الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر وفاة نور الدين أرسلان شاه وشيء من سيرته

في هذه السنة ، أواخر رجب ، توفي نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي بن آقسنقر ، صاحب الموصل ، وكان مرضه قد طال ، ومزاجه قد فسد ، وكانت مدة ملكه سبع عشرة سنة وأحد عشر شهرا ، وكان شهما شجاعا ، ذا سياسة للرعايا ، شديدا على أصحابه ، فكانوا يخافونه خوفا شديدا ، وكان ذلك مانعا من تعدي بعضهم على بعض وكان له همة عالية ، أعاد ناموس البيت الأتابكي وجاهه ، وحرمته ، بعد أن كانت قد ذهبت وخافه الملوك ; وكان سريع الحركة في طلب الملك إلا أنه لم يكن له صبر فلهذا لم يتسع ملكه ، ولو لم يكن له من الفضيلة إلا أنه لما رحل الكامل بن العادل عن ماردين ، كما ذكرناه سنة خمس وتسعين وخمسمائة ، عف عنها ، وأبقاها على صاحبها ، ولو قصدها وحصرها لم يكن فيها قوة الامتناع ، لأن من كانوا بها كانوا قد هلكوا وضجروا ، ولم يبق لهم رمق ، فأبقاها على صاحبها .

[ ص: 278 ] ولما ملك استغاث به إنسان من التجار ، فسأل عن حاله ، فقيل إنه قد أدخل قماشه إلى البلد ليبيعه ، فلم يتم له البيع ، ويريد إخراجه ، وقد منع من ذلك ، فقال : من منعه فقيل : ضامن البز يريد منه ما جرت به العادة من المكس ، وكان القيم بتدبير مملكته مجاهد الدين قايماز ، وهو إلى جانبه ، فسأله عن العادة كيف هي فقال : إن اشترط صاحبه إخراج متاعه مكن من إخراجه ، وإن لم يشترط ذلك لم يخرج حتى يؤخذ ما جرت العادة بأخذه . فقال : والله إن هذه العادة مدبرة ، إنسان لا يبيع متاعه لأي شيء يؤخذ منه ماله ؟ فقال مجاهد الدين : لا شك في فساد هذه العادة . فقال : إذا قلنا أنا وأنت إنها عادة فاسدة ، فما المانع من تركها . وتقدم بإخراج مال الرجل ، وأن لا يؤخذ إلا ممن باع .

وسمعت أخي مجد الدين أبا السعادات - رحمه الله - وكان من أكثر الناس اختصاصا به يقول : ما قلت له يوما في فعل خير فامتنع منه بل بادر إليه بفرح واستبشار ، واستدعى في بعض الأيام أخي المذكور ، فركب إلى داره ، فلما كان بباب الدار لقيته امرأة وبيدها رقعة ، وهي تشكو ، وتطلب عرضها على نور الدين ، فأخذها ، فلما دخل إليه جاراه في مهم له ، فقال : قبل كل شيء تقف على هذه الرقعة ، وتقضي شغل صاحبتها . فقال : لا حاجة إلى الوقوف عليها ، عرفنا إيش فيها . فقال : والله لا أعلم إلا أنني رأيت امرأة بباب الدار وهي متظلمة ، شاكية .

فقال : نعم عرفت حالها ثم انزعج فظهر منه الغيظ والغضب ، وعنده رجلان هما القيمان بأمور دولته ، فقال لأخيه : أبصر إلى أي شيء قد دفعت مع هذين . هذه المرأة كان لها ابن ، وقد مات من مدة في الموصل ، وهو غريب ، وخلف قماشا ومملوكين ، فاحتاط نواب بيت المال على القماش ، وأحضروا المملوكين إلينا ، فبقيا عندنا ننتظر حضور من يستحق التركة ليأخذها ، فحضرت هذه المرأة ومعها كتاب ، حكمي بأن المال الذي مع ولدها لها ، فتقدمنا بتسليم مالها إليها ، وقلت لهذين : [ ص: 279 ] اشتريا المملوكين منها ، وأنصفاها في الثمن ، فعادا وقالا : لم يتم بيننا بيع ، لأنها طلبت ثمنا كثيرا ، فأمرتهما بإعادة المملوكين إليها من مدة شهرين وأكثر ، وإلى الآن ما عدت سمعت لها حديثا ، وظننت أنها أخذت مالها ، ولا شك أنهما لم يسلما المملوكين إليها ، وقد استغاثت بهما فلم ينصفاها ، فجاءت إليك ، وكل من رأى هذه المرأة تشكو وتستغيث يظن أني أنا منعتها عن مالها ، فيذمني ، وينسبني إلى الظلم ، وليس لي علم ، وكل هذا فعل هذين ، أشتهي أن تتسلم أنت المملوكين ، وتسلمهما إليها فأخذت المرأة مالها وعادت شاكرة داعية ، وله من هذا الجنس كثير لا نطول بذكره .

التالي السابق


الخدمات العلمية