الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وأما الذي يرجع إلى وقت التضحية فهو أنها لا تجوز قبل دخول الوقت ; لأن الوقت كما هو شرط الوجوب فهو شرط جواز إقامة الواجب كوقت الصلاة ، فلا يجوز لأحد أن يضحي قبل طلوع الفجر الثاني من اليوم الأول من أيام النحر ويجوز بعد طلوعه سواء كان من أهل المصر أو من أهل القرى ، غير أن للجواز في حق أهل المصر شرطا زائدا وهو أن يكون بعد صلاة العيد ، لا يجوز تقديمها عليه عندنا .

                                                                                                                                وقال الشافعي رحمه الله : إذا مضى من الوقت مقدار ما صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العيد جازت الأضحية وإن لم يصل الإمام ، والصحيح قولنا ; لما روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { من ذبح قبل الصلاة فليعد أضحيته } وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال { أول نسكنا في يومنا هذا الصلاة ثم الذبح } وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه { : من كان منكم ذبح قبل الصلاة فإنما هي غدوة أطعمه الله تعالى إنما الذبح بعد الصلاة } فقد رتب النبي عليه الصلاة والسلام الذبح على الصلاة وليس لأهل القرى صلاة العيد فلا يثبت الترتيب في حقهم .

                                                                                                                                وإن أخر الإمام صلاة العيد فليس للرجل أن يذبح أضحيته حتى يتنصف النهار ، فإن اشتغل الإمام فلم يصل العيد أو ترك ذلك متعمدا حتى زالت الشمس فقد حل الذبح بغير صلاة في الأيام كلها ; لأنه لما زالت الشمس فقد فات وقت الصلاة وإنما يخرج الإمام في اليوم الثاني والثالث على وجه القضاء ، والترتيب شرط في الأداء لا في القضاء ، كذا ذكره القدوري رحمه الله .

                                                                                                                                وإن كان يصلي في المصر في موضعين بأن كان الإمام قد خلف من يصلي بضعفة الناس في الجامع وخرج هو بالآخرين إلى المصلى - وهو الجبانة - ذكر الكرخي رحمه الله أنه إذا صلى أهل أحد المسجدين أيهما كان جاز ذبح الأضاحي ، وذكر في الأصل إذا صلى أهل المسجد فالقياس أن لا يجوز ذبح الأضحية وفي الاستحسان يجوز .

                                                                                                                                ( وجه ) القياس أن صلاة العيد لما كانت شرطا لجواز الأضحية في حق أهل المصر فاعتبار صلاة أهل أحد الموضعين يقتضي أن يجوز ، واعتبار صلاة أهل الموضع الآخر يقتضي أن لا يجوز فلا يحكم بالجواز بالشك بل يحكم بعدم الجواز احتياطا .

                                                                                                                                ( وجه ) الاستحسان أن الشرط صلاة العيد ، والصلاة في المسجد الجامع تجزي عن صلاة العيد ; بدليل أنهم لو اقتصروا عليها جاز ويقع الاكتفاء بذلك فقد وجد الشرط فجاز ، وكذا في الحديث الذي روينا ترتيب الذبح على الصلاة مطلقا وقد وجدت ولو سبق أهل الجبانة بالصلاة قبل أهل المسجد لم يذكر هذا في الأصل ، وقيل لا رواية في هذا وذكر الكرخي رحمه الله أن هذا كصلاة أهل المسجد ، فعلى قوله يكون فيه قياس واستحسان كما إذا صلى أهل المسجد .

                                                                                                                                واختلف المتأخرون ; منهم من قال : يجب أن يكون هذا جائزا قياسا واستحسانا ; لأن الأصل في صلاة العيد صلاة من في الجبانة وإنما يصلي من يصلي في المسجد لعذر فوجب اعتبار الأصل دون غيرهم .

                                                                                                                                ومنهم من أثبت فيه القياس والاستحسان كما في المسألة الأولى ووجهها ما ذكرنا .

                                                                                                                                ومنهم من قال : لا تجوز الأضحية بصلاة أهل الجبانة حتى يصلي أهل المسجد ; لأن الصلاة في المسجد هي الأصل بدليل سائر الصلوات وإنما يخرج الإمام إلى الجبانة لضرورة أن المسجد لا يتسع لهم فيجب اعتبار الأصل .

                                                                                                                                ولو ذبح والإمام في خلال الصلاة لا يجوز وكذا إذا ضحى قبل أن يقعد قدر التشهد ، ولو ذبح بعدما قعد قدر التشهد قبل السلام قالوا - على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله لا يجوز كما لو كان في خلال الصلاة وعلى قياس قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله الله - يجوز بناء على أن خروج المصلي من الصلاة بصفة فرض عنده وعندهما ليس بفرض .

                                                                                                                                ولو ضحى قبل فراغ الإمام من الخطبة أو قبل الخطبة جاز ; لأن النبي عليه الصلاة والسلام رتب الذبح على الصلاة لا على الخطبة فيما روينا من الأحاديث فدل أن العبرة للصلاة لا للخطبة .

                                                                                                                                ولو صلى الإمام صلاة العيد وذبح رجل أضحيته ثم تبين أنه يوم عرفة فعلى الإمام أن يعيد [ ص: 74 ] الصلاة من الغد وعلى الرجل أن يعيد الأضحية ; لأنه تبين أن الصلاة والأضحية وقعتا قبل الوقت فلم يجز ، وإن تبين أن الإمام كان على غير وضوء فإن علم ذلك قبل أن يتفرق الناس يعيد بهم الصلاة باتفاق الروايات ، وهل يجوز ما ضحى قبل الإعادة ؟ ذكر في بعض الروايات أنه يجوز ; لأنه ذبح بعد صلاة يجيزها بعض الفقهاء وهو الشافعي رحمه الله ; لأن فساد صلاة الإمام لا يوجب فساد صلاة المقتدي عنده فكانت تلك صلاة معتبرة عنده ، فعلى هذا يعيد الإمام وحده ولا يعيد القوم وذلك استحسانا وذكر في اختلاف زفر رحمه الله أنه يعيد بهم الصلاة ولا يجوز ما ضحى قبل إعادة الصلاة .

                                                                                                                                وإن تفرق الناس عن الإمام ثم علم بعد ذلك فقد ذكر في بعض الروايات أن الصلاة لا تعاد ، وقد جازت الأضحية عن المضحي ; لأنها صلاة قد جازت في قول بعض الفقهاء فترك إعادتها بعد تفرق الناس أحسن من أن ينادي الناس أن يجتمعوا ثانيا ، وهو أيسر من أنه تبطل أضاحيهم .

                                                                                                                                وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه تعاد الأضحية ولا تعاد بهم الصلاة ; لأن إعادة الأضحية أيسر من إعادة الصلاة .

                                                                                                                                وروي أيضا أنه ينادي بهم حتى يجتمعوا ويعيد بهم الصلاة ، قال البلخي رحمه الله : فعلى هذا القياس لا تجزي ذبيحة من ذبح قبل إعادة الصلاة إلا أن تكون الشمس قد زالت فتجزي ذبيحة من ذبح في قولهم جميعا وسقطت عنهم الصلاة ، ولو شهد ناس عند الإمام - بعد نصف النهار وبعدما زالت الشمس - أن ذلك اليوم هو العاشر من ذي الحجة جاز لهم أن يضحوا ويخرج الإمام من الغد فيصلي بهم صلاة العيد ، وإن علم في صدر النهار أنه يوم النحر فشغل الإمام عن الخروج أو غفل فلم يخرج ولم يأمر أحدا يصلي بهم فلا ينبغي لأحد أن يضحي حين يصلي الإمام إلى أن تزول الشمس ، فإذا زالت قبل أن يخرج الإمام ضحى الناس ، وإن ضحى أحد قبل ذلك لم يجز .

                                                                                                                                ولو صلى الإمام صلاة العيد وذبح رجل أضحيته ثم تبين للإمام أن يوم العيد كان بالأمس جازت الصلاة وجاز للرجل أضحيته .

                                                                                                                                ولو وقعت فتنة في مصر ولم يكن لها إمام من قبل السلطان يصلي بهم صلاة العيد فالقياس في ذلك أن يكون وقت النحر في ذلك المصر بعد طلوع الفجر يوم النحر بمنزلة القرى التي لا يصلى فيها ، ولكن يستحسن أن يكون وقت نحرهم بعد زوال الشمس من يوم النحر ; لأن الموضع موضع الصلاة ، ألا ترى أن الإمام لو كان حاضرا كان عليهم أن يصلوا إلا أنه امتنع أداؤها العارض فلا يتغير حكم الأصل ; كما لو كان الإمام حاضرا فلم يصل لعارض أسباب من مرض أو غير ذلك ، وهناك لا يجوز الذبح إلا بعد الزوال كذا ههنا .

                                                                                                                                ولو ذبح أضحيته بعد الزوال من يوم عرفة ثم ظهر أن ذلك اليوم كان يوم النحر جازت الأضحية عندنا ; لأن الذبح حصل في وقته فيجزيه والله - عز شأنه - أعلم .

                                                                                                                                هذا إذا كان من عليه الأضحية في المصر والشاة في المصر ; فإن كان هو في المصر والشاة في الرستاق أو في موضع لا يصلى فيه وقد كان أمر أن يضحوا عنه فضحوا بها بعد طلوع الفجر قبل صلاة العيد فإنها تجزيه ، وعلى عكسه لو كان هو في الرستاق والشاة في المصر وقد أمر من يضحي عنه فضحوا بها قبل صلاة العيد فإنها لا تجزيه وإنما يعتبر في هذا مكان الشاة لا مكان من عليه ، هكذا ذكر محمد - عليه الرحمة - في النوادر وقال : إنما أنظر إلى محل الذبح ولا أنظر إلى موضع المذبوح عنه ، وهكذا روى الحسن عن أبي يوسف رحمه الله : يعتبر المكان الذي يكون فيه الذبح ولا يعتبر المكان الذي يكون فيه المذبوح عنه ، وإنما كان كذلك ; لأن الذبح هو القربة فيعتبر مكان فعلها لا مكان المفعول عنه .

                                                                                                                                وإن كان الرجل في مصر وأهله في مصر آخر فكتب إليهم أن يضحوا عنه روي عن أبي يوسف أنه اعتبر مكان الذبيحة فقال : ينبغي لهم أن لا يضحوا عنه حتى يصلي الإمام الذي فيه أهله ، وإن ضحوا عنه قبل أن يصلي لم يجزه ، وهو قول محمد - عليه الرحمة - وقال الحسن بن زياد : انتظرت الصلاتين جميعا وإن شكوا في وقت صلاة المصر الآخر انتظرت به الزوال فعنده لا يذبحون عنه حتى يصلوا في المصرين جميعا ، وإن وقع لهم الشك في وقت صلاة المصر الآخر لم يذبحوا حتى تزول الشمس فإذا زالت ذبحوا عنه .

                                                                                                                                ( وجه ) قول الحسن أن فيما قلنا اعتبار الحالين حال الذبح وحال المذبوح عنه فكان أولى ولأبي يوسف ومحمد رحمهما الله أن القربة في الذبح ، والقربات المؤقتة يعتبر وقتها في حق فاعلها لا في حق المفعول عنه ، ويجوز الذبح في أيام النحر نهرها ولياليها ; وهما ليلتان : ليلة اليوم الثاني وهي ليلة الحادي عشر ، وليلة اليوم الثالث وهي ليلة الثاني [ ص: 75 ] عشر ، ولا يدخل فيها ليلة الأضحى وهي ليلة العاشر من ذي الحجة لقول جماعة من الصحابة رضي الله عنهم : أيام النحر ثلاثة ، وذكر الأيام يكون ذكر الليالي لغة ، قال الله - عز شأنه - في قصة زكريا عليه الصلاة والسلام { ثلاثة أيام إلا رمزا } وقال عز شأنه في موضع آخر { ثلاث ليال سويا } والقصة قصة واحدة إلا أنه لم يدخل فيها الليلة العاشرة من ذي الحجة ; لأنه استتبعها النهار الماضي وهو يوم عرفة ; بدليل أن من أدركها فقد أدرك الحج ، كما لو أدرك النهار وهو يوم عرفة فإذا جعلت تابعة للنهار الماضي لا تتبع النهار المستقبل فلا تدخل في وقت التضحية وتدخل الليلتان بعدها ، غير أنه يكره الذبح بالليل لا لأنه ليس بوقت للتضحية بل لمعنى آخر ذكرناه في كتاب الذبائح ، والله - عز شأنه - أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية