الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وأما حكمه في الصلاة وإن كان أكثر القراء لم يتعرضوا لذلك لعدم تعلقهم به فإنا لما رأينا بعض أئمتنا قد تعرض إلى ذلك كالحافظ أبي عمرو الداني والإمام أبي العلاء الهمداني والأستاذ أبي القاسم بن الفحام والعلامة أبي الحسن السخاوي والمجتهد أبي القاسم الدمشقي المعروف بأبي شامة ، وغيرهم ، تعرضوا لذكره في كتبهم ، ورووا في ذلك أخبارا عن سلف القراء والفقهاء لم نجد بدا من ذكره على عادتنا في ذكر ما يحتاج إليه المقرئ ، وغيره مما يتعلق بالقراءات . ( أخبرني ) الإمام الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الله المقدسي بقراءتي عليه . أخبرنا محمد بن علي بن أبي القاسم الوراق قراءة عليه سنة ثمان عشرة وسبعمائة . أخبرنا عبد الصمد بن أبي الجيش . أخبرنا محمد بن أبي الفرج الموصلي ، أخبرنا يحيى [ ص: 425 ] بن سعدون القرطبي . أخبرنا عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي الصقلي . قال : حدثنا عبد الباقي يعني ابن فارس بن أحمد . حدثنا أبو أحمد يعني السامري . حدثنا أبو الحسن علي بن الرقي . قال : حدثني قنبل بن عبد الرحمن حدثنا أحمد بن محمد بن عون القوس . حدثنا عبد الحميد بن جريج عن مجاهد أنه كان يكبر من والضحى إلى الحمد لله . قال ابن جريج : فأرى أن يفعله الرجل إماما كان ، أو غير إمام رواه الحافظ أبو عمرو عن أبي الفتح فارس عن أبي أحمد ، بلفظه سواء . وقال الحافظ أبو عمرو : حدثنا أبو الفتح . حدثنا عبد الله يعني السامري . حدثنا أحمد يعني أحمد بن مجاهد . حدثنا عبد الله يعني أبا بكر بن أبي داود السجستاني . حدثنا يعقوب يعني ابن سفيان الفسوي الحافظ حدثنا الحميدي سألت سفيان يعني ابن عيينة قلت يا أبا محمد رأيت شيئا ربما فعله الناس عندنا يكبر القارئ في شهر رمضان إذا ختم ، يعني في الصلاة فقال : رأيت صدقة بن عبد الله بن كثير يؤم الناس منذ أكثر من سبعين سنة فكان إذا ختم القرآن كبر . وبه عن الحميدي قال : حدثنا محمد بن عمر بن عيسى أن أباه أخبره أنه قرأ بالناس في شهر رمضان فأمره ابن جريج أن يكبر من " والضحى " حتى يختم . وبه عن الحميدي قال : سمعت عمر بن سهل شيخنا من أهل مكة يقول رأيت عمر بن عيسى صلى بنا في شهر رمضان فكبر من " والضحى " فأنكر بعض الناس عليه فقال : أمرني به ابن جريج فسألنا ابن جريج فقال : أنا أمرته .

                                                          وقال الشيخ أبو الحسن السخاوي ، وروى بعض علمائنا الذين اتصلت قراءتنا بهم بإسناده عن أبي محمد الحسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد القرشي قال : صليت بالناس خلف المقام بالمسجد الحرام في التراويح في شهر رمضان فلما كانت ليلة الختمة كبرت من خاتمة الضحى إلى آخر القرآن في الصلاة فلما سلمت التفت ، وإذا بأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي قد صلى ورائي فلما بصر بي قال لي : أحسنت أصبت السنة .

                                                          ( قلت ) : أظن هذا الذي عناه السخاوي ببعض علمائنا هو - والله أعلم - إما الإمام [ ص: 426 ] أبو بكر بن مجاهد فإنه رواه عن أبي محمد مضر بن محمد بن خالد الضبي عن حامد بن يحيى بن هانئ البلخي نزيل طرسوس عن الحسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد القرشي المكي المقري الإمام بالمسجد الحرام ، وصاحب شبل بن عباد - والله أعلم - .

                                                          وأما الأستاذ أبو علي الأهوازي فإنه رواه عن أبي الفرج محمد بن أحمد بن إبراهيم الشنبوذي عن ابن شنبوذ عن مضر فذكره ، وقد تقدم ما أسنده الداني عن البزي عن الإمام الشافعي : إن تركت التكبير ، فقد تركت سنة من سنن نبيك - صلى الله عليه وسلم - وبالإسناد المتقدم آنفا إلى قنبل قال : وأخبرني ابن المقري قال : سمعت ابن الشهيد الحجبي يكبر خلف المقام في شهر رمضان . قال قنبل : وأخبرني يعني ابن المقري فقال لي ابن الشهيد الحجبي ، أو بعض الحجبة ، ابن الشهيد ، أو ابن بقية شك في أحدهما . وبه قال قنبل أخبرني أحمد بن محمد بن عون القواس قال : سمعت ابن الشهيد الحجبي يكبر خلف المقام في شهر رمضان قال قنبل : وأخبرني ركين بن الحصيب مولى الجبيريين قال : سمعت ابن الشهيد الحجبي يكبر خلف المقام في شهر رمضان حين ختم ، من " والضحى " يعني في صلاة التراويح . ورواه الحافظ أبو عمرو عن قنبل بإسناده المتقدم آنفا . وقال الإمام المحقق المجمع على تقدمه أبو الحسن علي بن جعفر بن محمد السعيدي الرازي ، ثم الشيرازي في آخر كتابه تبصرة البيان في القراءات الثمان ما هذا نصه : ابن كثير يكبر من خاتمة " والضحى " إلى آخر القرآن ، واختلف عنه في لفظ التكبير فكبر قنبل ( الله أكبر ) ، والبزي ، ( لا إله إلا الله والله أكبر ) يسكت في آخر السورة ويصل التكبير بالتسمية في الصلاة ، وغيرها . قال الأستاذ الزاهد أبو الحسن علي بن أحمد النيسابوري إمام القراء في عصره بخراسان في كتابه الإرشاد في القراءات الأربع عشرة : والمستحب للمكبر في الصلاة على مذهب ابن كثير التهليل ، وهو ( لا إله إلا الله والله أكبر ) لئلا يلتبس بتكبيرة الركوع . فقد ثبت التكبير في الصلاة عن أهل مكة فقهائهم ، وقرائهم وناهيك بالإمام الشافعي وسفيان بن عيينة وابن جريج وابن كثير ، وغيرهم [ ص: 427 ] ، وأما غيرهم فلم نجد عنهم في ذلك نصا حتى أصحاب الشافعي مع ثبوته عن إمامهم فلم أجد لأحد منهم نصا فيه في شيء من كتبهم المبسوطة ، ولا المطولة الموضوعة للفقه ، وإنما ذكره استطرادا الإمام أبو الحسن السخاوي والإمام أبو إسحاق الجعبري ، وكلاهما من أئمة الشافعية والعلامة أبو شامة ، وهو من أكبر أصحاب الشافعي الذين كان يفتى بقولهم في عصرهم بالشام ، بل هو ممن وصل إلى رتبة الاجتهاد وحاز وجمع من أنواع العلوم ما لم يجمعه غيره وحاز خصوصا في علوم الحديث والقراءات والفقه والأصول . ولقد حدثني من لفظه شيخنا الإمام حافظ الإسلام أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الشافعي قال : حدثني شيخنا الإمام العلامة أبو إسحاق إبراهيم ابن العلامة تاج الدين عبد الرحمن بن إبراهيم الفزاري شيخ الشافعية ، وابن شيخهم قال : سمعت والدي يقول : عجبت لأبي شامة كيف قلد الشافعي ( نعم ) ، بلغنا عن شيخ الشافعية وزاهدهم وورعهم في عصرنا الإمام العلامة الخطيب أبي الثناء محمود بن محمد بن جملة الإمام والخطيب بالجامع الأموي بدمشق الذي لم تر عيناي مثله رحمه الله أنه كان يفتي به ، وربما عمل به في التراويح في شهر رمضان ورأيت أنا غير واحد من شيوخنا يعمل به ويأمر من يعمل به في صلاة التراويح ، وفي الإحياء في ليالي رمضان حتى كان بعضهم إذا وصل في الإحياء إلى الضحى قام بما بقي من القرآن في ركعة واحدة يكبر إثر كل سورة فإذا انتهى إلى قل أعوذ برب الناس كبر في آخرها ثم يكبر ثانيا للركوع ، وإذا قام في الركعة الثانية قرأ الفاتحة وما تيسر من أول البقرة . وفعلت أنا كذلك مرات لما كنت أقوم بالإحياء إماما بدمشق ومصر . وأما من كان يكبر في صلاة التراويح فإنهم يكبرون إثر كل سورة ، ثم يكبرون للركوع ، وذلك إذا آثر التكبير آخر السورة ، ومنهم من كان إذا قرأ الفاتحة وأراد الشروع في السورة كبر وبسمل وابتدأ السورة . وختم مرة صبي في التراويح فكبر على العادة فأنكر عليه بعض أصحابنا الشافعية فرأيت صاحبنا [ ص: 428 ] الشيخ الإمام زين الدين عمر بن مسلم القرشي رحمه الله بعد ذلك في الجامع الأموي ، وهو ينكر على ذلك المنكر ويشنع عليه ويذكر قول الشافعي الذي حكاه السخاوي وأبو شامة ويقول : رحم الله الخطيب ابن جملة لقد كان عالما متيقظا متحريا . ثم رأيت كتاب الوسيط تأليف الإمام الكبير شيخ الإسلام أبي الفضل عبد الرحمن بن أحمد الرازي الشافعي رحمه الله ، وفيه ما هو نص على التكبير في الصلاة كما سيأتي لفظه في الفصل بعد هذا في صيغة التكبير . والقصد أنني تتبعت كلام الفقهاء من أصحابنا فلم أر لهم نصا في غير ما ذكرت ، وكذلك لم أر للحنفية ، ولا للمالكية ، وأما الحنابلة فقال الفقيه الكبير أبو عبد الله محمد بن مفلح 55 في كتاب الفروع له : وهل يكبر لختمة من الضحى ، أو ألم نشرح آخر كل سورة ؟ فيه روايتان ، ولم تستحبه الحنابلة لقراءة غير ابن كثير وقيل ويهلل . انتهى .

                                                          ( قلت ) : ولما من الله تعالى علي بالمجاورة بمكة ودخل شهر رمضان فلم أر أحدا ممن صلى التراويح بالمسجد الحرام إلا يكبر من الضحى عند الختم فعلمت أنها سنة باقية فيهم إلى اليوم - والله أعلم - .

                                                          ثم العجب ممن ينكر التكبير بعد ثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعن أصحابه والتابعين وغيرهم ، ويجيز ما ينكر في صلوات غير ثابتة ، وقد نص على استحباب صلاة التسبيح غير واحد من أئمة العلم كابن المبارك ، وغيره مع أن أكثر الحفاظ لا يثبتون حديثها فقال القاضي الحسين ، وصاحب التهذيب والتتمة والروياني في أواخر كتاب الجنائز من كتاب البحر : يستحب صلاة التسبيح للحديث الوارد ، وذكرها أيضا صاحب المنية في الفتاوى من الحنفية ، وقال صدر القضاة في شرحه للجامع الصغير في مسألة " ويكره التكرار وعد الآي " : وما روي من الأحاديث أن من قرأ في الصلاة الإخلاص كذا مرة ونحوه فلم يصححها الثقات ، أما صلاة التسبيح ، فقد أوردها الثقات ، وهي صلاة مباركة ، وفيها ثواب عظيم ، ومنافع كثيرة ، ورواها العباس ، وابنه وعبد الله بن عمرو .

                                                          ( قلت ) : وقد [ ص: 429 ] اختلف كلام النووي في استحبابها فمنع في شرح المهذب والتحقيق ، وقال في تهذيب الأسماء واللغات في الكلام على " سبح " : وأما صلاة التسبيح المعروفة فسميت بذلك لكثرة التسبيح فيها خلاف العادة في غيرها ، وقد جاء فيها حديث حسن في كتاب الترمذي ، وغيره ، وذكرها المحاملي ، وصاحب التتمة ، وغيرهما من أصحابنا ، وهي سنة حسنة انتهى .

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية