الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما أتم سبحانه ما ذكر من حرمات البيوت المستلزمة لصيانة الأبضاع على وجه يلزم منه إحراز الأموال، أتبعه ما يباح من ذلك للأكل الذي هو من أجل مقاصد الأموال اجتماعا وانفرادا، فقال في جواب من كأنه سأل: هل هذا التحجير في البيوت سار في الأقارب وغيرهم في جميع الأحوال؟ : ليس على الأعمى حرج أي في مؤاكلة غيره وما يأتي من الأحكام، وإن كره غيره أكله لمد يده كيفما اتفق فإنه مرحوم، والاستئذان من أجل [ ص: 316 ] البصر ولا على الأعرج الذي لا يرجى حرج وإن تقذر منه بعض المترفين فإنه يجامعه في أنه يرحم لنقصه ولا على المريض أي مرضا يرجى بعرج أو غيره حرج كذلك لمرضه، وأخره لرجاء برئه ولا على أنفسكم أي ولا على غير من ذكر، وعبر بذلك تذكيرا بأن الكل من نفس واحدة أن تأكلوا من بيوتكم أي التي فيها عيالكم، وذكرها سبحانه لئلا يحصل من تركها لو تركها ريبة، وليدخل فيها بيوت الأولاد لأنهم من كسب الأب " أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه" أنت ومالك لأبيك أو بيوت آبائكم وإن بعدت أنسابكم - ولعله جمع لذلك - فإنها مرباكم وحرمتها حرمتكم أو بيوت أمهاتكم كذلك، وقدم الأب لأنه أجل وهو حاكم بيته دائما والمال له أو بيوت إخوانكم من الأبوين أو الأب أو الأم بالنسب أو الرضاع، فإنهم من أولى من رضي بذلك بعد الوالدين، لأنهم أشقاؤكم، وهم أولياء بيوتهم أو بيوت أخواتكم فإنهن بعدهم، من أجل أن ولي البيت - إذا كن مزوجات - الزوج أو بيوت أعمامكم فإنهم شقائق آبائكم سواء كانوا أشقاء أو لأب أو أم، ولو أفرد العم لتوهم أنه الشقيق فقط فإنه أحق بالاسم أو بيوت عماتكم فهن بعد الأعمام لضعفهن، ولأنه ربما [ ص: 317 ] كان أولياء بيوتهن الأزواج أو بيوت أخوالكم لأنهم شقائق أمهاتكم أو بيوت خالاتكم أخرهن لما ذكر أو ما ملكتم مفاتحه أي التصرف فيه بوجه من الوجوه كالوكالة أو صديقكم الذي تعرفون رضاه بذلك ولو بقرينة كما هو الغالب، ولذلك أطلقه، وإن لم يكن أمكنكم من مفتاحه بل كان عياله فيه، كل ذلك من غير إفساد ولا حمل ولا ادخار، وقد عدل الصديق هنا بالقريب، تنبيها على شريف رتبة الصداقة ولطيف سرها، وخفيف أمرها، وأفرده لعزته; وعن جعفر بن محمد : من عظم حرمة الصديق أن جعله كالنفس والأب ومن معه. قال الأصبهاني : وقالوا: إذا دل ظاهر الحال على رضا المالك قام ذلك مقام الإذن الصريح، وبما سمج الاستئذان وثقل كمن قدم إليه طعام فاستأذن صاحبه في الأكل.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما ذكر معدن الأكل، ذكر حاله فقال: ليس عليكم جناح أي شيء من الإثم الذي من شأنه أن يميل بصاحبه عن السواء في أن تأكلوا جميعا أي مجتمعين وإن كان بينكم ناقص الخلقة، لأن من كان معرضا للآفات جدير بأن يرحم المبتلى، فلا يستقذره حذرا من انعكاس الحال. [ ص: 318 ] ولما رغب في أول الإسلام - لما كان فيه أكثر الناس من الضيق - في المؤاساة، والاجتماع مع الضيوف، ترغيبا ظن به الوجوب، مع ما كانوا عليه من الكرم الباعث على الجود والاجتماع للأنس بالمحتاج، خفف عنهم بقوله:أو أشتاتا أي متفرقين لغير قصد الاستقذار، والترفع والإضرار، وإن كان الأكل في جماعة أفضل وأبرك - كما يفهمه تقديمه، فقد روى الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة عن وحشي بن حرب عن أبيه عن جده أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا نأكل ولا نشبع، قال:" فلعلكم تأكلون متفرقين؟ اجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه " ولابن ماجة عن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كلوا جميعا ولا تفرقوا فإن البركة مع الجماعة" .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما ذكر موطن الأكل وكيفيته، ذكر الحال التي يكون عليها الداخل إلى تلك المواطن أو غيرها، فقال مسببا عما مضى من الإذن، معبرا بأداة التحقيق، بشارة بأنهم يطيعون بعد أن كانوا تحرجوا من ذلك حين أنزل تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل فإذا دخلتم أي بسبب ذلك أو غيره بيوتا أي مأذونا فيها، أي بيوت كانت مملوكة أو لا، مساجد أو غيرها فسلموا عقب الدخول على أنفسكم [ ص: 319 ] أي أهلها الذين هم منكم دينا وقربا، وعبر بذلك ترغيبا في السلام، والإحسان في الإكرام، ولتصلح العبارة لما إذا لم يكن فيها أحد فيقال حينئذ "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" فيكون من الاستعمال في الحقيقة والمجاز تحية مصدر من المعنى دون اللفظ، أو أوقعوا الدعاء للمحيي بسلامة وحياة وملك بقاء من عند الله أي هي جديرة لتمام حسنها أن تضاف إلى من له الكمال كله سبحانه مباركة أي ثابتة أعظم ثبات بكونها موافقة لما شرع الله من خالص قلوبكم طيبة تلذذ السمع; ثم وصف البيان، تنبيها على ما في هذه الآيات من الحسن والإحسان، فقال مستأنفا كما مر غير مرة: كذلك أي مثل هذا البيان، العظيم الشأن يبين الله أي المحيط بكل شيء لكم الآيات التي لا أكمل منها.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الله تعالى، بعلمه وحكمته، وعزه وقدرته، ولطفه وخبرته، قد خلق عقلا نيرا يهدي إلى الحق، وإلى طريق مستقيم، وقسمه بين عباده، وخلق فيهم أنواعا من العوائق لذلك العقل عن النفوذ على سمت الاستقامة، من الهوى والكسل، الفتور والملل، جعلها حجبا تحجبه عن النفوذ، وتستر عنه المدارك، وتمنعه من البلوغ، إلا برياضات [ ص: 320 ] ومجاهدات تكل عنها القوى، وتضعف عندها العزائم، فلا يكاد الماهر منهم يرتب قياسا صحيحا، لغلطه في المقدمات، فتكون النتيجة حينئذ فاسدة القاعدة، واهية الأساس، فكانوا لا يزالون لذلك مختلفين، حتى يوصلهم الاختلاف إلى الإحن، والمشاجرة والفتن، فيجرهم إلى السيف وذهاب النفوس وتلف الأرواح، فأنزل سبحانه لهم في كل وقت شرعا يليق بذلك الزمان على لسان رسول من رسله عليهم الصلاة والسلام، جعل ذلك الشرع يطابق العقل السوي، والنور الضوي، والمنهل الروي، والسبب القوي، من تمسك به هدي ولم يزغ، حد فيه سبحانه حدودا، وأقام فيه زواجر، لتظهر حكمته، ويتضح علمه وقدرته، فصارت شرائع متفقة الأصول، مختلفة الفروع، بحسب الأزمنة، إشارة إلى أن الفاعل في تغيير الأحكام بحسب الأزمان واحد مختار، وامتحانا للعباد، تمييزا لأهل الصلاح منهم من أهل الفساد، وكانت الإغارة على شيء من الأعراض والأموال على غير ما أذن [ ص: 321 ] فيه تذهب العقول، وتعمى البصائر، ختم الآية بقوله: لعلكم تعقلون أي لتكونوا على رجاء عند من يصح منه الرجاء من ثبات هذا الوصف لكم، وهو ضبط النفوس وردها عن الأهوية، باتباع آيات الشرع التي أنزلها الذي كرر وصفه هنا بأنه عليم حكيم، فلا تتولوا بعد قولكم سمعنا وأطعنا عن الإذعان للأحكام وأنتم معرضون.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية