- المطلب السادس: الحكم التكليفي:
فرض الله سبحانه وتعالى أحكاما مختلفة على بني البشر، قسمت إلى واجبة، مندوبة، ومحرمة. وقدر تعلق الأمر ببحثنا سيتم التطرق للحكم الواجب، بغية التوصل إلى بعض النتائج المتعلقة بالبحث.
يعرف الواجب بأنه ما طلب الشارع على وجه الحتم والإلزام.. والفرض والواجب عند غير الحنفية لفظان علاقتهما الترادف، غير أن الحنفية يفرقون بين ما يسمى فرضا وما يسمى واجبا، تبعا لاختلاف طبيعة دليل التكليف [1] .
أما من حيث تعيين من يجب عليه فينقسم الواجب إلى واجب عيني وواجب على الكفاية. فالواجب العيني، هو ما طلب الشارع فعله من كل فرد من المكلفين، بحيث إن أداه بعضهم لم يسقط التكليف عن الباقين، كالفرائض المطلوبة. والواجب على الكفاية هو ما طلب الشارع فعله والقيام به من مجموع المكلفين بحيث إن أداه بعضهم سقط التكليف عن الباقين؛ وإن لم يقم به أحد أثم الجميع؛ ويدخل ضمنها تعلم الصناعات والحرف والعلوم التي تحتاجها الأمة ولا يستغني عنها جماعة لحفظ مصالحها. وقد ينقلب الواجب على الكفاية إلى واجب عيني إذا تعين فرد لأدائه، فإذا كان حملة الشهادة محصورين بالعدد المطلوب لها فإن القيام بهذا الواجب يصبح عينا [2] . [ ص: 118 ] وقد تعرض علماء الأصول لمسألة التكاليف بفرض الكفاية فعدوه دائرا مع غالب الظن، بمعنى أنه إن غلب على ظن جماعة أن غيرها يقوم بالواجب على الكفاية – بدلا منها- سقط التكليف عنها، وإن غلب على ظنها أن غيرها لا يقوم به، وجب عليها. كما توصلوا إلى أن الواجب على الكفاية متوجه إلى الجميع، ويسقط بفعل بعض منهم. وأخيرا فقد تعرضوا إلى الحالة التي ينقلب فيها فرض الكفاية إلى فرض عين، وذلك عند الشروع بالواجب على الكفاية، فبهذا الشروع يتعين، أي يصير واجب الإتمام بالواجب العيني، على أصح الأقوال عندهم [3] .
قال الجصاص في كتابه «أحكام القرآن» عند تفسير قول الله تعالى: ( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ) (هود:61) ، أي أمركم في عمارتها بما تحتـاجون إليه.. وفيه الدلالة على وجوب عمارة الأرض للزراعة والغراس والأبنية. أي أن الدين لم يجعل عمـارة الأرض من النوافل أو المندوبات، بل جعلها من الشعائر الواجبة، التي يثاب فاعلها، ويعاقب تاركها، ويحكم بالفسق على منكرها [4] .
إن العرض الموجز لمفهوم الواجب في الإسلام وتفرعاته ما بين فرض العين والكفاية، يوصلنا إلى نتيجة مفادها أن عملية التنمية في الإسلام (عمارة الأرض) تدرج ضمن الأحكام العينية على الأفراد؛ وتتجسد العينية [ ص: 119 ] على صناع القرار وأصحاب الحرف وعلى كل من يعد أداة ضرورية لتحقيق التنمية وتتعطل بانسحابه.
وتأسيسا على ما تقدم، فإن تقاعس السلطة وأصحاب الشأن عن تنفيذ التنمية لا يسقطها من كونها واجبة على الأفراد، وأن تعطلها (أي التنمية) يجر الجميع إلى دائرة الإثم، فهي فرض عين يقع على كل فرد من أفراد المجتمع، يؤدي منها ما يستطيع. وإذا ما أخذ الفرد على عاتقه طوعا مسؤولية القيام بمشروع تنموي، أيا كان نوعه وباشره فإن عملية إتمامه تعد فرض عين، لا يسمح الشرع له مطلقا بتركه، وعليه الإتمام.
إن شمولية النظام الإسلامي تحتم على الفرد السعي في مختلف جوانب الحياة، كما أن سعيه هذا ينطوي على جانب تعبدي، فالعمل عبادة، وعمل الفرد يجب أن يبتغي فيه وجه الله، وسيجزى عنه، مهما كان نوعه وحسب غايته. وفي ضوء هذه الشمولية فإن عملية التنمية في الإسلام اقتصادية واجتماعية وبشرية في آن واحد. فلا تهـدف إلى إحداث نمو في دخل الفرد أو تطوير لقطاع معين بل تستهدف ذلك كله في آن واحد.
ويمكن حصر مميزات التنمية في الإسلام بالآتي [5] :
- إنها تنمية مستقلة، لذلك فهي تقوم على الاعتماد على النفس.
2- إنها تبنى على أساس أنها عملية تحرير شاملة للوطن والمواطن (عملية عتق) سياسي واقتصادي واجتماعي في آن واحد. [ ص: 120 ] 3- إنها تقوم على أساس الاستخدام الأمثل لكل الموارد الذاتية.
4- إنها فريضة وعبادة، وإن المسلمين قادة وشعوبا يتقربون إلى الله بقدر تعميرهم للدنيا وأخذهم بأسباب التنمية. فالتنمية الاقتصادية الإسلامية شاملة ومتوازنة، غايتها الإنسان نفسه ليكون بحق خليفة الله في أرضه.
5- لا يمكن للفرد بمفرده أن يتحكم في مسيرة حركة التنمية لقصور استيفائه لكل ما يحقق تلك التنميـة، فيجب على الدولة أن تتصـدى لكل ما يعجز الفرد عنه من مسؤوليات، وذلك بحكم تفويض الأمة لها بأن تقود مسيرتها إلى النماء والاستقرار.
6- إنها تنمية روحية، فالإسـلام يعنى عنـاية خاصة بالروح، فهي في نظره مركز الكيان البشري ونقطـة ارتكازه، إنها المهيمن الأكبر على حياة الإنسان، إنها الموجه إلى النور، وصـلة الإنسـان بربه. وحين يتيقظ القلب لعلم الله الشـامل المحيط، الذي يعلم السر وأخفى، الذي لا يغفل عن الإنسـان لحظة واحـدة، يدرك أن الله يراقبه وهو يعمـل، وهو يفكر، وهو يحس، فلا يعمـل شـيئا بغير إخـلاص، ولا يقصـد الشـر، لا يعمل شيئا دون تمعن وتفكر، لا يعمل مستهترا ولا مسـتهينا بالعواقب، ولا يعمل شيئا لغير الله.
وتأسيسا على ما تقدم، فإن الأهداف التي تسعى التنمية البشرية لإرسائها تمثل هدفا طبيعيا للتنمية الإسلامية، بل إن مصالح العباد، التي يعدها [ ص: 121 ] الشرع في جانب الضروريات قد غطت تلك الأهداف وتجاوزتها إلى مساحـات أوسع، (فحفظ النفس) لابد له من غذاء ورعاية صحية؛ (وحفظ العقل) لابد له من رعاية ثقافية وتعليمية ومعرفية لتنهض به وتجعل منه أداة نافعـة لخدمـة نفسـه أولا والمجتمع ثانيا؛ أما (حفظ النسل) فلابد له أيضا من رعاية صحية واقتصادية كي ينشأ المجتمع القادر على النهوض والارتقاء. وبذلك يدخل حفظ الضـروريات في إطار مسـؤولية الحكومة والمجتمع الإسلامي.
بل إن الإسلام يرتقي بالتنمية إلى أعلى مستوياتها عندما يجعل منها واجبا شرعيا يبتغى فيها وجه الله، ويتحمل القائم بها مسؤولية الحساب الدنيوي أو الأخروي عند تعطيلها أو الإخلال بنتائجها. [ ص: 122 ]