ هود : 44 ] الآية ، أمر فيها ونهى وأخبر ونادى ،      [ ص: 78 ] ونعت وسمى ، وأهلك وأبقى ، وأسعد وأشقى ، وقص من الأنباء ما لو شرح ما اندرج في هذه الجملة من بديع اللفظ والبلاغة والإيجاز والبيان لجفت الأقلام . وقد أفردت بلاغة هذه الآية بالتأليف .  
وفي العجائب  للكرماني     : أجمع المعاندون على أن طوق البشر قاصر عن الإتيان بمثل هذه الآية ، بعد أن فتشوا جميع كلام العرب والعجم ، فلم يجدوا مثلها في فخامة ألفاظها ، وحسن نظمها ، وجودة معانيها في تصوير الحال مع الإيجاز من غير إخلال .  
وقوله تعالى :  ياأيها النمل ادخلوا مساكنكم      [ النمل : 18 ] الآية ، جمع في هذه اللفظة أحد عشر جنسا من الكلام : نادت ، وكنت ، ونبهت ، وسمت ، وأمرت ، وقصت ، وحذرت ، وخصت ، وعمت ، وأشارت ، وعذرت .  
فالنداء : ( يا ) ، والكناية : ( أي ) ، والتنبيه : ( ها ) ، والتسمية : ( النمل ) ، والأمر : ( ادخلوا ) ، والقصص : (  مساكنكم      ) ، والتحذير : (  لا يحطمنكم      ) ، والتخصيص : (  سليمان      ) ، والتعميم : ( جنوده ) ، والإشارة : ( وهم ) ، والعذر : (  لا يشعرون      ) ، فأدت خمسة حقوق : حق الله ، وحق رسوله ، وحقها ، وحق رعيتها ، وحق جنود  سليمان      .  
وقوله :  يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد      [ الأعراف : 31 ] الآية ، جمع فيها أصول الكلام : النداء ، والعموم ، والخصوص ، والأمر ، والإباحة ، والنهي ، والخبر .  
وقال بعضهم : جمع الله الحكمة في شطر آية :  وكلوا واشربوا ولا تسرفوا      [ الأعراف : 31 ] .  
وقوله تعالى :  وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه      [ القصص : 7 ] الآية ، قال  ابن العربي     : هي من أعظم آي في القرآن فصاحة ؛ إذ فيها أمران ونهيان وخبران وبشارتان .  
وقوله :  فاصدع بما تؤمر      [ الحجر : 94 ] ، قال  ابن أبي الإصبع     : المعنى صرح بجميع ما أوحي إليك ، وبلغ كل ما أمرت ببيانه ، وإن شق بعض ذلك على بعض القلوب فانصدعت . والمشابهة بينهما فيما يؤثره التصريح في القلوب ، فيظهر أثر ذلك على ظاهر الوجوه من التقبض والانبساط ، ويلوح عليها من علامات الإنكار والاستبشار ، كما يظهر على ظاهر الزجاجة المصدوعة ، فانظر إلى جليل هذه الاستعارة ، وعظم إيجازها ، وما انطوت عليه من المعاني الكثيرة .  
وقد حكي أن بعض الأعراب لما سمع هذه الآية سجد      [ ص: 79 ] وقال : سجدت لفصاحة هذا الكلام .  
وقوله تعالى :  وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين      [ الزخرف : 71 ] ، قال بعضهم : جمع بهاتين اللفظتين ما لو اجتمع الخلق كلهم على وصف ما فيها على التفصيل لم يخرجوا عنه .  
وقوله تعالى :  ولكم في القصاص حياة      [ البقرة : 179 ] ، فإن معناه كثير ولفظه قليل ؛ لأن معناه أن الإنسان إذا علم أنه متى قتل قتل كان ذلك داعيا إلى أن لا يقدم على القتل ، فارتفع بالقتل - الذي هو القصاص - كثير من قتل الناس بعضهم لبعض ، وكان ارتفاع القتل حياة لهم .  
وقد  فضلت هذه الجملة على أوجز ما كان عند العرب في هذا المعنى ، وهو قولهم : القتل أنفى للقتل بعشرين وجها أو أكثر  ، وقد أشار  ابن الأثير  إلى إنكار هذا التفضيل وقال : لا تشبيه بين كلام الخالق وكلام المخلوق ، وإنما العلماء يقدحون أذهانهم فيما يظهر لهم من ذلك .  
الأول : أن ما يناظره من كلامهم وهو قوله :  القصاص حياة   أقل حروفا ، فإن حروفه عشرة وحروف ( القتل أنفى للقتل ) أربعة عشر .  
الثاني : أن نفي القتل لا يستلزم الحياة ، والآية ناصة على ثبوت التي هي الغرض المطلوب منه .  
الثالث : أن تنكير ( حياة ) يفيد تعظيما ، فيدل على أن في القصاص حياة متطاولة كقوله تعالى :  ولتجدنهم أحرص الناس على حياة      [ البقرة : 96 ] ، ولا كذلك المثل ، فإن اللام فيها للجنس ؛ ولذا فسروا الحياة فيها بالبقاء .  
الرابع : أن الآية فيها مطردة بخلاف المثل ، فإنه ليس كل قتل أنفى للقتل ، بل قد يكون أدعى له ، وهو القتل ظلما ؛ وإنما ينفيه قتل خاص ؛ وهو القصاص ، ففيه حياة أبدا .  
الخامس : أن الآية خالية من تكرار لفظ القتل الواقع في المثل ، والخالي من التكرار أفضل من المشتمل عليه ، وإن لم يكن مخلا بالفصاحة .  
السادس : أن الآية مستغنية عن تقدير محذوف بخلاف قولهم ، فإن فيه حذف ( من ) التي بعد أفعل التفضيل وما بعدها ، وحذف ( قصاصا ) مع القتل الأول ، وظلما مع القتل الثاني ، والتقدير : القتل قصاصا أنفى للقتل ظلما من تركه .  
السابع : أن في الآية طباقا ; لأن القصاص يشعر بضد الحياة بخلاف المثل .  
 [ ص: 80 ] الثامن : أن الآية اشتملت على فن بديع ؛ وهو جعل أحد الضدين الذي هو الفناء والموت محلا ومكانا لضده الذي هو الحياة ، واستقرار الحياة في الموت مبالغة عظيمة ، ذكره في الكشاف وعبر عنه صاحب الإيضاح : بأنه جعل القصاص كالمنبع للحياة والمعدن لها بإدخال ( في ) عليه .  
التاسع : أن في المثل توالي أسباب كثيرة خفيفة ، وهو السكون بعد الحركة ، وذلك مستكره ، فإن اللفظ المنطوق به إذا توالت حركاته تمكن اللسان من النطق به ، وظهرت بذلك فصاحته بخلاف ما إذا تعقب كل حركة سكون ، فالحركات تنقطع بالسكنات . نظيره إذا تحركت الدابة أدنى حركة فحبست ، ثم تحركت فحبست ، لا تطيق إطلاقها ، ولا تتمكن من حركتها على ما تختاره ، فهي كالمقيدة .  
العاشر : أن المثل كالمتناقض من حيث الظاهر ؛ لأن الشيء لا ينفي نفسه .  
الحادي عشر : سلامة الآية من تكرير قلقلة القاف الموجب للضغط والشدة ، وبعدها عن غنة النون .  
الثاني عشر : اشتمالها على حروف متلائمة ، لما فيها من الخروج من القاف إلى الصاد ؛ إذ القاف من حروف الاستعلاء ، والصاد من حروف الاستعلاء والإطباق ، بخلاف الخروج من القاف إلى التاء التي هي حرف منخفض ، فهو غير ملائم للقاف ، وكذا الخروج من الصاد إلى الحاء أحسن من الخروج من اللام إلى الهمزة ، لبعد ما دون طرف اللسان وأقصى الحلق .  
الثالث عشر : في النطق بالصاد والحاء والتاء حسن الصوت ، ولا كذلك تكرير القاف والتاء .  
الرابع عشر : سلامتها من لفظ القتل المشعر بالوحشة ، بخلاف لفظ الحياة ، فإن الطباع أقبل له من لفظ القتل .  
الخامس عشر : أن لفظ القصاص مشعر بالمساواة ، فهو منبئ عن العدل ، بخلاف مطلق القتل .  
السادس عشر : الآية مبنية على الإثبات ، والمثل على النفي ، والإثبات أشرف لأنه أول ، والنفي ثان عنه .  
 [ ص: 81 ] السابع عشر : أن المثل لا يكاد يفهم إلا بعد فهم أن القصاص هو الحياة .  
وقوله :  في القصاص حياة   مفهوم من أول وهلة .  
الثامن عشر : أن في المثل بناء ( أفعل ) التفضيل من فعل متعد ، والآية سالمة منه .  
التاسع عشر : أن ( أفعل ) في الغالب يقتضي الاشتراك ، فيكون ترك القصاص نافيا للقتل ، ولكن القصاص أكثر نفيا ، وليس الأمر كذلك ، والآية سالمة من ذلك .  
العشرون : أن الآية رادعة عن القتل والجرح معا لشمول القصاص لهما ، والحياة - أيضا - في قصاص الأعضاء ؛ لأن قطع العضو ينقص مصلحة الحياة ، وقد يسري إلى النفس فيزيلها ، ولا كذلك المثل .  
في أول الآية : ( ولكم ) ، وفيها لطيفة ؛ وهي بيان العناية بالمؤمنين على الخصوص ، وأنهم المراد حياتهم لا غيرهم ، لتخصيصهم بالمعنى مع وجوده فيمن سواهم .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					