الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  533 35 - (حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة، عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم: مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوما يعملون له عملا إلى الليل، فعملوا إلى نصف النهار، فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجرك، فاستأجر آخرين، فقال: أكملوا بقية يومكم، ولكم الذي شرطت، فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا: لك ما عملنا، فاستأجر قوما فعملوا بقية يومهم، حتى غابت الشمس، واستكملوا أجر الفريقين).

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة هذا الحديث للترجمة بطريق الإشارة لا بالتصريح، بيان ذلك أن وقت العمل ممتد إلى غروب الشمس، وأقرب الأعمال المشهورة بهذا الوقت صلاة العصر، وإنما قلنا بطريق الإشارة؛ لأن هذا الحديث قصد به بيان الأعمال لا بيان الأوقات.

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله) وهم خمسة: الأول أبو كريب بضم الكاف، واسمه محمد بن العلاء. الثاني: أبو أسامة حماد بن أسامة. الثالث بريد، بضم الباء الموحدة ابن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري الكوفي، ويكنى أبا بردة. الرابع أبو بردة واسمه عامر، وهو جد بريد المذكور. الخامس: أبو موسى عبد الله بن قيس الأشعري.

                                                                                                                                                                                  (ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وفيه العنعنة في أربعة مواضع، وفيه القول، وفيه رواية الرجل عن جده، ورواية الابن عن أبيه، وفيه أن رواته ما بين كوفي وبصري، وفيه ثلاثة بالكنى.

                                                                                                                                                                                  وهذا الحديث أخرجه البخاري في الإجارة أيضا.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه) قوله: (مثل المسلمين)، المثل بفتح الميم في الأصل بمعنى المثل بكسر الميم، وهو النظير، يقال: مثل ومثل ومثيل كشبه وشبه وشبيه، ثم قيل للقول السائر: الممثل مضربه بمورده مثل: ولم يضربوا مثلا إلا لقول فيه غرابة، وهذا تشبيه المركب بالمركب، فالمشبه والمشبه به هما المجموعان الحاصلان من الطرفين، وإلا كان القياس أن يقال: كمثل أقوام استأجرهم رجل، ودخول كاف التشبيه على المشبه به في تشبيه المفرد بالمفرد، وهذا ليس كذلك. قوله: (لا حاجة لنا إلى أجرك)، الخطاب إنما هو للمستأجر، والمراد منه لازم هذا القول، وهو ترك العمل. قوله: (فقال: أكملوا)، من الإكمال بهمزة القطع، وكذا وقع في رواية البخاري في الإجارة، ووقع هنا في رواية الكشميهني: اعملوا، بهمزة الوصل من العمل. قوله: (حين) منصوب؛ لأنه خبر كان؛ أي: كان الزمان زمان الصلاة، ويجوز أن يكون مرفوعا بأنه اسم كان، وتكون تامة، وحاصل المعنى من قوله: (وقالوا: لا حاجة لنا في أجرك)، إلى آخره. لا حاجة لنا في أجرتك التي شرطت لنا وما عملنا باطل، فقال لهم: لا تفعلوا، اعملوا بقية يومكم وخذوا أجركم كاملا، فأبوا وتركوا ذلك كله عليه، فاستأجر قوما آخرين، فقال لهم: اعملوا بقية يومكم ولكم الذي شرطت لهؤلاء من الأجر فعملوا حتى حان العصر قالوا: لك ما عملنا، باطل ذلك الأجر الذي جعلت لنا، لا حاجة لنا فيه، فقال لهم: أكملوا بقية عملكم فإنما بقي من النهار شيء يسير وخذوا أجركم، فأبوا عليه، فاستأجر قوما آخرين فعملوا بقية يومهم حتى إذا غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين كله، ذلك مثل اليهود والنصارى تركوا ما أمرهم [ ص: 54 ] الله تعالى، ومثل المسلمين الذين قبلوا هدى الله وما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمقصود من هذا الحديث: ضرب المثل للناس الذين شرع لهم دين موسى عليه الصلاة والسلام ليعملوا الدهر كله بما يأمرهم به وينهاهم، إلى أن بعث الله عيسى عليه الصلاة والسلام، فأمرهم باتباعه، فأبوا وتبرؤوا مما جاء به، وعمل آخرون بما جاء به عيسى عليه السلام، فأمرهم على أن يعملوا بما يؤمرون به باقي الدهر، فعملوا حتى بعث سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاهم إلى العمل بما جاء به، فأبوا وعصوا، فجاء الله تعالى بالمسلمين فعملوا بما جاء به واستكملوا إلى قيام الساعة، فلهم أجر من عمل الدهر كله بعبادة الله تعالى كإتمام النهار الذي استؤجر عليه كله أول طبقة، وفي حديث ابن عمر : قدر لهم مدة أعمال اليهود ولهم أجرهم إلى أن نسخ الله تعالى شريعتهم بعيسى عليه الصلاة والسلام.

                                                                                                                                                                                  وقال عند مبعث عيسى عليه السلام: من يعمل إلى مدة هذا الشرع وله أجر قيراط؟ فعملت النصارى إلى أن نسخ الله تعالى ذلك بمحمد صلى الله عليه وسلم، ثم قال متفضلا على المسلمين: من يعمل بقية النهار إلى الليل وله قيراطان، فقال المسلمون: نحن نعمل إلى انقطاع الدهر، فمن عمل من اليهود إلى أن آمن بعيسى عليه السلام وعمل بشريعته له أجره مرتين، وكذلك النصارى، إذا آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث، ورجل آمن بنبيه وآمن بي يؤتى أجره مرتين، فإن قلت: حديث أبي موسى دل على أن الفريقين لم يأخذا شيئا، وحديث ابن عمر دل على أن كلا منهما أخذ قيراطا، (قلت): ذلك فيمن ماتوا منهم قبل النسخ، وهذا فيمن حرف أو كفر بالنبي الذي بعث بعد نبيه.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن رشد ما محصله: إن حديث ابن عمر ذكر مثالا لأهل الأعذار لقوله: (فعجزوا)، فأشار إلى أن من عجز عن استيفاء العمل من غير أن يكون له صنيع في ذلك أن الأجر يحصل له تاما فضلا من الله تعالى، وذكر حديث أبي موسى مثالا لمن أخر من غير عذر، وإلى ذلك أشار بقوله عنهم: لا حاجة لنا إلى أجرك، فأشار بذلك إلى أن من أخر عامدا لا يحصل له ما حصل لأهل الأعذار.

                                                                                                                                                                                  وقال الخطابي: دل حديث ابن عمر أن مبلغ أجرة اليهود لعمل النهار كله قيراطان وأجرة النصارى للنصف الباقي من النهار إلى الليل قيراطان، ولو تمموا العمل إلى آخر النهار لاستحقوا تمام الأجرة وأخذوا قيراطين، إلا أنهم انخذلوا ولم يفوا بما ضمنوه فلم يصيبوا إلا ما خص كل فريق منهم من الأجرة وهو قيراط، ثم إن المسلمين لما استوفوا أجرة الفريقين معا حاسدوهم وقالوا: إلخ؛ يعني: قولهم أي ربنا، أعطيت هؤلاء قيراطين إلخ، ولو لم تكن صورة الأمر على هذا لم يصح هذا الكلام، وفي طريق أبي موسى زيادة بيان له، وقولهم: لا حاجة لنا إشارة إلى أن تحريفهم الكتب وتبديلهم الشرائع وانقطاع الطريق بهم عن بلوغ الغاية، فحرموا تمام الأجرة لجنايتهم على أنفسهم حين امتنعوا من تمام العمل الذي ضمنوه.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية