الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5287 - وعن أبي كبشة الأنماري - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ثلاث أقسم عليهن ، وأحدثكم حديثا فاحفظوه ، فأما الذي أقسم عليهن فإنه ما نقص مال عبد من صدقة ، ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله بها عزا ، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر . وأما الذي أحدثكم فاحفظوه " فقال : " إنما الدنيا لأربعة نفر : عبد رزقه الله مالا وعلما ، فهو يتقي فيه ربه ، ويصل رحمه ، ويعمل لله فيه بحقه ، فهذا بأفضل المنازل . وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا ، فهو صادق النية يقول : لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان ، فأجرهما سواء . وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما ، فهو يتخبط في ماله بغير علم ، لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ، ولا يعمل فيه بحق ، فهذا بأخبث المنازل ، وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما ، فهو يقول : لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان ، فهو نيته ووزرهما سواء " . رواه الترمذي ، وقال : هذا حديث صحيح .

التالي السابق


5287 - ( وعن أبي كبشة الأنماري ) : قال المؤلف : هو عمرو بن سعيد نزل الشام ، روى عنه سالم بن أبي الجعد ، ونعيم بن زياد ( أنه سمع رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - يقول : " ثلاث " ) أي : من الخصال ( " أقسم " ) أي : أحلف ( " عليهن ، وأحدثكم " ) : عطف على قوله " ثلاث " بحسب المعنى ، فكأنه قال : أخبركم بثلاث أؤكدهن بالقسم عليهن ، وأحدثكم ( " حديثا " ) أي : تحديثا عظيما أو بحديث آخر ( " فاحفظوه " ) أي : الأخير أو المجمع ، ومما يدل على ما اخترناه من التقدير المذكور والتحرير المسطور قوله : ( " فأما الذي أقسم عليهن " ) أي : الذي أخبركم بثلاث وأحلف عليهن ، هو هذا الذي أبينه ( " فإنه " ) أي : الشأن ( " ما نقص مال عبد " ) أي : بركته ( " من صدقة " ) أي : من أجل إعطاء صدقة لأنها مخلوفة معوضة كمية أو كيفية في الدار الدنيوية والأخروية . قال تعالى جل جلاله : وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه ( " ولا ظلم عبد " ) : بصيغة المجهول ( " مظلمة " ) : بفتح الميم وكسر اللام اسم ما أخذه الظالم ظلما ، كذا ذكره ابن الملك .

وفي القاموس : المظلمة بكسر اللام ما يظلمه الرجل ، والظاهر أنه هنا مصدر بمعنى المفعول صفته قوله : ( " صبر " ) أي : العبد ( " عليها " ) أي : على تلك المظلمة ولو كان متضمنا لنوع عن المذلة ( " إلا زاده الله بها عزا " ) أي : عنده تعالى ، كما أنه يزيد للظالم عنده ذلا بها أو يزيده الله بها عزا له في الدنيا معاقبة ، كما يحصل للظالم ذل بها ولو بعد حين من المدة ، بل ربما ينقلب الأمر ويجعل الظالم تحت ذل المظلوم جزاء وفاقا ، ( " ولا فتح عبد " ) أي : على نفسه ( " باب مسألة " ) أي : باب سؤال وطلب من الناس لا لحاجة وضرورة ، بل لقصد غنى وزيادة ( " إلا فتح الله عليه باب فقر " ) أي : باب احتياج آخر وهلم جرا ، أو بأن سلب عنه ما عنده من النعمة فيقع في نهاية من النقمة ، كما هو مشاهد في أصحاب التهمة ، ومثل حاله بالحمار الذي ليس له الذنب ، وهو دائر في الطلب ، فدخل في بستان حريصا عليه فقطع الحارث أذنيه ، وشبه أيضا بكلب في فمه عظم ، ومر على نهر لطيف يظهر من تحته عظم نظيف ، ففتح الكلب فمه حرصا على أخذ ما في قعر الماء فوقع ما في فمه من العظم في الماء ، فالحرص شؤم والحريص محروم ، هذا وقال الطيبي - رحمه الله - في قوله : فأما الذي أقسم عليهن أفرده وذكره باعتبار كون المذكور موعودا ، وجمع المرجع إلى الموصول باعتبار الخصال المذكورات ، وبه فسر قوله تعالى : مثلهم كمثل الذي استوقد في وجه أي : الجمع أو الفوج ، وفي المصابيح : أما اللاتي أقسم عليهن وهو ظاهر ، وليس المراد تحقيق الحلف ، بل تأكيده تنويها فإن المدعي يثبت بذكر القسم تارة وأخرى بلفظ القسم ، انتهى .

والأظهر أن يقال : التقدير فأما قولي الذي أقسم فيه على الخصال الثلاث ، وأؤكده فإنه إلى آخره . ( " وأما الذي أحدثكم حديثا فاحفظوه " فقال : " إنما الدنيا " ) : هو تفسير وبيان ، بل قال جملة معترضة للتأكيد ، والتقدير : فإنما الدنيا ، ويؤيده أنه ليس في الجامع لفظ فقال : بل فيه : إنما الدنيا ( لأربعة نفر ) أي : كل واحد عبارة عن جمع وصنف ( " عبد " ) : بالجر ويرفع ( " رزقه الله مالا وعلما " ) فيه إيماء إلى أن العلم رزق أيضا ، وأن الله تعالى هو الذي يرزق العلم والمال ، وبتوفيقه وفتحه يفتح باب الكمال ، وقد ورد في حديث : إن علما لا يقال به ككنز لا ينفق منه ، فيدخل العلماء ولو كانوا فقراء في قوله تعالى : ومما رزقناهم ينفقون ثم فيه إشعار بأن المراد بالمال هنا ما يزيد على قدر ضرورة الحال ( " فهو يتقي فيه " ) أي : في المال ( " ربه " ) بأن لا يصرف ماله في معصية خالقه ( " ويصل رحمه " ) أي : بالمواساة إلى أقاربه ( ويعمل لله فيه ) أي : في العلم ( " بحقه " ) [ ص: 3309 ] أي : قياما بحق العلم وما يقتضيه من العمل بحق الله وحق عباده ، ففيه لف ونشر مرتب ، ويؤيده لفظ الجامع : ويعلم لله فيه حقا ، ويمكن رجوع كل من الضميرين إلى كل من المال والعلم ، وأفرده باعتبار ما ذكر . وقال ابن الملك أي : بحق المال ، والمعنى يؤدي ما في المال من الحقوق كالزكاة والكفارة والنفقة وإطعام الضيف ، ويجوز كون الضمير لله أي : بحق الله الواجب في المال ( " فهذا " ) أي : العبد الموصوف بما ذكر ( " بأفضل المنازل " ) أي : في أكمل مراتب الشمائل في الدنيا أو في أعلى الدرجات في العقبى ( " وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا ، فهو صادق النية " ) أي : ظاهره مطابق لما في الطوية ( " يقول " ) أي : بلسان المقال أو بلسان الحال ( " لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان " ) أي : من أهل الخير ( " فأجرهما سواء " ) . وهو استئناف بيان أو حال ( " وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما ، فهو يتخبط " ) : بكسر الخاء بدون فهو ، فهو حال أو استئناف بيان ، والمعنى يقوم ويقعد بالجمع والمنع ( " في ماله " ) : أو يختلف في حاله باعتبار الإنفاق والإمساك في ماله ( " بغير علم " ) أي : بغير استعمال علم بأن يمسك تارة حرصا وحبا للدنيا ، وينفق أخرى للسمعة والرياء والفخر والخيلاء ، ( " لا يتقي فيه ربه " ) أي : لعدم علمه في أخذه وصرفه ( " ولا يصل فيه رحمه " ) ، أي : لقلة رحمته وعدم حلمه وكثرة حرصه وبخله ( " ولا يعمل فيه بحق " ) أي : بنوع من الحقوق المتعلقة بالله وبعباده ، ولفظ الجامع : ولا يعلم لله فيه حقا ( " فهذا بأخبث المنازل ، وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول : لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان " ) أي : من أهل الشر ( " فهو نيته " ) أي : فهو مغلوب نيته ، ومحكوم طويته ، أو الحمل بطريق المبالغة ، فكأنه عين نيته كرجل عدل . وفي نسخة : فهو بنيته ، وكذا في الجامع أي : مجزى بها ومعاقب عليها ، ولما كان الظاهر أن إثمه بمجرد نيته دون إثم العامل المشتمل عمله على النية والمباشرة أكد الوعيد وشدد التهديد بقوله : ( " ووزرهما سواء " ) : ولفظ الجامع : فوزرهما سواء .

قال الطيبي - رحمه الله - : فهو نيته مبتدأ وخبر ، أي : يسيء النية يدل عليه وقوعه في مقابلة قوله : فهو صادق النية في القرينة الأولى ، وقوله : يقول لو أن لي مالا إلى آخره ، تفسير لقوله : صادق النية . وقوله : فهو يقول لو أن لي مالا إلى آخره مقابل قوله : فأجرهما سواء . وقوله : ووزرهما سواء متقابلان . قال ابن الملك : هذا الحديث لا ينافي خبر : " إن الله تجاوز عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل به " لأنه عمل هنا بالقول اللساني ، والمتجاوز عنه هو القول النفساني ، انتهى . والمعتمد ما قاله العلماء المحققون : إن هذا إذا لم يوطن نفسه ولم يستقر قلبه بفعلها ، فإن عزم واستقر يكتب معصية ، وإن لم يعمل ولم يتكلم ، وقد تقدم ، والله تعالى أعلم . ( رواه الترمذي وقال : هذا حديث صحيح ) .

قال المنذري : حديث أبي كبشة رواه أحمد والترمذي واللفظ له . وقال : حسن صحيح ، وابن ماجه بمعناه ذكره ميرك . وفي الجامع : وكذا رواه أحمد في مسنده ، وروى ابن أبي الدنيا في ذم الغضب ، عن عبد الرحمن بن عوف صدر الحديث فقط ولفظه : " ثلاث أقسم عليهن : ما نقص مال قط من صدقة فتصدقوا ، ولا عفا رجل مظلمة ظلمها إلا زاده الله تعالى جل جلاله بها عزا ، فاعفوا يزدكم الله عزا ، ولا فتح رجل باب مسألة يسأل الناس إلا فتح الله عليه باب فقر " . فهذا يدل على أن الحديث الأول مركب من حديثين جمعهما الراوي وجعلهما حديثا واحدا ، وما يدل عليه أن لفظ الجامع عن الأنماري : ثلاث أقسم عليهن إلى قوله : باب فقر . ثم قال : وأحدثكم حديثا فاحفظوه وإنما الدنيا إلخ . فالتفسيرات المحتاجة إلى التأويلات إنما هي من تصرفات بعض الرواة ، والله تعالى أعلم .

[ ص: 3310 ]



الخدمات العلمية