الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        6426 حدثنا عمرو بن علي حدثنا يحيى حدثنا سفيان قال حدثني منصور وسليمان عن أبي وائل عن أبي ميسرة عن عبد الله رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت ثم أي قال أن تقتل ولدك من أجل أن يطعم معك قلت ثم أي قال أن تزاني حليلة جارك قال يحيى وحدثنا سفيان حدثني واصل عن أبي وائل عن عبد الله قلت يا رسول الله مثله قال عمرو فذكرته لعبد الرحمن وكان حدثنا عن سفيان عن الأعمش ومنصور وواصل عن أبي وائل عن أبي ميسرة قال دعه دعه

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        حديث عبد الله هو ابن مسعود .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عمرو بن علي ) هو الفلاس ، ويحيى هو ابن سعيد القطان ، وسفيان هو الثوري ، ومنصور هو ابن المعتمر ، وسليمان هو الأعمش ، وأبو وائل هو شقيق ، وأبو ميسرة هو عمرو بن شرحبيل ، وواصل المذكور في السند الثاني هو ابن حيان - بمهملة وتحتانية ثقيلة - هو المعروف بالأحدب ، ورجال السند من سفيان فصاعدا كوفيون ، وقوله : " قال عمرو " هو ابن علي المذكور ( فذكرته لعبد الرحمن ) يعني ابن مهدي ( وكان حدثنا ) هكذا ذكره البخاري عن عمرو بن علي قدم رواية يحيى على رواية عبد الرحمن وعقبها بالفاء ، وقال الهيثم بن خلف فيما أخرجه الإسماعيلي عنه عن عمرو بن علي حدثنا عبد الرحمن بن مهدي فساق روايته وحذف ذكر [ ص: 118 ] واصل من السند ثم قال : " وقال عبد الرحمن مرة عن سفيان عن منصور والأعمش وواصل ، فقلت لعبد الرحمن : حدثنا يحيى بن سعيد ، فذكره مفصلا ، فقال عبد الرحمن : دعه .

                                                                                                                                                                                                        والحاصل أن الثوري حدث بهذا الحديث عن ثلاثة أنفس حدثوه به عن أبي وائل ، فأما الأعمش ومنصور فأدخلا بين أبي وائل وبين ابن مسعود أبا ميسرة ، وأما واصل فحذفه فضبطه يحيى القطان عن سفيان هكذا مفصلا ، وأما عبد الرحمن فحدث به أولا بغير تفصيل فحمل رواية واصل على رواية منصور والأعمش ، فجمع الثلاثة وأدخل أبا ميسرة في السند ، فلما ذكر له عمرو بن علي أن يحيى فصله كأنه تردد فيه فاقتصر على التحديث به عن سفيان عن منصور والأعمش حسب ، وترك طريق واصل ، وهذا معنى قوله : " فقال : دعه دعه " أي اتركه والضمير للطريق التي اختلف فيها وهي رواية واصل ، وقد زاد الهيثم بن خلف في روايته بعد قوله دعه " فلم يذكر فيه واصلا بعد ذلك " فعرف أن معنى قوله دعه : أي اترك السند الذي ليس فيه ذكر أبي ميسرة .

                                                                                                                                                                                                        وقال الكرماني : حاصله أن أبا وائل وإن كان قد روى كثيرا عن عبد الله فإن هذا الحديث لم يروه عنه ، قال : وليس المراد بذلك الطعن عليه لكن ظهر له ترجيح الرواية بإسقاط الواسطة لموافقة الأكثرين كذا قال ، والذي يظهر ما قدمته أنه تركه من أجل التردد فيه لأن ذكر أبي ميسرة إن كان في أصل رواية واصل فتحديثه به بدونه يستلزم أنه طعن فيه بالتدليس أو بقلة الضبط ، وإن لم يكن في روايته في الأصل فيكون زاد في السند ما لم يسمعه فاكتفى برواية الحديث عمن لا تردد عنده فيه وسكت عن غيره .

                                                                                                                                                                                                        وقد كان عبد الرحمن حدث به مرة عن سفيان عن واصل وحده بزيادة أبي ميسرة ، كذلك أخرجه الترمذي والنسائي لكن الترمذي بعد أن ساقه بلفظ واصل عطف عليه بالسند المذكور طريق سفيان عن الأعمش ومنصور قال بمثله وكأن ذلك كان في أول الأمر ، وذكر الخطيب هذا السند مثالا لنوع من أنواع مدرج الإسناد وذكر فيه أن محمد بن كثير وافق عبد الرحمن على روايته الأولى عن سفيان فيصير الحديث عن الثلاثة بغير تفصيل .

                                                                                                                                                                                                        قلت : وقد أخرجه البخاري في الأدب عن محمد بن كثير لكن اقتصر في السند على منصور ، وأخرجه أبو داود عن محمد بن كثير فضم الأعمش إلى منصور ، وأخرجه الخطيب من طريق الطبراني عن أبي مسلم الليثي عن معاذ بن المثنى ويوسف القاضي ومن طريق أبي العباس البرقي ثلاثتهم عن محمد بن كثير عن سفيان عن الثلاثة ، وكذا أخرجه أبو نعيم في " المستخرج " عن الطبراني وفيه ما تقدم ، وذكر الخطيب الاختلاف فيه على منصور وعلى الأعمش في ذكر أبي ميسرة وحذفه ولم يختلف فيه على واصل في إسقاطه في غير رواية سفيان .

                                                                                                                                                                                                        قلت : وقد أخرجه الترمذي والنسائي من رواية شعبة عن واصل بحذف أبي ميسرة ، لكن قال الترمذي : رواية منصور أصح يعني بإثبات أبي ميسرة ، وذكر الدارقطني الاختلاف فيه وقال : رواه الحسن بن عبيد الله عن أبي وائل عن عبد الله كقول واصل ، ونقل عن الحافظ أبي بكر النيسابوري أنه قال : يشبه أن يكون الثوري جمع بين الثلاثة لما حدث به ابن مهدي ومحمد بن كثير وفصله لما حدث به غيرهما يعني فيكون الإدراج من سفيان لا من عبد الرحمن ، والعلم عند الله تعالى . وقد تقدم الكلام على شيء من هذا في تفسير سورة الفرقان .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أي الذنب أعظم ) ؟ هذه رواية الأكثر ، ووقع في رواية عاصم عن أبي وائل عن عبد الله " أعظم الذنوب عند الله " ، أخرجها الحارث ، وفي رواية مسدد الماضية في كتاب الأدب ، أي الذنب عند الله أكبر ، وفي رواية أبي عبيدة بن معن عن الأعمش : " أي الذنوب أكبر عند الله " ، وفي رواية الأعمش عند أحمد وغيره : " أي الذنب أكبر " ؟ وفي رواية الحسن بن عبيد الله عن أبي وائل : " أكبر الكبائر " ، قال ابن بطال عن المهلب : يجوز [ ص: 119 ] أن يكون بعض الذنوب أعظم من بعض من الذنبين المذكورين في هذا الحديث بعد الشرك ؛ لأنه لا خلاف بين الأمة أن اللواط أعظم إثما من الزنا فكأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما قصد بالأعظم هنا ما تكثر مواقعته ويظهر الاحتياج إلى بيانه في الوقت كما وقع في حق وفد عبد القيس حيث اقتصر في منهياتهم على ما يتعلق بالأشربة لفشوها في بلادهم .

                                                                                                                                                                                                        قلت : وفيما قاله نظر من أوجه ؛ أحدها : ما نقله من الإجماع ، ولعله لا يقدر أن يأتي بنقل صحيح صريح بما ادعاه عن إمام واحد بل المنقول عن جماعة عكسه فإن الحد عند الجمهور ، والراجح من الأقوال إنما ثبت فيه بالقياس على الزنا والمقيس عليه أعظم من المقيس أو مساويه ، والخبر الوارد في قتل الفاعل والمفعول به أو رجمهما ضعيف .

                                                                                                                                                                                                        وأما ثانيا : فما من مفسدة فيه إلا ويوجد مثلها في الزنا وأشد ، ولو لم يكن إلا ما قيد به في الحديث المذكور فإن المفسدة فيه شديدة جدا ، ولا يتأتى مثلها في الذنب الآخر ، وعلى التنزل فلا يزيد .

                                                                                                                                                                                                        وأما ثالثا : ففيه مصادمة للنص الصريح على الأعظمية من غير ضرورة إلى ذلك .

                                                                                                                                                                                                        وأما رابعا : فالذي مثل به من قصة الأشربة ليس فيه إلا أنه اقتصر لهم على بعض المناهي ، وليس فيه تصريح ولا إشارة بالحصر في الذي اقتصر عليه ، والذي يظهر أن كلا من الثلاثة على ترتيبها في العظم ، ولو جاز أن يكون فيما لم يذكره شيء يتصف بكونه أعظم منها لما طابق الجواب السؤال ، نعم يجوز أن يكون فيما لم يذكر شيء يساوي ما ذكر فيكون التقدير في المرتبة الثانية مثلا بعد القتل الموصوف وما يكون في الفحش مثله أو نحوه ، لكن يستلزم أن يكون فيما لم يذكر في المرتبة الثانية شيء هو أعظم مما ذكر في المرتبة الثالثة ولا محذور في ذلك ، وأما ما مضى في كتاب الأدب من عد عقوق الوالدين في أكبر الكبائر لكنها ذكرت بالواو فيجوز أن تكون رتبة رابعة وهي أكبر مما دونها .

                                                                                                                                                                                                        قول ( حليلة جارك ) بفتح الحاء المهملة وزن عظيمة أي التي يحل له وطؤها ، وقيل التي تحل معه في فراش واحد ، وقوله : " أجل أن يطعم معك " بفتح اللام أي من أجل فحذف الجار فانتصب ، وذكر الأكل لأنه كان الأغلب من حال العرب ، وسيأتي الكلام على بقية شرح هذا الحديث في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية