الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقوله تعالى: اهدنا رغبة، لأنها من المربوب إلى الرب، وهكذا صيغة الأمر كلها، فإذا كانت من الأعلى فهي أمر.

والهداية في اللغة الإرشاد، لكنها تتصرف على وجوه يعبر عنها المفسرون بغير لفظ الإرشاد، وكلها إذا تؤملت رجعت إلى الإرشاد.

فالهدى يجيء بمعنى: "خلق الإيمان في القلب" ومنه قوله تعالى: أولئك على هدى من ربهم وقوله تعالى: والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم . وقوله تعالى: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء . وقوله تعالى: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام . قال أبو المعالي : فهذه آية لا يتجه حملها إلا على خلق الإيمان في القلب، وهو محض الإرشاد.

[ ص: 85 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقد جاء الهدى بمعنى "الدعاء". من ذلك قوله تعالى: ولكل قوم هاد ، أي: داع، وقوله تعالى: وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم وهذا أيضا يبين فيه الإرشاد، لأنه ابتداء إرشاد، أجاب المدعو أو لم يجب.

وقد جاء الهدى بمعنى "الإلهام"، من ذلك قوله تعالى: أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ، قال المفسرون: معناه: ألهم الحيوانات كلها إلى منافعها. وهذا أيضا يبين فيه معنى الإرشاد.

وقد جاء الهدى بمعنى "البيان" من ذلك قوله تعالى: وأما ثمود فهديناهم ، قال المفسرون: معناه: بينا لهم، قال أبو المعالي : معناه دعوناهم. ومن ذلك قوله تعالى: إن علينا للهدى أي: علينا أن نبين، وفي هذا كله معنى الإرشاد، قال أبو المعالي : وقد ترد الهداية والمراد بها "إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان، والطرق المفضية إليها". من ذلك قوله تعالى في صفة المجاهدين: فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ، ومنه قوله تعالى: فاهدوهم إلى صراط الجحيم ، معناه: فاسلكوهم إليها.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذه الهداية بعينها هي التي تقال في طرق الدنيا، وهي ضد الضلال، وهي الواقعة في قوله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم . على صحيح التأويلات، وذلك يبين من لفظ الصراط، و"الهدى" لفظ مؤنث، وقال اللحياني : هو مذكر، قال ابن سيده : و "الهدى" اسم من أسماء النهار، قال ابن مقبل :

[ ص: 86 ]

حتى استبنت الهدى والبيد هاجمة يخشعن في الآل غلفا أو يصلينا

و"الصراط" في اللغة الطريق الواضح، فمن ذلك قول جرير :


أمير المؤمنين على صراط      -إذا اعوج الموارد- مستقيم

ومنه قول الآخر:


فصد عن نهج الصراط الواضح.

وحكى النقاش : "الصراط" الطريق بلغة الروم ، وهذا ضعيف جدا.

واختلف القراء في الصراط ...

فقرأ ابن كثير ، وجماعة من العلماء: "السراط" بالسين، وهذا هو أصل اللفظة. قال الفارسي : ورويت عن ابن كثير بالصاد، وقرأ باقي السبعة -غير حمزة - بصاد خالصة، وهذا بدل السين بالصاد لتناسبها مع الطاء في الإطباق فيحسنان في السمع، وحكاها سيبويه لغة. قال أبو علي : روي عن أبي عمرو : "السين والصاد"، و"المضارعة بين الصاد والزاي"، رواه عنه العريان بن أبي سفيان ، وروى الأصمعي عن أبي عمرو أنه قرأها بزاي خالصة. قال بعض اللغويين: ما حكاه الأصمعي من هذه القراءة خطأ منه، إنما سمع أبا عمرو يقرأ بالمضارعة فتوهمها زايا، ولم يكن الأصمعي نحويا فيؤمن على هذا، وحكى هذا الكلام أبو علي عن أبي بكر بن مجاهد ، وقرأ حمزة بين "الصاد والزاي"، وروي أيضا عنه أنه إنما يلتزم ذلك في المعرفة دون النكرة. قال ابن مجاهد : وهذه القراءة تكلف حرف بين حرفين، وذلك أصعب على اللسان، وليس بحرف يبنى [ ص: 87 ] عليه الكلام، ولا هو من حروف المعجم، ولست أدفع أنه من كلام فصحاء العرب ، إلا أن الصاد أفصح وأوسع.

وقرأ الحسن والضحاك "اهدنا صراطا مستقيما" دون تعريف، وقرأ جعفر بن محمد الصادق : "اهدنا صراط المستقيم" بالإضافة، وقرأ ثابت البناني "بصرنا الصراط".

واختلف المفسرون في المعنى الذي استعير له الصراط في هذا الموضع، وما المراد به؟ فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الصراط المستقيم" هنا القرآن . وقال جابر : هو الإسلام، يعني الحنيفية، وقال: سعته ما بين السماء والأرض. وقال محمد ابن الحنفية : هو دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره . وقال أبو العالية : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاحباه أبو بكر وعمر ، وذكر ذلك للحسن بن أبي الحسن فقال: صدق أبو العالية ونصح .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ويجتمع من هذه الأقوال كلها أن الدعوة إنما هي في أن يكون الداعي على سنن المنعم عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين في معتقداته، وفي التزامه لأحكام شرعه، وذلك هو مقتضى القرآن والإسلام، وهو حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، وهذا الدعاء إنما أمر به المؤمنون وعندهم المعتقدات، وعند كل واحد بعض الأعمال، فمعنى قولهم: "اهدنا" فيما هو حاصل عندهم: طلب التثبيت والدوام، وفيما ليس بحاصل إما من جهة الجهل به، أو التقصير في المحافظة عليه: طلب الإرشاد إليه. وأقول: إن كل داع به فإنما يريد الصراط بكماله في أقواله، وأفعاله، ومعتقداته، فيحسن على هذا أن يدعو في الصراط على الكمال من عنده بعضه، ولا يتجه أن يراد بـ "اهدنا" في هذه الآية: اخلق الإيمان في قلوبنا. لأنها هداية [ ص: 88 ] مقيدة إلى صراط، ولا أن يراد بها ادعنا، وسائر وجوه الهداية يتجه. و"الصراط" نصب على المفعول الثاني. و"المستقيم": الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف، والمراد أنه استقام على الحق، وإلى غاية الفلاح ودخول الجنة، وإعلال "مستقيم" أن أصله "مستقوم"، نقلت الحركة إلى القاف، وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها.

التالي السابق


الخدمات العلمية