الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر حال غياث الدين مع ألدز وأيبك

لما عاد ألدز إلى غزنة ، وأسر علاء الدين وأخاه جلال الدين - كما ذكرناه - كتب إليه غياث الدين يطالبه بالخطبة له ، فأجابه جواب مدافع ، وكان جوابه في هذه المرة أشد منه فيما تقدم ، فأعاد غياث الدين إليه يقول : إما أن تخطب لنا ، وإما أن تعرفنا ما في نفسك ، فلما وصل الرسول بهذا أحضر خطيب غزنة وأمره [ أن ] يخطب لنفسه بعد الترحم على شهاب الدين ، فخطب لتاج الدين ألدز بغزنة .

فلما سمع الناس ذلك ساءهم ، وتغيرت نياتهم ، ونيات الأتراك الذين معه ، ولم يروه أهلا أن يخدموه ، وإنما كانوا يطيعونه ظنا منهم أنه ينصر دولة غياث الدين ، فلما خطب له أرسل إلى غياث الدين يقول له : بماذا تشتط علي ، وتتحكم في هذه الخزانة ؟ نحن جمعناها بأسيافنا ، وهذا الملك قد أخذته ، وأنت قد اجتمع عندك الذين هم [ ص: 243 ] أساس الفتنة ، وأقطعتهم الإقطاعات ، ووعدتني بأمور لم تقف عليها ، فإن أنت أعتقتني خطبت لك وحضرت خدمتك .

فلما وصل الرسول أجابه غياث الدين إلى عتق ألدز ، بعد الامتناع الشديد ، والعزم على مصالحة خوارزم شاه على ما يريد ، وقصد غزنة ومحاربته بها ، فلما أجابه إلى العتق أشهد عليه به ، وأشهد عليه أيضا بعتق قطب الدين أيبك ، مملوك شهاب الدين ونائبه ببلاد الهند ، وأرسل إلى كل واحد منهما ألف قباء ، وألف قلنسوة ، ومناطق الذهب ، وسيوفا كثيرة وجترين ، ومائة رأس من الخيل ، وأرسل إلى كل واحد منهما رسولا ، فقبل ألدز الخلع ، ورد الجتر ، وقال : نحن عبيد ومماليك ، والجتر له أصحاب .

وسار رسول أيبك إليه ، وكان بفرشابور قد ضبط المملكة وحفظ البلاد ، ومنع المفسدين من الفساد والأذى ، والناس معه في أمن ، فلما قرب الرسول منه لقيه على بعد ، وترجل وقبل حافر الفرس ، ولبس الخلعة ، وقال : أما الجتر فلا يصلح للمماليك ، وأما العتق فمقبول ، وسوف أجازيه بعبودية الأبد .

وأما خوارزم شاه فإنه أرسل إلى غياث الدين يطلب منه أن يتصاهرا ، ويطلب منه ابن خرميل صاحب هراة إلى طاعته ، ويسير معه في العساكر إلى غزنة . فإذا ملكها من ألدز اقتسموا المال أثلاثا : ثلث لخوارزم شاه ، وثلث لغياث الدين ، وثلث للعسكر فأجابه إلى ذلك ، ولم يبق إلا الصلح ، فوصل الخبر إلى خوارزم شاه بموت صاحب مازندران ، فسار عن هراة إلى مرو ، وسمع ألدز بالصلح ، فجزع لذلك جزعا عظيما ظهر أثره عليه ، وأرسل إلى غياث الدين : ما حملك على هذا ؟ فقال : حملني عليه عصيانك وخلافك علي . فسار ألدز إلى تكياباذ فأخذها ، وإلى بست ، وتلك الأعمال فملكها ، وقطع خطبة غياث الدين منها ، وأرسل إلى صاحب سجستان يأمره بإعادة الترحم على شهاب الدين ، وقطع خطبة خوارزم شاه ، وأرسل إلى ابن خرميل ، صاحب هراة ، بمثل ذلك ، وتهددهما بقصد بلادهما ، فخافهما الناس .

[ ص: 244 ] ثم إن ألدز أخرج جلال الدين ، صاحب باميان ، من أسره ، وسير معه خمسة آلاف فارس مع أي دكز التتر ، مملوك شهاب الدين ، إلى باميان ليعيدوه إلى ملكه ويزيلوا ابن عمه عنه ، وزوجه ابنته ، وسار ومعه أي دكز ، فلما خلا به وبخه على لبسه خلعة ألدز وقال له : أنتم ما رضيتم [ أن ] تلبسوا خلعة غياث الدين ، وهو أكبر سنا منكم ، وأشرف بيتا ، تلبس خلعة هذا المأبون ! - يعني ألدز - ، ودعاه إلى العود معه إلى غزنة ، وأعلمه أن الأتراك كلهم مجمعون على خلاف ألدز .

فلم يجبه إلى ذلك ، فقال أي دكز : فإنني لا أسير معك ، وعاد إلى كابل ، وهي إقطاعه ، فلما وصل أي دكز إلى كابل لقيه رسول من قطب الدين أيبك إلى ألدز يقبح له فعله ، ويأمره بإقامة خطبة غياث الدين ، ويخبره أنه قد خطب له في بلاده ، ويقول له إن لم يخطب له هو أيضا بغزنة ويعود إلى طاعته ، وإلا قصده وحاربه .

فلما علم أي دكز ذلك قويت نفسه على مخالفة ألدز ، وصمم العزم على قصد غزنة . ووصل أيضا رسول أيبك إلى غياث الدين بالهدايا والتحف ، ويشير عليه بإجابة خوارزم شاه إلى ما طلب الآن ، وعند الفراغ من أمر غزنة تسهل أمور خوارزم شاه وغيره ، وأنفذ له ذهبا عليه اسمه ، فكتب أي دكز إلى أيبك يعرفه عصيان ألدز على غياث الدين وما فعله في البلاد ، وأنه على عزم مشاقة ألدز ، وهو ينتظر أمره ، فأعاد أيبك جوابه يأمره بقصد غزنة ، فإن حصلت له القلعة أقام بها إلى أن يأتيه ، وإن لم تحصل له القلعة وقصده ألدز انحاز إليه ، أو إلى غياث الدين ، أو يعود إلى كابل .

فسار إلى غزنة ، وكان جلال الدين قد كتب إلى ألدز يخبره خبر أي دكز وما عزم عليه ، فكتب ألدز إلى نوابه بقلعة غزنة يأمرهم بالاحتياط منه ، فوصلها أي دكز أول رجب من السنة ، وقد حذروه فلم يسلموا إليه القلعة ، ومنعوه عنها ، فأمر أصحابه بنهب البلد ، فنهبوا عدة مواضع منه ، فتوسط القاضي الحال بأن سلم إليه من الخزانة خمسين ألف دينار ركنية ، وأخذ له من التجار شيئا آخر ، وخطب أي دكز بغزنة لغياث الدين ، وقطع خطبة ألدز ، ففرح الناس بذلك .

وكان مؤيد الملك ينوب عن ألدز بالقلعة ، ووصل الخبر إلى ألدز بوصول أي [ ص: 245 ] دكز إلى غزنة ، ووصول رسول أيبك إليه ، ففت في عضده ، وخطب لغياث الدين في تكياباذ ، وأسقط اسمه من الخطبة ، فخطب له ، ورحل إلى غزنة ، فلما قاربها رحل أي دكز عنها إلى بلد الغور ، فأقام في تمران ، وكتب إلى غياث الدين يخبره بحاله ، وأنفذ إليه المال الذي أخذه من الخزانة ومن أموال الناس ، فأرسل إليه خلعا وأعتقه ، وخاطبه بملك الأمراء ، ورد عليه المال الذي كان أخذه من الخزانة ، وقال له : أما مال الخزانة فقد أعدناه إليك لتخرجه ، وأما أموال التجار وأهل البلد فقد أرسلته ( مع رسولي ليعاد ) إلى أربابه لئلا نفتتح دولتنا بالظلم ، وقد عوضتك عنه ضعفه .

وأرسل أموال الناس إلى غزنة ، إلى قاضي غزنة ، وأمره أن يرد المال ( المنفذ ) على أربابه ، فأنهى القاضي الحال إلى ألدز ، وأشار عليه بالخطبة لغياث الدين ، وقال : أنا أسعى في الوصلة بينكما والصهر والصلح ، فأمره بذلك ، فبلغ الخبر إلى غياث الدين ، فأرسل إلى القاضي ينهاه عن المجيء إليه ، وقال : لا تسأل في عبد أبق قد بان فساده واتضح عناده ، فأقام بغزنة هو وألدز ، وسير غياث الدين عسكرا إلى أي دكز التتر ، فأقاموا معه ، وسير ألدز عسكرا إلى روين كان ، وهي لغياث الدين ، وقد أقطعها لبعض الأمراء ، فهجموا على صاحبها ، فنهبوا ماله ، وأخذوا أولاده ، فنجا وحده إلى غياث الدين ، فاقتضى الحال أن سار غياث الدين إلى بست وتلك الولاية ، فاستردها وأحسن إلى أهلها ، وأطلق لهم خراج سنة لما نالهم من ألدز من الأذى .

التالي السابق


الخدمات العلمية