الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 53 ] بسم الله الرحمن الرحيم

                اللهم يا واجب الوجود ، ويا موجد كل موجود ، ويا مفيض الخير والجود ، على كل قاص من خلقه ودان .

                التالي السابق


                قال الشيخ الإمام العالم العلامة نجم الدين سليمان بن عبد القوي الطوفي تغمده الله تعالى برحمته : قوله : " اللهم يا واجب الوجود ، ويا موجد كل موجود ، ويا مفيض الخير والجود ، على كل قاص من خلقه ودان " .

                الكلام عليه من وجوه :

                أحدها : أن هذه الجملة ونظائرها من خطبة الكتاب مربعة نونية . أعني أنها مشتملة على أربع فقر : ثلاث منها على فاصلة واحدة ، والرابعة فاصلتها نون ، غير أن الثلاث الأول تختلف حروف فواصل فقرها في الخطبة ، كالدال في هذه ، والهاء والميم والهمزة وغير ذلك فيما بعدها ، كقوله : " الباهرة " و " الندم " و " الآلاء " و " أسلم " و " أصفيائك " إلى آخر الخطبة ، والرابعة لازمة للنون لا تختلف ، ونظير هذه [ ص: 54 ] الخطبة في التربيع قوله سبحانه تعالى : إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير [ فاطر : 14 ] . فالفقر الثلاث الأول على الكاف والميم بخطاب الجمع المذكر ، والرابعة على الراء ، والنظير هاهنا في مطلق التربيع لا في عين حروف الفواصل .

                والفقر بكسر الفاء وفتح القاف جمع فقرة - بسكون القاف - وهي أجود بيت في القصيدة ، شبه بفقارة الظهر ، ثم سميت القطعة من السجع فقرة تشبيها به ، والفاصلة في النثر كالقافية في الشعر ، وقد حققت القول فيها في كتاب " بغية الواصل إلى معرفة الفواصل " .

                الوجه الثاني : لما كان الإنسان لما جبل عليه من الضعف والعجز على ما أخبر الله سبحانه وتعالى عنه بقوله : وخلق الإنسان ضعيفا [ النساء : 28 ] و الله الذي خلقكم من ضعف [ الروم : 54 ] لا يستقل بشيء من مراداته بدون إعانة من الله سبحانه وتعالى ، وتوفيق ، وعصمة ، وتسديد . وكان دعاء الله سبحانه وتعالى ونداؤه في المهمات وغيرها مشروعا ، وافتتاح الأمور التي يرام الشروع فيها بحمد الله والتبرك بذكر اسمه مندوبا ، كما قال سبحانه وتعالى : ادعوا ربكم تضرعا وخفية [ الأعراف : 55 ] أمن يجيب المضطر إذا دعاه [ النمل : 62 ] وأيوب إذ نادى ربه [ الأنبياء : 83 ] في آيات كثيرة مشتملة على الأمر بالدعاء وعلى الإخبار به من أعيان البشر من الأنبياء والأولياء ، وكما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع . وفي رواية [ ص: 55 ] أبي داود : كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد ، فهو أجذم رواه من وجوه ، وفي بعضها : لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر ، وفي رواية المعافى بن عمران عن الأوزاعي : كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله أو حمده فهو أقطع .

                ذكر هذه الألفاظ بإسناده الحسن بن محمد المصري في " الإفصاح " والحديث مشهور بين أهل العلم

                قدمت نداء الله سبحانه وتعالى ودعاءه بالتوفيق والإعانة على التحقيق ، وجعلت ذلك توطئة إلى حمده واستجلاب ما عنده من فواضل رفده .

                الوجه الثالث : في الكلام على ألفاظ الجملة المذكورة ومعانيها ، فأقول : اللهم : أصله يا الله ، فحذفت " يا " من أوله وعوض عنها الميم في آخره ، ولذلك لا يجتمعان إلا في ضرورة الشعر كقوله :


                إني إذا ما حدث ألما أقول يا اللهم يا اللهما

                [ ص: 56 ] لئلا يجمع بين العوض والمعوض ، وكان ما فعلوه من الحذف والتعويض لوجهين :

                أحدهما : أن يكون الابتداء بلفظ اسم الله تبركا وتعظيما .

                والثاني : طلبا للتخفيف بتصيير اللفظين لفظا واحدا ، كما قالوا : أيش هذا ، وأصله أي شيء هذا في نظائر له كثيرة .

                أما واجب الوجود : فالواجب هو المستقر الثابت ، وسيأتي إن شاء الله سبحانه وتعالى له مزيد بيان عند ذكر أقسام الأحكام .

                والوجود : هو الإثبات الصرف ، كما أن نقيضه - وهو العدم - النفي الصرف ، ولذلك ذهب المحققون إلى أن الوجود في المعلومات بديهة ، فهو غني عن التعريف .

                إذا عرفت هذا فقولهم : واجب الوجود عبارة أحدثها الفلاسفة والمتكلمون وهي لا تعرف في كلام الشارع ولا في كلام السلف فيما علمنا ، لكن معناه ثابت في كلام الشارع ، مجمع عليه ، فإن معنى واجب الوجود عند أهل هذه العبارة ، هو الموجود الذي لم يسبق وجوده عدم ، ووجوده من ذاته لذاته ، لا من سبب خارج ، ولا لعلة خارجة ، وهذا معنى قوله تعالى : هو الأول والآخر [ الحديد : 3 ] ، وقوله عليه السلام : أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء في حديث صحيح رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه . [ ص: 57 ]

                وتحقيق الكلام في هذا المقام : أن الشيء أو المعلوم إما أن يجب وجوده لذاته أو يمتنع وجوده لذاته ، أو يكون لذاته جائز الوجود والعدم ابتداء أو دواما ، أعني دوامه على العدم الأصلي ، كإنسان لم يوجد بعد ، أو عدمه بعد وجوده ، كإنسان وجد ثم عدم .

                فالأول : هو واجب الوجود ، وهو الله سبحانه وتعالى وصفاته الذاتية ، أي : القائمة بذاته ، كالحياة والعلم والقدرة والإرادة والكلام ، ونحوها ، لا غير :

                والثاني : وهو المحال الممتنع الوجود ، كالجمع بين الضدين ، كالسواد والبياض في محل واحد ، أو بين النقيضين ، ككون الشيء معدوما موجودا في زمان واحد ، وقد يجب وجود الشيء لغيره ، ويمتنع وجوده لغيره ، كما سيأتي بيانه إن شاء الله سبحانه وتعالى عند ذكر تكليف المحال .

                والثالث : وهو ما كان لذاته جائز الوجود والعدم ، يسمى ممكنا ، كالعالم وسائر أجزائه ، ولا بد فيه من سبب آخر يختص بالواجب والممكن ، وهو أن الشيء إن افتقر في وجوده إلى سبب مؤثر فيه خارج عن ذاته ، فهو الممكن الجائز ، وإن لم يفتقر ، فهو الواجب .

                وإنما قلنا : إن هذا التقسيم يختص الواجب والممكن ، لأن الممتنع لا وجود له حتى يفتقر إلى مؤثر خارج ، أو يستغني عنه .

                ومعنى قولنا : واجب الوجود لذاته أو لغيره ، وهذا موجود لذاته أو لغيره : أن علة وجوده ذاته أو غيره ، ولهذا كان الموجود لذاته دائم البقاء ما دامت ذاته موجودة ، بخلاف ما علة وجوده أمر خارج عن ذاته ، فإنه يزول بزوال علته . [ ص: 58 ]

                فإن قيل : فالموجود لذاته لو قدر زوال علته ، وهي ذاته ، لزال .

                قلنا : نعم ، لكن ما علة وجوده ذاته لا يمكن زوال علته حتى يزول ، لما تقرر في العلم الكلامي .

                وقوله : ويا موجد كل موجود " يعني من الممكنات ، وهو العالم بأسره ، والله سبحانه وتعالى هو الذي أوجدها ، وأفاض عليها وجودها بقدرته . وقوله : " ويا مفيض الخير والجود " الخير : ضد الشر ، وهو ما يلائم الطبع المعتدل السليم ويختاره العاقل ، نعم قد يكون وجه الاختيار في الشيء ظاهرا ، كالعافية الدائمة ، والرئاسة العالية ، والمآكل والمشارب المستطابة ، وقد يكون خفيا كامنا في ضده ، حتى إذا ظهر ، لاح وجه الاختيار فيه ، كالأمراض والعاهات والذل والخمول المفضية إلى الصحة ، والرفعة في العقبى ، وشرب الأدوية الكريهة المفضي إلى زوال العلة ، فهي خيرات باعتبار معناها ومآلها ، وإن كانت شرورا باعتبار صورتها وحالها ، وأفعال الله سبحانه وتعالى في الوجود كلها حكمة وخير ، لكن منها ما ظهر فيه وجه الاختيار ، كالنافع من الحيوان والزروع والثمار ، ومنها ما خفي فيه ذلك كالمضر من السباع وأنواع العقار ، حتى قال بعض من أوجب على الله سبحانه وتعالى رعاية مصالح عباده : إن دخول النار والخلود فيها هو الأصلح للكفار ، وإن كان قولا لا يثبت عند الاعتبار .

                والخير من حيث اللفظ مصدر : خار يخير خيرا : إذا صار خيرا ، وخار الله له يخير له خيرا . إذا اختار له ما يوافقه .

                ومن حيث المعنى : هو ضد الشر ، وهو ما وافق الغرض بوجه ما ، وهو من [ ص: 59 ] الإضافيات ، أي قد يكون الشيء خيرا من وجه دون وجه .

                والجود : مصدر جاد الرجل بماله يجود جودا : إذا بذله لا لعوض ، وأصله من الجود بفتح الجيم ، وهو المطر الغزير ، يقال : جاد المطر يجود جودا .

                ومفيض : اسم فاعل من : أفاض يفيض إفاضة ، فهو مفيض ، وحقيقته في الماء ونحوه من المائعات ، يقال : فاض القدح والإناء إذا صببت فيه من المائع حتى امتلأ ، وجعل يتبدد من حافاته ، واستعماله في المعاني ، نحو : أفاض الخير والعطاء ، وأفاضوا في الحديث ، وأفاض الحاج من منى إلى البيت للطواف مجاز ، وهذه المادة بالضاد ، أما قولهم : فاظت نفسه ففيه معنى الفيض إلا أنه بالظاء ، إما ملاحظة لمعنى آخر ، أو فرقا بين فاض الماء وفاظت نفسه ، وكثيرا ما يفرقون باختلاف الحروف بين المعاني والمدلولات ، كقولهم : البيض كله بالضاد إلا بيظ النمل بالظاء .



                وقوله : " على كل قاص من خلقه ودان " . القاصي : البعيد ، والداني : القريب . والذي خطر ببالي وقت إنشاء الخطبة القرب والبعد المكاني ، وهو إنما يصح بالنسبة إلى أجزاء العالم من شخص ومكان صحة إضافية ، مثلا من في الشام أقرب إلى من بمصر ممن ببغداد وبلاد المشرق ، وبالعكس من بالشام أقرب إلى من ببغداد ممن بمصر وبلاد المغرب ، وإنما قلنا هذا ، لأن الله سبحانه وتعالى هو أقرب إلى كل أحد من حبل الوريد ، فلا يقال : إن بعض الأشياء أقرب إليه من بعض ، والله سبحانه وتعالى على [ ص: 60 ] خلاف المشاهدات في القرب والبعد والظهور والبطون ، فهو ظاهر في اختفائه ، باطن في ظهوره ، قريب في بعده ، بعيد في قربه هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم [ الحديد : 3 ] .

                وأيضا كما لا يقال : إن بعض المخلوقات أهون عليه من بعض ، لا يقال : بعضها أقرب إليه من بعض خصوصا على قول من ينفي الجهة ، أو يقول : إنه بذاته في كل مكان ، فلا يتصور الأقرب والأبعد بالنسبة إليه سبحانه وتعالى ، أما من يثبت الجهة ، فقد يمكن توجيه ذلك على قوله ، ويجوز تخريج الكلام على القرب والبعد بالطاعة والمعصية . فيكون معناه : مفيض الخير على كل قريب إليك ، أي : إلى رحمتك بالطاعة ، وكل بعيد عنك بالمعصية ، ومن المعلوم أن الله سبحانه وتعالى أسبغ إنعامه على المطيع والعاصي ، والمؤمن والكافر ، والبر والفاجر .




                الخدمات العلمية