الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 134 ] في الصريح والكناية والتعريض ، وقد يكون ذلك في أبواب البيع والطلاق والنكاح والقذف . [ الصريح ] فأما الصريح ففي اللغة : اسم لما هو ظاهر المراد عند السامع بحيث يسبق إلى أفهام السامعين المراد منه نحو أنت طالق ، بعت واشتريت مأخوذ من قولهم الحق ، ومنه سمي القصر صرحا لظهوره وارتفاعه على سائر الأبنية . وعند الأصوليين هو ما انكشف المراد منه في نفسه فيدخل فيه المبين والمحكم . [ الكناية ] وأما الكناية فعند الأصوليين : اسم لما استتر فيه مراد المتكلم من حيث اللفظ كقوله في البيع : جعلته لك بكذا ، وفي الطلاق : أنت خلية [ ص: 135 ] ويدخل فيه المجمل ، ونحوه مأخوذ من قولهم : كنيت وكنوت قال الشاعر :

                                                      وإني لأكنو عن قدور بغيرها وأعرب أحيانا بها وأصارح

                                                      وعند البيانيين : أن يذكر لفظ دال على شيء لغة ، ويراد به غير المذكور لملازمة بينهما خاصة ، والغرض منه إما قبح ذكر الصريح نحو { أو جاء أحد منكم من الغائط } أو إخفاء المكنى عنه عن السامع .

                                                      واختلفوا هل الكناية من باب المجاز أم لا ؟ فقيل : مجاز . وكلام الزمخشري يقتضيه في موضع من الكشاف ، فإنه قال في قوله تعالى { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم } الكناية : أن يذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له ، والتعريض : أن يذكر شيئا يدل على شيء لم يذكره . وكلام غيره من البيانيين يقتضي أنها حقيقة . ووقع في كلام السكاكي أيضا أنها ليست بحقيقة ولا مجاز ; لأنه قال : الكلمة المستعملة إما أن يراد بها معناها وحده ، أو معناها وغير معناها معا ، والأول الحقيقة في المفرد ، والثاني المجاز في المفرد ، والثالث : الكناية ، وجمع بينهما بأنه أراد هنا بالحقيقة التصريح بها بقرينة جعلها في مقابلة الكناية . وتصريحه فيما بعد بأن الحقيقة والكناية يشتركان في كونهما حقيقتين ، ويفترقان بالتصريح وعدمه . وجزم الجاجرمي في رسالته بأنها ليست من المجاز ، ; لأنه استعمال اللفظ في غير موضوعه ، والكناية استعماله في موضوعه غير أن المقصود به معنى [ ص: 136 ] ثان ، فإذا قلت : فلان طويل النجاد ، فإنك تريد أن تجعل حقيقة طول النجاد دليلا على طول القامة ، فقد استعملت اللفظ في موضوعه الأصلي لكن غرضك معنى ثان يلزم الأول ، وهو طول القامة ، وإذا شرط في الكناية اعتبار الموضوع الأصلي لم تكن مجازا . وكذلك إذا قلت لزوجتك : أنت بائن ، فقد استعملت لفظ البينونة في موضوعها الأصلي ، وهو انقطاع الوصلة غير أن مقصودك الطلاق ، ولهذا قالوا : تشترط النية في الكناية ، ولا تشترط النية في المجاز . ا هـ .

                                                      وفيما ذكره نظر ، وهو فيه متابع للإمام فخر الدين ، فإنه قال في نهاية " الإيجاز " : واللفظة إذا أطلقت وكان الغرض الأصلي ، غير معناها ، فإما أن يكون معناها مقصودا أيضا ليكون دالا على ذلك الغرض الأصلي ، وإما أن لا يكون كذلك ، فالأول هو الكناية ، والثاني هو المجاز ، فالكناية كقولهم : فلان طويل النجاد كثير الرماد ، فقولنا : طويل النجاد استعمل لا ; لأن الغرض الأصلي معناه بل ما يلزمه من طول القامة . قال : وليست الكناية من المجاز بدليل أنها تفيد المقصود بمعنى اللفظ ، فوجب أن يكون معناه معتبرا ، وإذا كان معتبرا فيما نقلت اللفظة عن موضوعها ، فلا تكون مجازا ، فإذا قلت : فلان كثير الرماد فإنك تريد أن تجعل حقيقة كثرة الرماد دليلا على كونه جوادا ، فأنت استعملت هذه الألفاظ في معانيها الأصلية غير منكر أن في إفادة كونه كثير الرماد معنى ثانيا يلزم الأول وهو الجود ، وإذا وجب في الكناية اعتبار معانيها الأصلية لم تكن مجازا . انتهى .

                                                      ويشهد لتغايرهما ما قاله الأصحاب في كتاب الطلاق : إن الكناية إنما تؤثر فيها النية دون القرائن مع أن المجاز تؤثر فيه القرينة بالاتفاق . وقال بعض المتأخرين : الكناية تارة تكون حقيقة وتارة تكون مجازا إلا [ ص: 137 ] أن المقصود منها الإشعار بما كنى بها عنه إما حقيقة أو مجازا ، فالكناية أعم لانقسامها إليهما ، فالحقيقة والمجاز وصفان للفظ باعتبار دلالته على المعنى ، والاستعمال غير الدلالة ، فافهم هذا . فائدة ظاهر كلام صاحب " الكشاف " أنه يشترط في الكناية إمكان المعنى الحقيقي ; لأنه ذكر في معنى قوله تعالى : { ولا ينظر إليهم يوم القيامة } أنه مجاز عن الاستهانة والسخط ، وأن النظر إلى فلان بمعنى الاعتداد به ، والإحسان إليه كناية إذا أسند إلى من يجوز عليه النظر ، ومجاز إذا أسند إلى من لا يجوز عليه . [ التعريض ] وأما التعريض فهو لغة : ضد التصريح . قال الإمام فخر الدين في تفسيره : ومعناه أن يضمن الكلام ما يصلح للدلالة على مقصوده ، وتحصل الدلالة على غير مقصوده إلا أن إشعاره بخلاف المقصود أتم وأرجح . وأصله من عرض الشيء وهو جانبه كأنه يحوم به حوله ولا يظهره . قال : والفرق بين الكناية والتعريض : أن الكناية أن تذكر الشيء بذكر لوازمه ، كقولك : فلان طويل النجاد كثير الرماد ، والتعريض أن تذكر كلاما محتملا لمقصودك ، إلا أن قرائن أحوالك تؤكد حمله على غير مقصودك .

                                                      [ ص: 138 ] قيل : والتعريض أخص من الحقيقة مطلقا لا يصدق على المجاز ; لأنه إنما يراد استعماله في المعنى الحقيقي لكن يلوح به إلى غرض آخر هو المقصود ، فهو يشبه الكناية إذا قصد بها الحقيقة ، وهو أخص من الحقيقة ; لأنها مرادة من حيث هي هي ، وهو إنما يراد منه الحقيقة من حيث إشعارها بالمقصود لا بد فيها من قرينة حالية فإن اللفظ المجرد لا يكفي فيها ، فمن الكناية المس والإفضاء ، والدخول كناية عن الجماع ، ومن التعرض قول إبراهيم عليه السلام : { بل فعله كبيرهم هذا } أي أن كبير الأصنام غضب أن تعبد هذه الأصنام الصغار فكسرها ، فكذلك الله يغضب لعبادة من دونه ، فكلام إبراهيم في حق نفسه ضربه مثلا لمقصوده من التعريض ، فهو من مجاز التمثيل ، ويكون التعريض مما لا يراد به المعنى الحقيقي بل ضرب المثل هذا ، ومنه ما يراد به المعنى الحقيقي ، ويشار به إلى المعنى الآخر الذي هو المقصود من التعريض . هذا حده باصطلاح البيانيين .

                                                      وأما الفقهاء فقد ذكروا الكنايات ، والظاهر أنها عندهم مجاز ، فإذا قال الزوج : أنت خلية مريدا الطلاق ، فهو مجاز ويسميه الفقيه كناية ، فلو أراد حقيقة اللفظ لكونه لازما للطلاق ففي وقوع الطلاق نظر ، ولم يتعرضوا للفرق بين الكناية والتعريض إلا في باب اللعان ، فإنهم ذكروا الصريح والكناية والتعريض أقساما ، وذكروا في الخطبة التصريح والتعريض ولم يذكروا الكناية . وقالت الحنفية : إن كنايات الطلاق يطلق عليها كناية بطريق المجاز دون الحقيقة ; لأن حقيقة الكناية ما استتر المراد به ، وهذه الألفاظ معانيها غير مستترة ، بل ظاهرة لكل أحد من أهل اللسان لكنها شابهت الكناية من جهة الإبهام ، ولهذا اشترطت فيها النية ليزول الإبهام ، وتتعين البينونة عن وصلة النكاح ، وهذا غير مسلم ; لأنه إن أريد أن مفهوماتها اللغوية ظاهرة غير [ ص: 139 ] مستترة ، فهذا لا ينافي الكناية ، واستتار مراد المتكلم بها كما في جميع الكنايات ، وإن أريد أن ما أراده المتكلم بها ظاهر لا استتار فيه فممنوع ، كيف ولا يمكن التوصل إليه إلا ببيان من جهة المتكلم ، وهم مصرحون بأنها من جهة المحل مبهمة مستترة ؟ ولم يفسروا الكناية إلا بما استتر المراد منه سواء كان ذلك باعتبار المحل أو غيره ، ولم يشترطوا إرادة اللازم ثم الانتقال منه إلى الملزوم بدليل أنهم جعلوا الحقيقة المهجورة والمجاز المتعارف كناية لمجرد استتار المراد .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية