الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون )

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 74 ]

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أنه سبحانه لما أمر بالعبادات في الآية المتقدمة، والاشتغال بعبادة الله لا يصح إلا بعد معرفة الإله الخالق، لا جرم عقبها بذكر ما يدل على وجوده واتصافه بصفات الجلال والوحدانية فذكر من الدلائل أنواعا:

                                                                                                                                                                                                                                            النوع الأول: الاستدلال بتقلب الإنسان في أدوار الخلقة وأكوان الفطرة وهي تسعة:

                                                                                                                                                                                                                                            المرتبة الأولى: قوله سبحانه وتعالى : ( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ) والسلالة : الخلاصة; لأنها تسل من بين الكدر، فعالة ، وهو بناء يدل على القلة كالقلامة والقمامة، واختلف أهل التفسير في ( الإنسان ) فقال ابن عباس وعكرمة وقتادة ومقاتل : المراد منه آدم عليه السلام ، فآدم سل من الطين, وخلقت ذريته من ماء مهين، ثم جعلنا الكناية راجعة إلى الإنسان الذي هو ولد آدم، والإنسان شامل لآدم عليه السلام ولولده، وقال آخرون: الإنسان هاهنا ولد آدم، والطين هاهنا اسم آدم عليه السلام ، والسلالة هي الأجزاء الطينية المبثوثة في أعضائه التي لما اجتمعت وحصلت في أوعية المني صارت منيا، وهذا التفسير مطابق لقوله تعالى : ( وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ) [ السجدة: 7 ، 8 ] وفيه وجه آخر، وهو أن الإنسان إنما يتولد من النطفة وهي إنما تتولد من فضل الهضم الرابع، وذلك إنما يتولد من الأغذية، وهي إما حيوانية وإما نباتية، والحيوانية تنتهي إلى النباتية، والنبات إنما يتولد من صفو الأرض والماء، فالإنسان بالحقيقة يكون متولدا من سلالة من طين، ثم إن تلك السلالة بعد أن تواردت على أطوار الخلقة وأدوار الفطرة صارت منيا، وهذا التأويل مطابق للفظ ولا يحتاج فيه إلى التكلفات.

                                                                                                                                                                                                                                            المرتبة الثانية: قوله تعالى : ( ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ) ومعنى جعل الإنسان نطفة أنه خلق جوهر الإنسان أولا طينا، ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة في أصلاب الآباء فقذفه الصلب بالجماع إلى رحم المرأة فصار الرحم قرارا مكينا لهذه النطفة، والمراد بالقرار موضع القرار وهو المستقر, فسماه بالمصدر ثم وصف الرحم بالمكانة التي هي صفة المستقر فيها; كقولك: طريق سائر ، أو لمكانتها في نفسها; لأنها تمكنت من حيث هي وأحرزت.

                                                                                                                                                                                                                                            المرتبة الثالثة: قوله تعالى : ( ثم خلقنا النطفة علقة ) أي: حولنا النطفة عن صفاتها إلى صفات العلقة وهي الدم الجامد.

                                                                                                                                                                                                                                            المرتبة الرابعة: قوله تعالى : ( فخلقنا العلقة مضغة ) أي: جعلنا ذلك الدم الجامد مضغة ؛ أي: قطعة لحم كأنها مقدار ما يمضغ كالغرفة وهي مقدار ما يغترف، وسمي التحويل خلقا; لأنه سبحانه يفني بعض أعراضها ويخلق أعراضا غيرها، فسمى خلق الأعراض خلقا وكأنه سبحانه وتعالى يخلق فيها أجزاء زائدة.

                                                                                                                                                                                                                                            المرتبة الخامسة: قوله : ( فخلقنا المضغة عظاما ) أي: صيرناها كذلك، وقرأ ابن عامر (عظما) والمراد منه الجمع كقوله: ( والملك صفا صفا ) [الفجر: 22].

                                                                                                                                                                                                                                            المرتبة السادسة: قوله تعالى : ( فكسونا العظام لحما ) وذلك لأن اللحم يستر العظم فجعله كالكسوة لها.

                                                                                                                                                                                                                                            المرتبة السابعة: قوله تعالى : ( ثم أنشأناه خلقا آخر ) أي: خلقا مباينا للخلق الأول مباينة ما أبعدها ، حيث جعله حيوانا وكان جمادا، وناطقا وكان أبكم، وسميعا وكان أصم، وبصيرا وكان أكمه، وأودع باطنه وظاهره [ ص: 75 ] بل كل عضو من أعضائه وكل جزء من أجزائه عجائب فطرة وغرائب حكمة لا يحيط بها وصف الواصفين، ولا شرح الشارحين، وروى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: هو تصريف الله إياه بعد الولادة في أطواره في زمن الطفولية وما بعدها إلى استواء الشباب، وخلق الفهم والعقل وما بعده إلى أن يموت، ودليل هذا القول أنه عقبه بقوله: ( ثم إنكم بعد ذلك لميتون ) وهذا المعنى مروي أيضا عن ابن عباس وابن عمر ، وإنما قال: ( أنشأناه ) لأنه جعل إنشاء الروح فيه، وإتمام خلقه إنشاء له. قالوا : في الآية دلالة على بطلان قول النظام في أن الإنسان هو الروح لا البدن، فإنه سبحانه بين أن الإنسان هو المركب من هذه الصفات، وفيها دلالة أيضا على بطلان قول الفلاسفة الذين يقولون: إن الإنسان شيء لا ينقسم، وإنه ليس بجسم.

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( فتبارك الله ) أي: فتعالى الله ؛ فإن البركة يرجع معناها إلى الامتداد والزيادة، وكل ما زاد على الشيء فقد علاه، ويجوز أن يكون المعنى : والبركات والخيرات كلها من الله تعالى ، وقيل: أصله من البروك وهو الثبات، فكأنه قال: والبقاء والدوام والبركات كلها منه فهو المستحق للتعظيم والثناء، وقوله: ( أحسن الخالقين ) أي: أحسن المقدرين تقديرا ، فترك ذكر المميز لدلالة ( الخالقين ) عليه. وهاهنا مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى: قالت المعتزلة : لولا أن الله تعالى قد يكون خالقا لفعله إذا قدره لما جاز القول بأنه أحسن الخالقين، كما لو لم يكن في عباده من يحكم ويرحم لم يجز أن يقال فيه : أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، والخلق في اللغة هو كل فعل وجد من فاعله مقدرا لا على سهو وغفلة، والعباد قد يفعلون ذلك على هذا الوجه، قال الكعبي : هذه الآية وإن دلت على أن العبد خالق إلا أن اسم الخالق لا يطلق على العبد إلا مع القيد، كما أنه يجوز أن يقال: رب الدار، ولا يجوز أن يقال: رب ، بلا إضافة، ولا يقول العبد لسيده: هو ربي، ولا يقال: إنما قال الله تعالى ذلك; لأنه سبحانه وصف عيسى عليه السلام بأنه يخلق من الطين كهيئة الطير; لأنا نجيب عنه من وجهين.

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما: أن ظاهر الآية يقتضي أنه سبحانه ( أحسن الخالقين ) الذين هم جمع فحمله على عيسى خاصة لا يصح.

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني: أنه إذا صح وصف عيسى بأنه يخلق صح وصف غيره من المصورين أيضا بأنه يخلق، وأجاب أصحابنا بأن هذه الآية معارضة بقول الله تعالى : ( الله خالق كل شيء ) [ الرعد: 16 ] فوجب حمل هذه الآية على أنه ( أحسن الخالقين ) في اعتقادكم وظنكم، كقوله تعالى : ( وهو أهون عليه ) [الروم: 27] أي: هو أهون عليه في اعتقادكم وظنكم. والجواب الثاني: هو أن الخالق هو المقدر; لأن الخلق هو التقدير والآية تدل على أنه سبحانه أحسن المقدرين، والتقدير يرجع معناه إلى الظن والحسبان، وذلك في حق الله سبحانه محال، فتكون الآية من المتشابهات. والجواب الثالث: أن الآية تقتضي كون العبد خالقا بمعنى كونه مقدرا، لكن لم قلت بأنه خالق بمعنى كونه موجدا؟!

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية: قالت المعتزلة : الآية تدل على أن كل ما خلقه حسن وحكمة وصواب وإلا لما جاز وصفه بأنه أحسن الخالقين، وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون خالقا للكفر والمعصية، فوجب أن يكون العبد هو الموجد لهما. والجواب: من الناس من حمل الحسن على الإحكام والإتقان في التركيب والتأليف. ثم لو حملناه على ما قالوه فعندنا أنه يحسن من الله تعالى كل الأشياء; لأنه ليس فوقه آمر وناه حتى يكون ذلك مانعا له عن فعل شيء.

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة: روى الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان [ ص: 76 ] يكتب هذه الآيات لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انتهى إلى قوله تعالى : ( خلقا آخر ) عجب من ذلك فقال: فتبارك الله أحسن الخالقين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اكتب ، فهكذا نزلت " فشك عبد الله وقال: إن كان محمد صادقا فيما يقول فإنه يوحى إلي كما يوحى إليه، وإن كان كاذبا فلا خير في دينه، فهرب إلى مكة، فقيل: إنه مات على الكفر ، وقيل: إنه أسلم يوم الفتح، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية قال عمر بن الخطاب : فتبارك الله أحسن الخالقين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هكذا نزلت يا عمر . وكان عمر يقول: وافقني ربي في أربع : في الصلاة خلف المقام، وفي ضرب الحجاب على النسوة، وقولي لهن: لتنتهن أو ليبدلنه الله خيرا منكن، فنزل قوله تعالى : ( عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن ) [التحريم: 5] والرابع قلت: ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) فقال: هكذا نزلت . قال العارفون: هذه الواقعة كانت سبب السعادة لعمر، وسبب الشقاوة لعبد الله ، كما قال تعالى : ( يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ) [البقرة: 26] فإن قيل: فعلى كل الروايات قد تكلم البشر ابتداء بمثل نظم القرآن، وذلك يقدح في كونه معجزا كما ظنه عبد الله. والجواب: هذا غير مستبعد إذا كان قدره القدر الذي لا يظهر فيه الإعجاز ، فسقطت شبهة عبد الله .

                                                                                                                                                                                                                                            المرتبة الثامنة: قوله : ( ثم إنكم بعد ذلك لميتون ) قرأ ابن أبي عبلة وابن محيصن (لمائتون) والفرق بين الميت والمائت، أن الميت كالحي صفة ثابتة، وأما المائت فيدل على الحدوث، تقول: زيد ميت الآن ومائت غدا، وكقولك: يموت ، ونحوهما ضيق وضائق في قوله : ( وضائق به صدرك ) [هود: 12].

                                                                                                                                                                                                                                            المرتبة التاسعة: قوله : ( ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ) فالله سبحانه جعل الإماتة التي هي إعدام الحياة والبعث الذي هو إعادة ما يفنيه ويعدمه دليلين أيضا على اقتدار عظيم بعد الإنشاء والاختراع .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية