الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( ومنها ) : العجز عن التحرير عينا في الأنواع الثلاثة شرط لوجوب الصوم فيها ، لقوله - عز شأنه - في كفارة القتل والظهار { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين } أي من لم يجد رقبة ، شرط - سبحانه وتعالى - عدم وجود الرقبة لوجوب الصوم فلا يجب الصوم مع القدرة على التحرير .

                                                                                                                                ( وأما ) في كفارة اليمين فالعجز عن الأشياء الثلاثة شرط لوجوب الصوم فيها لقوله تعالى { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام } أي فمن لم يجد واحدا منها فعليه صيام ثلاثة أيام فلا يجب الصوم مع القدرة على واحد منها ، ( وأما ) العجز عن الصيام فشرط لوجوب الإطعام فيما للإطعام فيه مدخل لقوله جل وعلا { فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا } أي من لم يستطع الصيام فعليه إطعام ستين مسكينا فلا يجب الإطعام مع استطاعة الصيام ، ثم اختلف في أن المعتبر هو القدرة والعجز وقت الوجوب أم وقت الأداء ، قال : أصحابنا رحمهم الله : وقت الأداء ، وقال الشافعي رحمه الله : وقت الوجوب ، حتى لو كان [ ص: 98 ] موسرا وقت الوجوب ثم أعسر جاز له الصوم عندنا وعنده لا يجوز ، ولو كان على القلب لا يجوز عندنا وعنده يجوز ( وجه ) قوله إن الكفارة وجبت عقوبة فيعتبر فيها وقت الوجوب كالحد فإن العبد إذا زنى ثم أعتق يقام عليه حد العبيد .

                                                                                                                                ( والدليل ) على أنها وجبت عقوبة أن سبب وجوبها الجناية من الظهار والقتل والإفطار والحنث ، وتعليق الوجوب بالجناية تعليق الحكم بوصف مناسب مؤثر فيحال عليه ، وربما قالوا هذا ضمان يختلف باليسار والإعسار فيعتبر فيه حال الوجوب كضمان الإعتاق .

                                                                                                                                ( ولنا ) أن الكفارة عبادة لها بدل ومبدل فيعتبر فيها وقت الأداء لا وقت الوجوب كالصلاة بأن فاتته صلاة في الصحة فقضاها في المرض قاعدا أو بالإيماء أنه يجوز ( والدليل ) على أنها عبادة وأن لها بدلا أن الصوم بدل عن التكفير بالمال ، والصوم عبادة ، وبدل العبادة عبادة ، وكذا يشترط فيها النية وإنها لا تشترط إلا في العبادات ، وإذا ثبت أنها عبادة لها بدل ومبدل فهذا يوجب أن يكون المعتبر فيها وقت الأداء لا وقت الوجوب ، لأنه إذا أيسر قبل الشروع في الصيام أو قبل تمامه فقد قدر على المبدل قبل حصول المقصود بالبدل فيبطل البدل ، وينتقل الأمر إلى المبدل كالمتيمم إذا وجد الماء قبل الشروع في الصلاة أو بعده قبل الفراغ منها عندنا ، وكالصغيرة إذا اعتدت بشهر ثم حاضت إنه يبطل الاعتداد بالأشهر وينتقل الحكم إلى الحيض ، وإذا أعسر قبل التكفير بالمال فقد عجز عن المبدل قبل حصول المقصود به وقدر على تحصيله بالبدل كواجد الماء إذا لم يتوضأ حتى مضى الوقت ثم عدم الماء ووجد ترابا نظيفا أنه يجوز له أن يتيمم ويصلي ، بل يجب عليه ذلك كذا ههنا ، بخلاف الحدود لأن الحد ليس بعبادة مقصودة بل هو عقوبة ولهذا لا يفتقر إلى النية ، وكذا لا بدل له لأن حد العبيد ليس بدلا عن حد الأحرار بل هو أصل بنفسه ، ألا ترى أنه يحد العبيد مع القدرة على حد الأحرار ، ولا يجوز المصير إلى البدل مع القدرة على المبدل كالتراب مع الماء وغير ذلك ، بخلاف الصلاة إذا وجبت على الإنسان وهو مقيم ثم سافر ، أو مسافر ثم أقام إنه يعتبر في قضائها وقت الوجوب ، لأن صلاة المسافر ليست بدلا عن صلاة المقيم ، ولا صلاة المقيم بدل عن صلاة المسافر ، بل صلاة كل واحد منهما أصل بنفسها ، ألا ترى أنه يصلي إحداهما مع القدرة على الأخرى ؟ وبخلاف ضمان الإعتاق لأنه ليس بعبادة ، وكذا السعاية ليست ببدل عن الضمان على أصل أبي حنيفة رحمه الله لأن الشريك مخير عندهم بين التضمين والاستسعاء ولا يخير بين البدل والمبدل في الشريعة ( وأما ) قوله إن سبب وجوب الكفارة الجناية فممنوع ، بل سبب وجوبها ما هو سبب وجوب التوبة ، إذ هي أحد نوعي التوبة ، وإنما الجناية شرط كما في التوبة ، هذا قول المحققين من مشايخنا ، وعلى هذا يخرج ما إذا وجب عليه التحرير ، أو أحد الأشياء الثلاثة بأن كان موسرا ثم أعسر أنه يجزئه الصوم ، ولو كان معسرا ثم أيسر لم يجزه الصوم عندنا ، وعند الشافعي لا يجزئه في الأول ويجزئه في الثاني ، لأن الاعتبار لوقت الأداء عندنا لا لوقت الوجوب ، وهو في الأول يعتبر وقت الأداء فوجد شرط جواز الصوم ووجوبه وهو عدم الرقبة فجاز بل وجب ، وفي الثاني لم يوجد الشرط فلم يجز ، وعنده لما كان المعتبر وقت الوجوب فيراعى وجود الشرط للجواز وعدمه وقت الوجوب ، ولم يوجد في الأول ووجد في الثاني ، ولو شرع في الصوم ثم أيسر قبل تمامه لم يجز صومه ، ذكر هذا في الأصل ، بلغنا ذلك عن عبد الله بن عباس وإبراهيم لما ذكرنا أنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل فلا يعتبر البدل ، والأفضل أن يتم صوم ذلك اليوم فلو أفطر لا يلزمه القضاء عند أصحابنا الثلاثة رحمهم الله ، وعند زفر رحمه الله يقضي ، وأصل هذه المسألة في كتاب الصوم ، وهو من شرع في صوم على ظن أنه عليه ثم تبين أنه ليس عليه فالأفضل له أن يتم الصوم ، ولو أفطر فهو على الاختلاف الذي ذكرنا ، وعلى قياس قول الشافعي رحمه الله يمضي على صومه لأن العبرة في باب الكفارات لوقت الوجوب عنده ، ووقت الوجوب كان معسرا ، ولو أيسر بعد الإتمام جاز صومه لأنه قدر على المبدل بعد حصول المقصود بالبدل فلا يبطل البدل ، بخلاف الشيخ الفاني إذا فدى ثم قدر على الصوم إنه تبطل الفدية ويلزمه الصوم لأن الشيخ الفاني هو الذي لا ترجى له القدرة على الصوم ، فإذا قدر تبين أنه لم يكن شيخا فانيا ، ولأن الفدية ليست ببدل مطلق لأنها ليست بمثل للصوم صورة ومعنى فكانت بدلا ضروريا ، وقد ارتفعت الضرورة فبطلت القدرة ، [ ص: 99 ] فأما الصوم فبدل مطلق فلا يبطل بالقدرة على الأصل بعد حصول المقصود به والله - عز شأنه - أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية