قوله عز وجل:
لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم
"اللغو": سقط الكلام الذي لا حكم له، ويستعمل في الهجر والرفث وما لا حكم له من الأيمان تشبيها بالسقط من القول، يقال منه: لغا يلغو لغوا، ولغي يلغي لغيا، ولغة القرآن بالواو.
[ ص: 550 ] والمؤاخذة: هي التناول بالعقوبة.
واختلف العلماء في اليمين التي هي لغو; فقال ، ابن عباس ، وعائشة وعامر ، الشعبي وأبو صالح ، : ومجاهد قول الرجل في درج كلامه واستعجاله في المحاورة: لا والله، وبلى والله دون قصد لليمين. وروي لغو اليمين: . أن قوما تراجعوا القول بينهم وهم يرمون بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، فحلف أحدهم لقد أصبت وأخطأت يا فلان، فإذا الأمر بخلافه، فقال رجل: حنث يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أيمان الرماة لغو، لا إثم فيها ولا كفارة
وقال ، أبو هريرة أيضا، وابن عباس ، والحسن ، وجماعة من العلماء: لغو اليمين ما حلف به الرجل على يقينه، فكشف الغيب خلاف ذلك. ومالك بن أنس
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا اليقين هو غلبة ظن، أطلق الفقهاء عليه لفظة اليقين تجوزا. قال : مثله أن يرى الرجل على بعد فيعتقد أنه فلان، لا يشك، فيحلف ثم يجيء غير المحلوف عليه. وقال مالك ، سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن ، وعبد الله وعروة ابنا الزبير : لغو اليمين: الحلف في المعاصي كالذي يحلف ليشربن الخمر، أو ليقطعن الرحم، فبره ترك ذلك الفعل، ولا كفارة عليه. وقال مثله، إلا أنه قال: يكفر، فأشبه قوله بالكفارة قول من لا يراها لغوا. سعيد بن جبير
وقال أيضا، ابن عباس : لغو اليمين: الحلف في حال الغضب. وروى [ ص: 551 ] وطاووس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ابن عباس . وقال لا يمين في غضب مكحول الدمشقي وجماعة من العلماء: لغو اليمين: أن يحرم الرجل على نفسه ما أحل الله، فيقول: مالي علي حرام إن فعلت كذا، أو الحلال علي حرام. وقال بهذا القول ، إلا في الزوجة، فإنه ألزم فيها التحريم إلا أن يخرجها الحالف بقلبه. وقال مالك بن أنس ، وابنه: لغو اليمين: دعاء الرجل على نفسه: أعمى الله بصره، أذهب الله ماله، هو يهودي، هو مشرك، هو لغية إن فعل كذا. وقال زيد بن أسلم أيضا، ابن عباس : لغو اليمين: هو المكفرة، أي إذا كفرت اليمين فحينئذ سقطت وصارت لغوا، ولا يؤاخذ الله بتكفيرها والرجوع إلى الذي هو خير. وقال والضحاك : لغو اليمين: ما حنث فيه الرجل ناسيا. وحكى إبراهيم النخعي قولا: إن اللغو أيمان المكره. ابن عبد البر
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وطريقة النظر أن تتأمل لفظة اللغو ولفظة الكسب، ويحكم موقعهما في اللغة، فكسب المرء ما قصده ونواه، واللغو ما لم يتعمده أو ما حقه لهجنته أن يسقط، فيقوى على هذه الطريقة بعض الأقوال المتقدمة ويضعف بعضها.
وقد رفع الله عز وجل المؤاخذة بالإطلاق في اللغو، فحقيقته ما لا إثم فيه ولا كفارة. والمؤاخذة في الأيمان هي بعقوبة الآخرة في الغموس المصبورة -وفيما ترك تكفيره مما فيه كفارة- وبعقوبة الدنيا في إلزام الكفارة فيضعف القول بأنها اليمين المكفرة لأن المؤاخذة قد وقعت فيها وتخصيص المؤاخذة بأنها في الآخرة فقط تحكم.
وقوله تعالى: ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم قال ، ابن عباس [ ص: 552 ] وغيرهما: ما كسب القلب: هي اليمين الكاذبة الغموس، فهذه فيها المؤاخذة في الآخرة، والكفارة إنما هي فيما يكون لغوا إذا كفر. والنخعي
وقال وجماعة من العلماء: الغموس لا تكفر، هي أعظم ذنبا من ذلك. وقال مالك ، الشافعي ، وقتادة ، وعطاء : اليمين الغموس تكفر، والكفارة مؤاخذة، والغموس: ما قصد الرجل في الحلف به الكذب، وكذلك اليمين المصبورة، المعنى فيهما واحد، ولكن الغموس سميت بذلك لأنها غمست صاحبها في الإثم، والمصبورة سميت بذلك لأنها صبرها مغالبة وقوة عليها، كما يصبر الحيوان للقتل والرمي. وقال والربيع قوله تعالى: زيد بن أسلم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم هو في الرجل يقول: هو مشرك إن فعل، أي هذا لغو إلا أن يعقد الإشراك بقلبه ويكسبه.
و غفور حليم صفتان لائقتان بما ذكر من طرح المؤاخذة، إذ هو باب رفق وتوسعة.
وقوله تعالى: للذين يؤلون من نسائهم الآية. قرأ ، أبي بن كعب : "للذين يقسمون"، و"يؤلون": معناه: يحلفون، يقال: آلى الرجل يولي إيلاء، والألية اليمين، ويقال فيها أيضا: ألوة بفتح الهمزة وبضمها وبكسرها. وابن عباس
والتربص: التأني والتأخر، وكان من عادة العرب أن يحلف الرجل ألا يطأ امرأته، يقصد بذلك الأذى عند المشارة ونحوها، فجعل الله تعالى في ذلك هذا الحد لئلا يضر الرجال بالنساء، وبقي للحالف على هذا المعنى فسحة فيما دون الأربعة الأشهر.
[ ص: 553 ] واختلف، من المراد أن يلزمه حكم فقال الإيلاء؟ رحمه الله: هو الرجل يغاضب امرأته فيحلف بيمين -يلحق عن الحنث فيها حكم- ألا يطأها -ضررا منه- أكثر من أربعة أشهر، لا يقصد بذلك إصلاح ولد رضيع ونحوه. وقال به مالك وغيره، وقال عطاء ، علي بن أبي طالب ، وابن عباس : هو الرجل يحلف ألا يطأ امرأته على وجه مغاضبة ومشارة، وسواء كان في ضمن ذلك إصلاح ولد أو لم يكن. فإن لم يكن عن غضب فليس بإيلاء. وقال والحسن بن أبي الحسن : لا إيلاء إلا بغضب. وقال ابن عباس : سواء كانت اليمين في غضب أو غير غضب هو إيلاء. وقاله ابن سيرين ، ابن مسعود ، والثوري ، ومالك ، وأهل والشافعي العراق . إلا أن قال: ما لم يرد إصلاح ولد. وقال مالكا ، الشعبي ، والقاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله : كل يمين حلفها الرجل، ألا يطأ امرأته، أو ألا يكلمها، أو أن يضارها، أو أن يغاضبها، فذلك كله إيلاء. وقال وابن المسيب منهم- إلا أنه إن حلف ألا يكلم وكان يطأ فليس بإيلاء، وإنما تكون اليمين على غير الوطء إيلاء إذا اقترن بذلك الامتناع من الوطء. ابن المسيب
وأقوال من ذكرناه -مع سعيد - مسجلة محتملة ما قال سعيد ، ومحتملة أن فساد العشرة إيلاء، وذهب إلى هذا الاحتمال الأخير . وقال الطبري أيضا: لا يسمى موليا إلا الذي يحلف ألا يطأ أبدا، حكاه ابن عباس . وقال ابن المنذر ، مالك ، والشافعي ، وأحمد : لا يكون موليا إلا إن زاد على الأربعة الأشهر. وأبو ثور
وقال ، عطاء ، وأصحاب الرأي: الإيلاء أن يحلف على أربعة أشهر فصاعدا. وقال والثوري ، قتادة ، والنخعي ، وحماد بن أبي سليمان وإسحاق ، : من حلف على قليل من الوقت أو كثير فتركها أربعة أشهر فهو مول، قال وابن أبي ليلى : وأنكر هذا القول كثير من أهل العلم. ابن المنذر
وقوله تعالى: من نسائهم يدخل فيه الحرائر والإماء إذا تزوجن.
[ ص: 554 ] وقال والعبد يلزمه الإيلاء من زوجته. ، الشافعي وأحمد : أجله أربعة أشهر وقال وأبو ثور ، مالك ، والزهري ، وعطاء بن أبي رباح وإسحاق : أجله شهران. وقال : أجله من حرة أربعة أشهر، ومن أمة زوجة شهران، وقاله الحسن . وقال النخعي : الشعبي وقال الإيلاء من الأمة نصف الإيلاء من الحرة. ، مالك ، وأصحاب الرأي، والشافعي ، والأوزاعي ، وغيرهم: المدخول بها وغير المدخول بها سواء في لزوم الإيلاء فيهما. وقال والنخعي ، الزهري ، وعطاء : والثوري وقال لا إيلاء إلا بعد الدخول. : مالك فإن آلى منها فبلغت لزمه الإيلاء من يوم بلوغها. وقال ولا إيلاء من صغيرة لم تبلغ، ، عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وعلي بن أبي طالب ، وأبو الدرداء ، وابن عمر ، وابن المسيب ، ومجاهد ، وطاووس ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد وإسحاق ، وأبو عبيد : إذا انقضت الأربعة الأشهر وقف، فإما فاء وإما طلق، وإلا طلق عليه. وقال ، ابن مسعود ، وابن عباس ، وعثمان أيضا، وعلي ، وزيد بن ثابت ، وجابر بن زيد ، والحسن : بانقضاء الأربعة الأشهر دخل عليه الطلاق دون توقيف. ومسروق
واختلف العلماء في الطلاق الداخل على المولي; فقال ، عثمان ، وعلي وابن عباس ، وابن مسعود ، وعطاء ، والنخعي ، وغيرهم: هي طلقة بائنة لا رجعة له فيها. وقال والأوزاعي ، سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن ، ، ومكحول ، والزهري : هي رجعية. ومالك
و"فاءوا" معناه: رجعوا، ومنه: حتى تفيء إلى أمر الله "والفيء": الظل الراجع عشيا.
[ ص: 555 ] وقال ، الحسن وإبراهيم . إذا فاء المولي ووطئ فلا كفارة عليه في يمينه لقوله تعالى: فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا متركب على أن لغو اليمين ما حلف في معصية، وترك وطء الزوجة معصية.
وقال الجمهور: إذا فاء كفر، والفيء عند ، ابن المسيب : لا يكون إلا بالجماع. وإن كان مسجونا أو في سفر مضى عليه حكم الإيلاء إلا أن يطأ، ولا عذر له ولا فيء بقول. وابن جبير
وقال رحمه الله: لا يكون الفيء إلا بالوطء أو بالتكفير في حال العذر كالغائب والمسجون. قال مالك ابن القاسم في المدونة: إلا أن تكون يمينه مما لا يكفرها لأنها لا تقع عليه إلا بعد الحنث، فإن القول يكفيه ما دام معذورا.
واختلف القول في المدونة في اليمين بالله تعالى; هل يكتفى فيه بالفيء بالقول والعزم على التكفير أم لا بد من التكفير، وإلا فلا فيء؟ وقال ، الحسن ، وعكرمة وغيرهم: الفيء من غير المعذور الجماع، ولا بد ومن المعذور أن يشهد أنه قد فاء بقلبه. والنخعي
وقال أيضا: يصح الفيء بالقول والإشهاد فقط، ويسقط حكم الإيلاء، أرأيت إن لم ينتشر للوطء؟ النخعي
وقال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ويرجع في هذا القول إن لم يطأ إلى باب الضرر. وقرأ : "فإن فاؤوا فيهن". وروي عنه: "فإن فاؤوا فيها". أبي بن كعب
[ ص: 556 ] وقوله تعالى: وإن عزموا الطلاق الآية. قال القائلون: إن بمضي الأربعة أشهر يدخل الطلاق، عزيمة الطلاق هي ترك الفيء، حتى تنصرم الأشهر. وقال القائلون: لا بد من التوقيف بعد تمام الأشهر، والعزيمة: هي التطليق أو الإبانة وقت التوقيف حتى يطلق الحاكم، واستدل من قال بالتوقيف بقوله: "سميع"، لأن هذا الإدراك إنما هو في المقولات. وقرأ : "وإن عزموا السراح". ابن عباس