وكان - صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تخلف تلك الليلة عن العسكر حتى أصبح . قالت : فمر بي فرآني فاسترجع ، وأعظم مكاني حين رآني وحدي، وقد كنت أعرفه ويعرفني قبل أن يضرب علينا الحجاب . قالت : فسألني عن أمري ، فسترت وجهي عنه بجلبابي ، وأخبرته بأمري ، فقرب بعيره فوطئ على ذراعه ، فولاني قفاه حتى ركبت ، وسويت ثيابي ، ثم بعثه ، فأقبل يسير بي حتى دخلنا صفوان بن المعطل السلمي المدينة نصف النهار أو نحوه ، فهنالك قال في وفيه من قال من أهل الإفك ، وأنا لا أعلم شيئا من ذلك ، ولا مما يخوض الناس فيه من أمري ، وكنت تلك الليالي شاكية . وكان أول ما أنكرت من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يعودني قبل ذلك إذا مرضت ، وكان تلك الليالي لا يدخل علي ولا يعودني ، إلا أنه كان يقول ، وهو مار : " كيف تيكم ؟ " . فيسأل عني أهل البيت . فلما بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أكثر الناس فيه من أمري غمه ذلك ، وقد شكوت قبل ذلك إلى أمي ما رأيت من النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجفوة فقالت لي : يا بنية ، اصبري فوالله لقل ما كانت امرأة حسناء يحبها زوجها لها ضرائر إلا رمينها . قالت : فوجدت حسا تلك الليلة التي بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - من صبحها إلى ، علي بن أبي طالب ، يستشيرهما في أمري ، وكنا ذلك الزمان ليس لنا كنف نذهب فيها ، إنما كنا نذهب كما يذهب العرب ليلا إلى ليل ، فقلت وأسامة بن زيد لأم مسطح بن أثاثة : خذي الإداوة [ ص: 233 ] فاملئيها ماء فاذهبي بها إلى المناصع ، وكانت هي وابنها مسطح بينهما وبين أبي بكر قرابة ، وكان أبو بكر ينفق عليهما ، فكانا يكونان عنده ومع أهله .
فأخذت الإداوة وخرجت نحو المناصع ، فعثرت أم مسطح ، فقالت : تعس مسطح ، فقلت : بئس ما قلت . قالت : ثم مشينا فعثرت أيضا ، فقالت : تعس مسطح ، فقلت لها : بئس ما قلت لصاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحب بدر ، فقالت : إنك لغافلة عما فيه الناس من أمرك ، فقلت : أجل ، فما ذاك ؟ فقالت : إن مسطحا وفلانا وفلانة فيمن استزلهم الشيطان من المنافقين ؛ يجتمعون في بيت عبد الله بن أبي ابن سلول أخي بني الحارث بن الخزرج يتحدثون عنك وعن ; يرمونك به . صفوان بن المعطل
قالت : فذهب عني ما كنت أجد من الغائط ، فرجعت عودي على يدي [إلى بيتي].
فلما أصبحنا من تلك الليلة ، بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ، علي بن أبي طالب ، فأخبرهما بما قيل في ، واستشارهما في أمري ، فقال وأسامة بن زيد أسامة : والله يا رسول الله ما علمنا على أهلك سوءا ، وقال علي له : يا رسول الله ، ما أكثر النساء ، وإن أردت أن تعلم الخبر فتوعد الجارية - يعني - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - بريرة لعل : " فشأنك بالخادم " . فسألها علي عني ، فلم تخبره - والحمد لله - إلا بخير ؛ قالت : والله ما علمت على عائشة سوءا ، إلا أنها جويرية تصبح عن عجين أهلها ، فتدخل الشاة الداجن فتأكل من العجين .
قالت : ثم خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سمع ما قالت - بريرة لعلي إلى الناس ، فلما اجتمعوا إليه قال : " يا معشر المسلمين ، من لي من رجل يؤذونني في أهلي ؟ فما علمت على أهلي سوءا ، ويرمون رجلا من أصحابي ، ما علمت عليه سوءا ، ولا خرجت مخرجا إلا خرج معي فيه " .
قال من سعد بن معاذ الأنصاري الأشهلي الأوس : يا رسول الله ، إن كان ذلك من أحد من الأوس كفيناكه ، وإن كان من الخزرج أمرتنا فيه بأمرك . وقام ، فقال سعد بن عبادة الأنصاري ثم الخزرجي : كذبت ، والله وهذا الباطل . فقام لسعد بن معاذ ، ورجال من الفريقين ، فاستبوا وتنازعوا حتى كاد أن يعظم الأمر بينهم . فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - بيتي ، وبعث إلى أبوي فأتياه ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال لي : " يا أسيد بن حضير الأنصاري ثم الأشهلي عائشة ، إنما أنت من بنات آدم ، فإن كنت أخطأت فتوبي إلى الله واستغفريه " . فقلت لأبي : أجب عني رسول الله - صلى الله عليه [ ص: 234 ] وسلم - فقال : إني لا أفعل ، هو نبي الله والوحي يأتيه ، فقلت لأمي : أجيبي عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت لي كما قال أبي ، فقلت : والله لئن أقررت على نفسي بباطل لتصدقنني ، ولئن برأت نفسي - والله يعلم أني بريئة - لتكذبنني ، فما أجد لي ولكم مثلا إلا قول أبي يوسف حين يقول : ( فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ) . ونسيت اسم يعقوب لما بي من الحزن والبكاء واحتراق الجوف ، فتغشى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان يتغشاه من الوحي ، ثم سري عنه فمسح وجهه بيده ، ثم قال : " عائشة ؛ قد أنزل الله - عز وجل - براءتك " . فقالت أبشري يا عائشة : والله ما كنت أظن أن ينزل القرآن في أمري ، ولكني كنت أرجو لما يعلم الله من براءتي أن يرى النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمري رؤيا ، فيبرئني الله بها عند نبيه - صلى الله عليه وسلم - .
فقال لي أبواي عند ذلك : قومي فقبلي رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : والله لا أفعل ، بحمد الله لا بحمدكم .
قال : وكان أبو بكر ينفق على مسطح وأمه ، فلما رماني حلف أبو بكر أن لا ينفعه بشيء أبدا . قال : فلما تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم " . بكى أبو بكر ، قال : بلى يا رب ، وأعاد النفقة على مسطح وأمه .
قالت : وقعد صفوان بن المعطل بالسيف فضربه ضربة ، فقال لحسان بن ثابت صفوان لحسان حين ضربه :
تلق ذباب السيف عنك فإنني غلام إذا هوجيت لست بشاعر ولكنني أحمي حماي وأنتقم
من الباهت الرامي البراة الطواهر
ثم صاح حسان فاستغاث الناس على صفوان ، فلما جاء الناس فر صفوان ، فجاء حسان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستعداه على صفوان في ضربته إياه ، فسألته النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يهب له ضربة صفوان إياه ، فوهبها للنبي - صلى الله عليه وسلم - فعاضه[منها] النبي - صلى الله عليه وسلم - حائطا من نخل عظيم وجارية رومية - ويقال قبطية - تدعى سيرين . فولدت لحسان ابنه عبد الرحمن الشاعر . قال أبو أويس : أخبرني بذلك حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ، عن عكرمة ، عن . ابن عباس
قالت عائشة : ثم باع حسان ذلك الحائط من في ولايته بمال عظيم . معاوية بن أبي سفيان
قالت عائشة - رضي الله عنها - : وبلغني - والله أعلم - أن الذي قال الله فيه : ( والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ) - أنه عبد الله بن أبي ابن سلول أحد [ ص: 235 ] بني الحارث بن الخزرج .
قالت عائشة : فقيل في أصحاب الإفك الأشعار ، وقال أبو بكر في مسطح في رميه عائشة ، فكان يدعى عوفا :
يا عوف ويحك هلا قلت عارفة من الكلام ولم تبغي به طمعا
فأدركتك حميا معشر أنف فلم يكن قاطعا يا عوف من قطعا
هلا حربت من الأقوام إذ حسدوا فلا تقول وإن عاديتهم قذعا
لما رميت حصانا غير مقرفة أمينة الجيب لم نعلم لها خضعا
فيمن رماها وكنتم معشرا أفكا في سيئ القول من لفظ الخنا شرعا
فأنزل الله عذرا في براءتها وبين عوف وبين الله ما صنعا
فإن أعش أجز عوفا في مقالته سوء الجزاء بما ألفيته تبعا
وقالت أم سعد بن معاذ في الذين رموا عائشة من الشعر :
تشهد الأوس كلها وفتاها بحقد وذلك معلوم
نساء الخزرجيين يشهدن والخماسي من نسلها والعظيم
أن بنت الصديق كانت حصانا عفة الجيب دينها مستقيم
تتقي الله في المغيب عليها نعمة الله سرها ما يريم
خير هدي النساء حالا ونفسا وأبا للعلا نماها كريم
للموالي إذا رموها بإفك أخذتهم مقامع وجحيم
ليت من كان قد قفاها بسوء في حطام حتى يبول اللئيم
وعوان من الحروب تلظى ثغسا قوتها عقار صريم
ليت سعدا ومن رماها بسوء في كظاظ حتى يتوب الظلوم
وقال حسان وهو يبرئ عائشة - رضي الله عنها - فيما قيل فيها ، ويعتذر إليها :
حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
خليلة خير الناس دينا ومنصبا نبي الهدى والمكرمات الفواضل
عقيلة حي من لؤي بن غالب كرام المساعي مجدها غير زائل
مهذبة قد طيب الله خيمها وطهرها من كل سوء وباطل
فإن كان ما قد جاء عني قلته فلا رفعت صوتي إلى أناملي
وإن الذي قد قيل ليس بلائط بك الدهر بل قول امرئ غير هائل
وكيف وودي ما حييت ونصرتي لآل رسول الله زين المحافل
له رتب عال على الناس فضلها تقاصر عنها سورة المتطاول
[ ص: 236 ] قال أبو أويس : وحدثني[أبي] أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالذين رموا عائشة ; فجلدوا الحد[جميعا] ثمانين ثمانين . وقال في الشعر حين جلدوا : حسان بن ثابت
لقد ذاق عبد الله ما كان أهله وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح
تعاطوا برجم الغيب زوج نبيهم وسخطة ذي العرش الكريم فأنزحوا
فآذوا رسول الله فيها وعمموا مخازي سوء حللوها وفضحوا
قلت : حديث الإفك من حديث عائشة في الصحيح باختصار غير هذا ، وبغير سياقه أيضا .
رواه ، ورجاله رجال الصحيح ، إلا أن بعض هذا يخالف ما في الصحيح . الطبراني