الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 168 ] ومن الثاني ( أن ) المفتوحة الساكنة تدخل على المضارع لتخلصه للاستقبال ، وتلي الماضي فلا تغيره عن معناه نحو سرني أن ذهب زيد . واختلف هل هي الداخلة على المضارع ; لأنها في الموضعين مؤولة بالمصدر ؟ والصريح : أنها غيرها وإلا لزم انصراف الماضي معها إلى الاستقبال ، كما أن " إن " الشرطية الداخلة على الماضي لما كانت بمعنى الداخلة على المضارع قلبت الماضي إلى الاستقبال ، وما ذكرناه من تخليصها المضارع إلى الاستقبال مجمع عليه بين النحاة .

                                                      وزعم القاضي أبو بكر وتبعه إمام الحرمين وغيره أنها تكون غير مخلصة للاستقبال بل تكون للحال ، واحتجوا بذلك على المعتزلة في قوله تعالى : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } فقوله : { أن نقول } حال ; لأنه لو كان مستقبلا لزم أن يكون كلامه مخلوقا تعالى الله عز وجل عن ذلك . وتابعهم أبو الوليد الباجي . وقال في كتاب " التسديد " : إن القول بتخليصها للاستقبال قول ضعفه النحاة ، وهذا عجيب . واحتج إمام الحرمين بقول سيبويه : " أن " مفتوحة على أوجه : أحدها : أن تكون " أن " وما تعمل فيه من الفعل بمنزلة مصادرها فكما أن المصدر لا يخص زمانا بعينه فكذلك ما كان بمنزلته وتضمن معناه . [ ص: 169 ] قال ابن خروف : وكلام سيبويه في هذا قوله : " أن " المفتوحة تكون على وجوه : أحدها : أن تكون " أن " وما تعمل فيه من الفعل بمنزلة مصادرها وباقي الكلام لأبي المعالي ، وليس في كلام سيبويه أكثر من أن " أن " مع الفعل بتأويل مصدر ، ولا يلزم من جعل الشيء بمنزلة الشيء في حكم ما ، أن يشبهه من جميع الوجوه . وغرض سيبويه أن " أن " مع الفعل بتأويل اسم يجري بوجوه الإعراب ، كقولك : أعجبني أن قمت ، ويعجبني أن تقوم فالأول ماض والثاني مستقبل . فإن أردت الحال قلت : يعجبني أنك تقوم ، فجئت بها مثقلة ، وإذا قلت : يعجبني قيامك احتمل الأزمنة الثلاثة ، ولأجل الدلالة على الزمان جيء بأن والفعل .

                                                      وأما الآية الشريفة التي تمسك بها القاضي ومتابعوه فأجاب ابن عصفور فيما حكاه عن الصفار أن القول قد يكون خلاف الكلام لغة بدليل قوله : امتلأ الحوض . وقال القرطبي : فجعل ما يفهم منه كلاما فيكون القول هنا متجوزا فيه : فكأنه قال : إنما أمره إذا علق إرادته على الشيء أن يعلقها عليه فيكون فجعل تعليق الإرادة على الشيء قولا ; لأنها يكون عنها الشيء كما يكون عن الأمر ، فلا يكون في ذلك إثبات خلق القرآن ، وهذا بناء على أن التعليق حادث . وفيه كلام ويمكن أن يقال : إنها للحال وهي حال مقدرة كما في مررت برجل معه صقر صائد به غدا ، فإن معناه مقدر ( إلا أن الصيد به غدا ) وذلك لا ينافي قول النحاة : أنها تخلصه للاستقبال .

                                                      واحتجوا على أنها تكون للماضي بقوله تعالى : { وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا } قالوا : فوقوع الماضي قبلها دليل على أنها [ ص: 170 ] تكون لغير الاستقبال ، وليس كما زعموا لما ذكرناه ، وبدليل أنهم لم يقتلوا على ما سلف منهم من الإيمان ، وبذلك ورد خبرهم في حديث الفتى والراهب والملك فذكرا بفعل قبلها بلفظ الماضي والثاني بلفظ المستقبل ليعم الأزمنة الثلاثة على حد قوله :

                                                      وندمان يزيد الكأس طيبا سقيت إذا تغورت النجوم

                                                      وتجيء [ أن ] للتعليل ، ولهذا لو قال : أنت طالق أن دخلت الدار بفتح أن وقع في الحال إن كان نحويا ; لأنها للتعليل ، ولا يشترط وجود العلة ، وقد ناظر فيه الكسائي محمد بن الحسن بحضرة الرشيد ، فزعم الكسائي أنها بمعنى " إذ " محتجا بقوله تعالى : { يمنون عليك أن أسلموا } وقوله : { أن دعوا للرحمن ولدا } وهو مذهب كوفي . وخالفهم البصريون وأولوا على أنها مصدرية أي : إسلامهم ولكن قبلها لام العلة مقدرة ، وبذلك يبطل انتصار السروجي في " الغاية " لمحمد فإن التعليل ملحوظ وإن لم يجعلها للتعليل ، وذلك يقتضي الإيقاع في الحال .

                                                      تنبيه مهم في الفرق بين أن والفعل والمصدر ، وذلك من أوجه : أحدها : دلالة الفعل على المضي أو الاستقبال بخلاف المصدر . الثاني : دلالة " أن " والفعل على إمكان الفعل دون وجوبه واستحالته بخلاف المصدر .

                                                      [ ص: 171 ] الثالث : تحصير " أن " بمعنى الحدوث دون احتمال معنى زائد عليه ، فإن قولك : كرهت قيامك قد يكون لصفة في ذلك القيام ، وقولك : كرهت أن قمت يقتضي أنك كرهت نفس القيام . الرابع : امتناع الإخبار عن " أن " والفعل في نحو قولك : أن قمت خير من أن قعدت بخلاف المصدر . قاله السهيلي . الخامس : " أن " والفعل يدل على الوقوع بخلاف المصدر ، قاله صاحب " البسيط " من النحاة كذا نقله بعض المتأخرين . وإنما قال صاحب " البسيط " ذلك في " أن " المشددة لا المخففة ، ففرق بين عجبت من انطلاقك وعجبت من أنك منطلق بما ذكر . ثم ما قاله في المصدر يخالف قول أصحابنا في كتاب الظهار في مسألة : إن وطئتك فعبدي حر عن ظهاري ، ولم يكن ظهار فإنه يحكم به ظهار لإقراره . وقال ابن عطية : " أن " مع الفعل تعطي استئنافا ليس في المصدر في أغلب أمرها . وقد تجيء في مواضع لا يلاحظ فيها الزمان ، وتفترقان في الأحكام في أمور منها : أنه لا يؤكد بأن والفعل بخلاف المصدر ; لأنه مبهم ، وهي معينة فكان المصدر المصرح به أشياء بما أكد ، فقال : ضربت زيدا ضربا ، ولا تقول : ضربت زيدا أن ضربت .

                                                      ومنها : أن المصدر الصريح قد يقع حالا ، وقد لا يقع ، و " أن " والفعل المنسبك منهما المصدر لا يقع حالا ألبتة . ومنها : أن المصدر لا يجوز أن ينوب مناب المفعولين في باب ظننت [ ص: 172 ] وينوب " أن " مع الفعل منابهما ، فلا تقول : ظننت قيامك ، وتقول : ظننت أن يقوم زيد . قاله الصفار ، وإنما جاز مع " أن " للطول . قال : وأجاز بعضهم ظننت قيام زيد على حذف المفعول الثاني أي : واقفا . ومنها : أن المصدر لا يحذف معه حرف الجر فلا تقول : عجبت ضربك تريد من ضربك ، ويحذف مع " أن " ، ذكره الصفار أيضا . ومنها : أن المصدر يقع قبله كل فعل ، ولا يقع قبل " أن " إلا أفعال الظن والشك ونحوها دون أفعال التحقيق ; لأنها تخلص الفعل للاستقبال ، وليس فيها تأكيد كما في " أن " ، فلم يكن بينها وبين فعل التحقيق نسبة . ومنها : أن المصدر يضاف إليه فيقال : جئت مخافة ضربك ، ولا يضاف إلى " أن " فلا يقال : مخافة أن تضرب ، وما سمع منه فإنه على حذف التنوين تخفيفا ، والمصدر عنده منصوب . قاله ابن طاهر . وزيفه الصفار بأنه لم يثبت في كلامهم حذف التنوين تخفيفا ، وإنما حذف لالتقاء الساكنين . وكلام الفقهاء في أن المستعير ملك أن ينتفع حتى لا يعير ، والمستأجر مالك المنفعة حتى إنه يؤجر يقتضي فرقا آخر .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية