الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر ملك نور الدين نصيبين

في هذه السنة ، في جمادى الأولى ، سار نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود صاحب الموصل إلى مدينة نصيبين ، فملكها وأخذها من ابن عمه قطب الدين محمد .

وسبب ذلك أن عمه عماد الدين كان له نصيبين ، فتطاول نوابه بها ، واستولوا على عدة قرى من أعمال بين النهرين من ولاية الموصل ، وهي تجاور نصيبين ، فبلغ الخبر مجاهد الدين قايماز القائم بتدبير مملكة نور الدين بالموصل وأعمالها والمرجوع إليه فيها ، فلم يعلم مخدومه نور الدين بذلك ، لما علم من قلة صبره على احتمال مثل [ ص: 152 ] هذا ، وخاف أن يجري خلف بينهم ، فأرسل من عنده رسولا إلى عماد الدين في المعنى ، وقبح هذا الفعل الذي فعله النواب بغير أمره ، وقال : إنني ما أعلمت نور الدين بالحال لئلا يخرج عن يدك ، فإنه ليس كوالده ، وأخاف [ أن ] يبدو منه ما يخرج الأمر فيه عن يدي ، فأعاد الجواب : إنهم لم يفعلوا إلا ما أمرتهم به ، وهذه القرى من أعمال نصيبين .

فترددت الرسل بينهما ، فلم يرجع عماد الدين عن أخذها ، فحينئذ أعلم مجاهد الدين نور الدين بالحال ، فأرسل نور الدين رسولا من مشايخ دولته ممن خدم جدهم الشهيد زنكي ومن بعده ، وحمله رسالة فيها بعض الخشونة ، فمضى الرسول فلحق عماد الدين وقد مرض ، فلما سمع الرسالة لم يلتفت ، وقال : لا أعيد ملكي ، فأشار الرسول من عنده ، حيث هو من مشايخ دولتهم ، بترك اللجاج ، وتسليم ما أخذه ، وحذره عاقبة ذلك ، فأغلظ عليه عماد الدين القول ، وعرض بذم نور الدين واحتقاره ، فعاد الرسول وحكى لنور الدين جلية الحال ، فغضب لذلك ، وعزم على المسير إلى نصيبين وأخذها من عمه .

فاتفق أن عمه مات ، وملك بعده ابنه ، فقوي طمعه ، فمنعه مجاهد الدين ، فلم يمتنع ، وتجهز وسار إليها ، فلما سمع قطب الدين صاحبها سار إليها من سنجار في عسكره ، ونزل عليها ليمنع نور الدين عنها ، فوصل نور الدين ، وتقدم إلى البلد وكان بينهما نهر ، فجازه بعض أمرائه ، وقاتل من بإزائه ، فلم يثبتوا له ، فعبر جميع العسكر النوري ، وتمت الهزيمة على قطب الدين ، فصعد هو ونائبه مجاهد الدين يرنقش إلى قلعة نصيبين . وأدركهم الليل ، فخرجوا منها هاربين إلى حران ، وراسلوا الملك العادل أبا بكر بن أيوب صاحب حران وغيرها وهو بدمشق ، وبذلوا له الأموال الكثيرة لينجدهم ويعيد نصيبين إليهم .

وأقام نور الدين بنصيبين مالكا لها ، فتضعضع عسكره بكثرة الأمراض ، وعودهم إلى الموصل ، ومات كثير منهم ، ووصل العادل إلى الديار الجزرية ، فحينئذ فارق نور الدين نصيبين وعاد إلى الموصل في شهر رمضان ، فلما فارقها تسلمها قطب الدين .

وممن توفي من أمراء الموصل : عز الدين جورديك ، وشمس الدين عبد الله بن إبراهيم ، وفخر الدين عبد الله بن عيسى المهرانيان ، ومجاهد الدين قايماز ، وظهير الدين يولق ابن بلنكري ، وجمال الدين محاسن ، وغيرهم . ولما عاد نور الدين إلى [ ص: 153 ] الموصل قصد العادل قلعة ماردين فحصرها ، وضيق على أهلها - على ما نذكره إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية