الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          205 - فصل : المذهب العاشر : أنهم يمتحنون في الآخرة .

                          ويرسل إليهم الله تبارك وتعالى رسولا ، وإلى كل من لم تبلغه الدعوة : فمن أطاع الرسول دخل الجنة ، ومن عصاه دخل النار .

                          وعلى هذا ، فيكون بعضهم في الجنة وبعضهم في النار .

                          وهذا قول جميع أهل السنة ، والحديث : حكاه الأشعري عنهم في [ ص: 1138 ] كتاب " الإبانة " الذي اتفق أصحابه على أنه تأليفه ، وذكره ابن فورك ، وذكره أبو القاسم بن عساكر في تصانيفه ، وذكر لفظه في حكايته قول أهل السنة والحديث ، وطعن بذلك على من بدع الأشعري وضلله .

                          [ ص: 1139 ] قال فيه : " وجملة قولنا أن نقر بالله تبارك وتعالى ، وملائكته ، وكتبه ورسله ، وما جاء من عنده ، وما روى لنا الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نرد من ذلك شيئا " إلى أن قال : " وقولنا في الأطفال - أطفال المشركين - أن الله عز وجل يؤجج لهم نارا في الآخرة ، ثم يقول : " اقتحموها " كما جاءت الرواية بذلك " هذا قوله في " الإبانة " وهو من آخر كتبه .

                          وقال في كتاب " المقالات " : " وإن الأطفال أمرهم إلى الله ، إن شاء عذبهم ، وإن شاء غفر لهم كما يريد " .

                          وهذا المذهب حكاه محمد بن نصر المروزي في كتابه في " الرد على ابن قتيبة " ، واحتج له فقال : ( ذكر الأخبار التي احتج بها من أوجب امتحانهم ، واختبارهم في الآخرة ) فقال :

                          حدثنا إسحاق ، أخبرنا معاذ بن هشام ، حدثنا أبي ، عن قتادة ، عن الأحنف بن قيس ، عن الأسود بن سريع أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أربعة يمتحنون يوم القيامة : رجل أصم لا يسمع ، ورجل أحمق ، ورجل هرم ، ورجل مات في الفترة .

                          [ ص: 1140 ] أما الأصم فيقول : يا رب ، قد جاء الإسلام وما أسمع شيئا ، وأما الأحمق فيقول : يا رب ، قد جاء الإسلام والصبيان يرمونني بالبعر ، وأما الهرم فيقول : يا رب قد جاء الإسلام وما أعقل شيئا ، وأما الذي مات في الفترة ، فيقول : ما أتاني لك رسول ، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه ، فيرسل إليهم رسولا : أن ادخلوا النار ، فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما " .

                          حدثنا إسحاق ، أخبرنا معاذ بن هشام ، أخبرني أبي ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - بمثل هذا الحديث ، غير أنه قال في آخره : " فمن دخلها كانت عليه بردا ، وسلاما ، ومن لم يدخلها [ ص: 1141 ] سحب إليها " .

                          حدثنا أبو بكر بن زنجويه ، ثنا عبد الرحمن ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : " ثلاثة يمتحنون يوم القيامة : المعتوه ، والذي هلك في الفترة ، والأصم . . " فذكر الحديث .

                          [ ص: 1142 ] حدثنا محمد بن يحيى ، ثنا أبو نصر التمار ، ثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن يزيد ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أربعة كلهم يوم القيامة يدلي على الله بحجة وعذر : رجل هلك في الفترة ، ورجل أدرك الإسلام هرما ، ورجل أصم أبكم ، ورجل معتوه ، فيبعث الله إليهم رسولا ، فيقول : أطيعوه ، فيأتيهم الرسول ، فيؤجج لهم نارا ، فيقول : اقتحموها فمن اقتحمها كانت عليه بردا ، وسلاما ، ومن لا حقت عليه كلمة العذاب " .

                          حدثنا محمد بن يحيى ، ثنا سعيد بن سليمان ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الهالك في الفترة ، والمعتوه ، والمولود ، قال : يقول الهالك في الفترة : لم يأتني كتاب ، ولا رسول ، ثم تلا : [ ص: 1143 ] ( ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى ) ، ويقول المعتوه : رب لم تجعل لي عقلا أعقل به خيرا ولا شرا ، قال : ويقول المولود : رب لم أدرك العقل ، قال : فترفع لهم نار ، فيقال لهم : ردوها ، أو ادخلوها . قال : فيردها أو يدخلها من كان في علم الله سعيدا ، لو أدرك العمل ، ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل ، فيقول : إياي عصيتم فكيف رسلي ؟ !

                          قال محمد بن نصر : ورواه أبو نعيم الملائي ، عن فضيل ، عن عطية ، [ ص: 1144 ] عن أبي سعيد " موقوفا " .

                          حدثنا أبو بكر بن زنجويه ، ثنا محمد بن المبارك

                          [ الصوري ] ، ثنا عمرو بن واقد ، عن يونس بن حلبس ، عن أبي إدريس ، عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يؤتى بالممسوخ - أو الممسوخ عقلا - والهالك في الفترة ، والهالك صغيرا ، فيقول الممسوخ عقلا : يا رب ، لو آتيتني عقلا ما كان من آتيته عقلا بأسعد مني بعقله ، ويقول الهالك في الفترة

                          [ يا رب : لو آتاني منك عهد ، ما كان من آتيته عهدا بأسعد بعهدك مني ، ويقول الهالك صغيرا : ] يا رب لو آتيتني عمرا ما كان من آتيته عمرا بأسعد بعمره مني ، فيقول الرب سبحانه : لئن آمركم بأمر أفتطيعونني ؟ فيقولون : نعم ، وعزتك يا رب . فيقول : اذهبوا فادخلوا النار . قال : لو دخلوها ما ضرتهم . قال : فيخرج عليهم قوابض يظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء ، فيرجعون سراعا فيقولون : خرجنا - وعزتك - نريد دخولها ، فخرجت علينا قوابض ظننا أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء . ثم يأمرهم الثانية فيرجعون كذلك ، ويقولون مثل قولهم ، فيقول الرب سبحانه : قبل أن أخلقكم علمت ما أنتم عاملون ، وعلى علمي خلقتكم ، [ ص: 1145 ] وإلى علمي تصيرون جميعكم ، فتأخذهم النار
                          " .

                          حدثنا أحمد بن عمرو ، أخبرنا جرير ، عن ليث ، عن عبد الوارث ، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يؤتى بالمولود والمعتوه ، ومن مات في الفترة ، وبالمعمر الفاني ، قال : كلهم يتكلم بحجته ، فيقول الرب تعالى لعنق من النار : ابرز ، فيقول لهم : إني كنت أبعث إلى عبادي رسلا من أنفسهم ، وإني رسول نفسي إليكم ، فيقول لهم : [ ص: 1146 ] ادخلوا هذه ، فيقول من كتب عليهم الشقاء : يا رب ، أنى ندخلها ومنها كنا نفر ! قال : ومن كتب عليه

                          [ السعادة ] يمضي فيقتحمهم فيها مسرعا . فيقول الرب تعالى : قد عاندتموني ، وقد عصيتموني ، فأنتم لرسلي أشد تكذيبا ، ومعصية ، فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار
                          .

                          حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا محمد بن الصباح ، ثنا ريحان بن سعيد

                          [ الناجي
                          ، ] عن عباد بن منصور ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي أسماء الرحبي ، عن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إذا كان يوم القيامة جاء أهل الجاهلية [ ص: 1147 ] يحملون أوثانهم على ظهورهم ، فيسألهم ربهم : ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون : ربنا لم ترسل إلينا رسولا ، ولم يأتنا لك أمر . ولو أرسلت إلينا رسولا لكنا أطوع عبادك لك ! فيقول لهم ربهم : أرأيتم إن أمرتكم بأمر تطيعونني ؟ فيقولون : نعم ، فيؤمرون أن يعمدوا إلى جهنم فيدخلوها ، فينطلقون حتى إذا رأوها ، فإذا لها تغيظ وزفير ، فيهابونها ، فيرجعون إلى ربهم ، فيقولون : يا ربنا ، فرقنا منها ، فيقول ربهم تبارك وتعالى : تزعمون أنكم إن أمرتكم بأمر أطعتموني ، فيأخذ مواثيقهم ، فيقول : اعمدوا إليها فادخلوها ، فينطلقون حتى إذا رأوها فرقوا ورجعوا إلى ربهم ، فقالوا : ربنا فرقنا منها ، فيقول : ألم تعطوني مواثيقكم لتطيعوني ؟ اعمدوا إليها فادخلوها . فينطلقون حتى إذا رأوها فزعوا ورجعوا ، فقالوا : فرقنا يا رب ، ولا نستطيع أن ندخلها ، فيقول ادخلوها داخرين . قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - : " لو دخلوها أول مرة كانت عليهم بردا وسلاما " .

                          [ ص: 1148 ] فإن قيل : هذه الأحاديث - مع ضعفها - مخالفة لكتاب الله ، ولقواعد الشريعة ، فإن الآخرة ليست دار تكليف ، وإنما هي دار جزاء ، ودار التكليف هي دار الدنيا ، فلو كانت الآخرة دار تكليف لكان ثم دار جزاء غيرها .

                          قال أبو عمر في " الاستذكار " ، وقد ذكر بعض هذه الأحاديث : وهذه الأحاديث كلها ليست بالقوية ، ولا تقوم بها حجة ، وأهل العلم ينكرون أحاديث هذا الباب ؛ لأن الآخرة دار جزاء ، وليست دار عمل ، ولا ابتلاء ، وكيف يكلفون دخول النار ، وليس ذلك في وسع المخلوقين ، والله لا يكلف نفسا إلا وسعها ؟ ولا يخلو من مات في الفترة من أن يكون مات كافرا ، أو غير كافر ، فإن مات كافرا جاحدا فإن الله حرم الجنة على [ ص: 1149 ] الكافرين فكيف يمتحنون ؟ وإن كان معذورا بأنه لم يأته نذير ولا رسول ، فكيف يؤمر أن يقتحم النار وهي أشد العذاب ؟ والطفل ومن لا يعقل أحرى بألا يمتحن بذلك .

                          فالجواب من وجوه :

                          أحدها : أن أحاديث هذا الباب قد تضافرت ، وكثرت بحيث يشد بعضها بعضا ، وقد صحح الحفاظ بعضها كما صحح البيهقي وعبد الحق وغيرهما حديث الأسود بن سريع .

                          وحديث أبي هريرة إسناده صحيح متصل ، ورواية معمر له ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة موقوفا لا تضره ، فإنا إن سلكنا طريق الفقهاء ، والأصوليين في الأخذ بالزيادة من الثقة فظاهر ، وإن سلكنا طريق الترجيح - وهي طريقة المحدثين - فليس من رفعه بدون من وقفه في الحفظ ، والإتقان .

                          الوجه الثاني : أن غاية ما يقدر فيه أنه موقوف على الصحابي ، ومثل هذا لا يقدم عليه الصحابي بالرأي والاجتهاد ، بل يجزم بأن ذلك توقيف لا عن رأي .

                          الوجه الثالث : أن هذه الأحاديث يشد بعضها بعضا ، فإنها قد تعددت طرقها ، واختلفت مخارجها ، فيبعد كل البعد أن تكون باطلة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يتكلم بها ، وقد رواها أئمة الإسلام ودونوها ، ولم يطعنوا فيها .

                          الوجه الرابع : أنها هي الموافقة للقرآن ، وقواعد الشرع ، فهي تفصيل لما أخبر به القرآن أنه لا يعذب أحد إلا بعد قيام الحجة عليه ، وهؤلاء لم تقم [ ص: 1150 ] عليهم حجة الله في الدنيا ، فلا بد أن يقيم حجته عليهم ، وأحق المواطن أن تقام فيه الحجة يوم يقوم الأشهاد ، وتسمع الدعاوى ، وتقام البينات ، ويختصم الناس بين يدي الرب ، وينطق كل أحد بحجته ومعذرته ، فلا تنفع الظالمين معذرتهم وتنفع غيرهم .

                          الوجه الخامس : أن القول بموجبها هو قول أهل السنة ، والحديث كما حكاه الأشعري عنهم في " المقالات " وحكى اتفاقهم عليه ، وإن كان قد اختار هو فيها أنهم مردودون إلى المشيئة ، وهذا لا ينافي القول بامتحانهم ، فإن ذلك هو موجب المشيئة .

                          الوجه السادس : أنه قد صح - بذلك - القول بها عن جماعة من الصحابة ، ولم يصح عنهم إلا هذا القول .

                          والقول بأنهم خدم أهل الجنة صح عن سلمان ، وفيه حديث مرفوع قد تقدم ، وأحاديث الامتحان أكثر وأصح وأشهر .

                          الوجه السابع : قوله : " وأهل العلم ينكرون أحاديث هذا الباب " جوابه أنه - وإن أنكرها بعضهم - فقد قبلها الأكثرون ، والذين قبلوها أكثر من الذين أنكروها ، وأعلم بالسنة والحديث ، وقد حكى فيه الأشعري اتفاق أهل السنة والحديث ، وقد بينا أنه مقتضى قواعد الشرع .

                          الوجه الثامن : أنه قد نص جماعة من الأئمة على وقوع الامتحان في [ ص: 1151 ] الدار الآخرة ، وقالوا : لا ينقطع التكليف إلا بدخول دار القرار ، ذكره البيهقي عن غير واحد من السلف .

                          الوجه التاسع : ما ثبت في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة ، وأبي سعيد - رضي الله عنهما - في الرجل الذي هو آخر أهل الجنة دخولا إليها : أن الله تعالى يأخذ عهوده ، ومواثيقه ألا يسأله غير الذي يعطيه ، وأنه يخالفه ، ويسأله غيره ، فيقول الله له : ما أعذرك ! وهذا العذر منه لمخالفته العهد الذي عاهده ربه عليه ، وهذه معصية منه .

                          الوجه العاشر : قد ثبت أنه سبحانه يأمرهم في القيامة بالسجود ، ويحول بين المخالفين وبينه ، وهذا تكليف بما ليس في الوسع قطعا ، فكيف ينكر التكليف بدخول النار اختيارا ؟

                          الوجه الحادي عشر : أنه قد ثبت امتحانهم في القبور ، وسؤالهم وتكليفهم الجواب ، وهذا تكليف بعد الموت برد الجواب .

                          [ ص: 1152 ] الوجه الثاني عشر : أن أمرهم بدخول النار ليس عقوبة لهم ، وكيف يعاقبهم على غير ذنب ؟ وإنما هو امتحان ، واختبار لهم : هل يطيعونه أو يعصونه ؟ فلو أطاعوه ، ودخلوها لم تضرهم ، وكانت عليهم بردا وسلاما ، فلما عصوه ، وامتنعوا من دخولها استوجبوا عقوبة مخالفة أمره ، والملوك قد تمتحن من يظهر طاعتهم هل هو منطو عليها بباطنه ، فيأمرونه بأمر شاق عليه في الظاهر هل يوطن نفسه عليه أم لا ، فإن أقدم عليه ، ووطن نفسه على فعله أعفوه منه ، وإن امتنع ، وعصى ألزموه به أو عاقبوه بما هو أشد منه .

                          وقد أمر الله سبحانه الخليل بذبح ولده ، ولم يكن مراده سوى توطين نفسه على الامتثال ، والتسليم ، وتقديم محبة الله على محبة الولد ، فلما فعل ذلك رفع عنه الأمر بالذبح .

                          [ ص: 1153 ] وقد ثبت أن الدجال يأتي معه بمثال الجنة والنار ، وهي نار في رأي العين ، ولكنها لا تحرق ، فمن دخلها لم تضره ، فلو أن هؤلاء يوطنون أنفسهم على دخول النار التي أمروا بدخولها طاعة لله ، ومحبة له ، وإيثارا لمرضاته ، وتقربا إليه بتحمل ما يؤلمهم لكان هذا الإقدام والقصد منهم لمرضاته ومحبته يقلب تلك النار بردا وسلاما ، كما قلب قصد الخليل - التقرب إلى ربه ، وإيثار محبته ، ومرضاته ، وبذل نفسه ، وإيثاره إياه على نفسه - تلك النار بأمر الله بردا وسلاما ، فليس أمره سبحانه إياهم بدخول النار عقوبة ، ولا تكليفا بالممتنع ، وإنما هو امتحان ، واختبار لهم هل يوطنون أنفسهم على طاعته أم ينطوون على معصيته ، ومخالفته . وقد علم سبحانه ما يقع منهم ولكنه لا يجازيهم على مجرد علمه فيهم ما لم يحصل معلومه الذي يترتب عليهم به الحجة ، فلا أحسن من هذا يفعله بهم وهو محض العدل ، والحكمة .

                          الوجه الثالث عشر : أن هذا مطابق لتكليفه عباده في الدنيا ، فإنه سبحانه لم يستفد بتكليفهم منفعة تعود إليه ، ولا هو محتاج إليه ، وإنما امتحنهم وابتلاهم ليتبين من يؤثر رضاه ومحبته ، ويشكره ممن يكفر به ويؤثر سخطه : قد علم منهم من يفعل هذا وهذا ، ولكنه بالابتلاء ظهر معلومه الذي يترتب عليه الثواب والعقاب ، وتقوم عليهم به الحجة .

                          [ ص: 1154 ] وكثير من الأوامر التي أمرهم بها في الدنيا نظير الأمر بدخول النار ، فإن الأمر بإلقاء نفوسهم بين سيوف أعدائهم ، ورماحهم ، وتعريضهم لأسرهم لهم ، وتعذيبهم ، واسترقاقهم ، لعله أعظم من الأمر بدخول النار ، وقد كلف الله بني إسرائيل قتل أنفسهم ، وأولادهم ، وأرواحهم ، وإخوانهم لما عبدوا العجل لما لهم في ذلك من المصلحة ، وهذا قريب من التكليف بدخول النار ، وكلف على لسان رسوله المؤمنين إذا رأوا نار الدجال أن يقعوا فيها - لما لهم في ذلك من المصلحة - وليست في الحقيقة نارا ، وإن كانت في رأي العين نارا ، وكذلك النار التي أمروا بدخولها في الآخرة إنما هي برد وسلام على من دخلها ، فلو لم يأت بذلك أثر لكان هذا هو مقتضى حكمته وعدله ، وموجب أسمائه ، وصفاته .

                          الوجه الرابع عشر : أن القائل قائلان : قائل بأنه سبحانه يفعل بمحض المشيئة ، والإرادة من غير تعليل ، ولا غاية مطلوبة بالفعل ، وقائل بمراعاة الحكم ، والغايات المحمودة ، والمصالح .

                          [ ص: 1155 ] وعلى المذهبين فلا يمتنع الامتحان في عرصات القيامة ، بل على القول الأول هو ممكن جائز لا يتوقف العلم به على أمر غير إخبار الصادق .

                          وعلى المذهب الثاني هو الذي لا يليق بالرب سواه ، ولا تقتضي أسماؤه وصفاته غيره ، فهو متعين .

                          الوجه الخامس عشر : قوله : " وليس ذلك في وسع المخلوقين " جوابه من وجهين :

                          أحدهما : أنه في وسعهم ، وإن كان يشق عليهم ، وهؤلاء عباد النار يتهافتون فيها ، ويلقون أنفسهم فيها طاعة للشيطان ، ولم يقولوا : " ليس في وسعنا " مع تألمهم بها غاية الألم ، فعباد الرحمن إذا أمرهم أرحم الراحمين بطاعته باقتحامهم النار كيف لا يكون في وسعهم وهو إنما يأمرهم بذلك لمصلحتهم ومنفعتهم ؟

                          الثاني : أنهم لو وطنوا أنفسهم على اتباع طاعته ومرضاته لكانت عين نعيمهم ولم تضرهم شيئا .

                          الوجه السادس عشر : أن أمرهم باقتحام النار المفضية بهم إلى النجاة منها بمنزلة الكي الذي يحسم الداء ، وبمنزلة تناول الداء الكريه الذي يعقب العافية ، وليس من باب العقوبة في شيء ، فإن الله سبحانه اقتضت حكمته وحمده وغناه ورحمته ألا يعذب من لا ذنب له ، بل يتعالى ويتقدس عن ذلك كما يتعالى عما يناقض صفات كماله ، فالأمر باقتحام النار للخلاص [ ص: 1156 ] منها هو عين الحكمة ، والرحمة ، والمصلحة ، حتى لو أنهم بادروا إليها طوعا ، واختيارا ورضا حيث علموا أن مرضاته في ذلك قبل أن يأمرهم به لكان ذلك عين صلاحهم ، وسبب نجاتهم ، فلم يفعلوا ذلك ، ولم يمتثلوا أمره ، وقد تيقنوا ، وعلموا أن فيه رضاه ، وصلاحهم ، بل هان عليهم أمره ، وعزت عليهم أنفسهم أن يبذلوا له منها هذا القدر الذي أمرهم به رحمة ، وإحسانا لا عقوبة .

                          الوجه السابع عشر : أن أمرهم باقتحام النار كأمر المؤمنين بركوب الصراط الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف ، ولا ريب أن ركوبه من أشق الأمور ، وأصعبها حتى أن الرسل لتشفق منه ، وكل منهم يسأل الله السلامة ! فركوب هذا الجسر الذي هو في غاية المشقة كاقتحام النار ، وكلاهما طريق إلى النجاة .

                          الوجه الثامن عشر : قوله : " ولا يخلو من مات في الفترة من أن يكون كافرا ، أو غير كافر ، فإن كان كافرا فإن الله حرم الجنة على الكافرين ، وإن كان معذورا بأنه لم يأته رسول فكيف يؤمر باقتحام النار ؟ " جوابه من وجوه :

                          أحدها : أن يقال هؤلاء لا يحكم لهم بكفر ولا إيمان ، فإن الكفر هو جحود ما جاء به الرسول ، فشرط تحققه بلوغ الرسالة ، والإيمان هو تصديق [ ص: 1157 ] الرسول فيما أخبر ، وطاعته فيما أمر ، وهذا أيضا مشروط ببلوغ الرسالة ، ولا يلزم من انتفاء أحدهما وجود الآخر إلا بعد قيام سببه ، فلما لم يكن هؤلاء في الدنيا كفارا ، ولا مؤمنين كان لهم في الآخرة حكم آخر غير حكم الفريقين .

                          فإن قيل : فأنتم تحكمون لهم بأحكام الكفار في الدنيا من التوارث ، والولاية ، والمناكحة ، قيل : إنما نحكم لهم بذلك في أحكام الدنيا لا في الثواب ، والعقاب ، كما تقدم بيانه .

                          الوجه الثاني : سلمنا أنهم كفار ، لكن انتفاء العذاب عنهم لانتفاء شرطه وهو قيام الحجة عليهم ، فإن الله تعالى لا يعذب إلا من قامت عليه حجته .

                          الوجه الثالث : قوله : " وإن كان معذورا كيف يؤمر أن يقتحم النار وهي أشد العذاب ؟ " فالذي قال هذا يوهم أن هذا الأمر عقوبة لهم ، وهذا غلط ، وإنما هو تكليف واختبار ، فإن بادروا إلى الامتثال لم تضرهم النار شيئا .

                          الوجه التاسع عشر : قوله : " كيف يمتحن الطفل ومن لا يعقل ؟ " كلام فاسد ، فإن الله سبحانه يوم القيامة ينشئهم عقلاء بالغين ، ويمتحنهم في [ ص: 1158 ] هذه الحال ، ولا يقع الامتحان بهم ، وهم على الحالة التي كانوا عليها في الدنيا : فالسنة ، وأقوال الصحابة ، وموجب قواعد الشرع وأصوله لا ترد بمثل ذلك ، والله أعلم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية