الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث ) قوله : فإن لم يكن له ولد قسيم لقوله : ( إن كان له ولد ) و ورثه أبواه دليل على أنهما انفردا بميراثه ، ليس معهما أحد من أهل السهام ، لا ولد ولا غيره ، فيكون قوله : وورثه أبواه حكما لهما بجميع المال . فإذا خلص للأم الثلث كان الثاني وهو الثلثان للأب ، فذكر القسم الواحد يدل على الآخر ؛ كما تقول : هذا المال لزيد وعمرو ، لزيد منه الثلث ، فيعلم قطعا أن باقيه وهو الثلثان لعمرو . فلو كان معهما زوج كان للأم السدس ، وهو الثلث بالإضافة إلى الأب . وقال ابن عباس وشريح : للأم الثلث من جميع المال مع الزوج ، والنصف للزوج ، وما بقي للأب ، فيكون معنى : وورثه أبواه منفردين ، أو مع غير ولد ، وهذا مخالف لظاهر قوله : وورثه أبواه . إذ يدل على أنهما انفردا بالإرث ، فيتقاسمان : للذكر مثل حظ الأنثيين . ولا شك أن الأب أقوى في الإرث من الأم ، إذ يضعف نصيبه على نصيبها إذا انفردا بالإرث ، ويرث بالفرض وبالتعصيب وبهما . وفي قول ابن عباس وشريح : يكون لها مع الزوج والأب مثل حظ الذكرين ، فتصير أقوى من الأب ، وتصير الأنثى لها مثلا حظ الذكر ، ولا دليل على ذلك من نص ولا قياس .

وفي إقامة الجد مقام الأب خلاف . فمن قال : أنه أب وحجب به الإخوة - جماعة ، منهم : أبو بكر رضي الله عنه ، ولم يخالفه أحد من الصحابة في أيام حياته . وقال بمقالته بعد وفاته : أبي ، و معاذ ، وأبو الدرداء ، وابن عباس ، وابن الزبير الأعمش ، و عائشة ، و عطاء ، و طاوس ، والحسن ، والسدي ، وأبو حنيفة ، و إسحاق ، وأبو ثور . وذهب علي ، و زيد ، وابن مسعود : إلى توريث الجد مع الإخوة ، ولا ينقص من الثلث مع الإخوة للأب والأم أو للأم أو للأب ، إلا مع ذوي الفروض ، فإنه لا ينقص معهم من السدس شيئا في قول زيد ، وهو قول : مالك ، و الأوزاعي ، والشافعي ، و محمد ، وأبي يوسف . كان علي يشرك بين الجد والإخوة في السدس ، ولا ينقصه من السدس شيئا مع ذوي الفروض وغيرهم ، وهو قول ابن أبي ليلى . وذهب الجمهور : إلى أن الجد يسقط بني الإخوة من الميراث ، إلا ما روي عن الشعبي عن علي : أنه أجرى بني الإخوة في المقاسمة مجرى الإخوة .

وأما أم الأم فتسمى أما مجازا ، لكن لا يفرض لها الثلث إجماعا ، وأجمعوا على أن للجدة السدس إذا لم يكن للميت أم ، وعلى أن الأم تحجب أمها وأم الأب ، وعلى أن الأب لا يحجب أم الأم . واختلفوا في توريث الجدة وابنتها . فروي عن عثمان وعلي وزيد : أنها لا ترث وابنتها حية ، وبه قال الأوزاعي ، و الثوري ، و مالك ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي . وروي عن عثمان وعلي أيضا ، و عمر وابن مسعود وأبي موسى وجابر : أنها ترث معها . وقال به شريك ، و عبيد الله بن الحسن ، و أحمد ، و إسحاق ، وابن المنذر . وقال : كما أن الجد لا يحجبه إلا الأب ، كذلك الجدة لا يحجبها إلا الأم . وقرأ الأخوان : ( فلإمه ) هنا موضعين ، وفي القصص ( في إمها ) وفي الزخرف : في ( إم الكتاب ) بكسر الهمزة ، لمناسبة الكسرة والياء . وكذا قرأ ( من بطون إمهاتكم ) في النحل والزمر والنجم ، ( أو بيوت إمهاتكم ) في النور . وزاد حمزة في هذه كسر الميم إتباعا لكسرة الهمزة [ ص: 185 ] وهذا في الدرج . فإذا ابتدأ يضم الهمزة ، وهي قراءة الجماعة درجا وابتداء . وذكر سيبويه أن كسر الهمزة من أم بعد الياء ، والكسر لغة . وذكر الكسائي والفراء : أنها لغة هوازن و هذيل .

( فإن كان له إخوة فلأمه السدس ) ، وصار الأب يأخذ خمسة الأسداس . وذهب ابن عباس إلى أن الإخوة يأخذون ما حجبوا الأم عنه وهو السدس ، ولا يأخذه الأب . وروي عنه : أن الأب يأخذه لا الإخوة ، لقول الجماعة من العلماء . قال السدي : وإنما أخذه الأب دونهم لأنه يمونهم ويلي نكاحهم والنفقة عليهم . وظاهر لفظ ( إخوة ) اختصاصه بالجمع المذكر ؛ لأن ( إخوة ) جمع أخ . وقد ذهب إلى ذلك طائفة ، فقالوا : الإخوة تحجب الأم عن الثلث دون الأخوات ، وعندنا يتناول الجمعين على سبيل التغليب . فإذن يصير المراد بقوله : ( إخوة ) مطلق الأخوة ، أي : أشقاء ، أو لأب ، أو لأم ، ذكورا أو إناثا ، أو الصنفين . وظاهر لفظ ( إخوة ) الجمع . وأن الذين يحطون الأم إلى السدس ثلاثة فصاعدا ، وهو قول ابن عباس : الأخوات عنده في حكم الواحد لا يحطان كما لا يحط ، فالجمهور على أن الأخوين حكمهما في الحط حكم الثلاث فصاعدا .

ومنشأ الخلاف : هل الجمع أقله اثنان أو ثلاثة ؟ وهي مسألة يبحث فيها في أصول الفقه ، والبحث فيها في علم النحو أليق . وقال الزمخشري : الإخوة تفيد معنى الجمعية المطلقة بغير كمية ، والتثنية كالتثليث والتربيع في إفادة الكمية ، وهو موضع الدلالة على الجمع المطلق ، فدل بالإخوة عليه ، انتهى . ولا نسلم له دعوى أن الإخوة تفيد معنى الجمعية المطلقة ، بل تفيد معنى الجمعية التي بعد التثنية بغير كمية فيما بعد التثنية ، فيحتاج في إثبات دعواه إلى دليل . وظاهر ( إخوة ) الإطلاق ، فيتناول الإخوة من الأم فيحجبون كما قلنا قبل . وذهب الروافض : إلى أن الإخوة من الأم لا يحجبون الأم ، لأنهم يدلون بها ، فلا يجوز أن يحجبوها ويجعلوه لغيرها فيصيرون ضارين لها نافعين لغيرها . واستدل بهذه الآية على أن البنت تقلب حق الأم من الثلث إلى السدس بقوله : فإن كان له إخوة ؛ لأنها إذا حرمت الثلث بالإخوة وانتقلت إلى السدس فلأن تحرم بالبنت أولى .

( من بعد وصية يوصي بها أو دين ) المعنى : أن قسمة المال بين من ذكر إنما تكون بعد خروج ما يجب إخراجه بوصية ، أو بدين . وليس تعلق الدين والوصية بالتركة سواء ، إذ لو هلك من التركة شيء قبل القسمة ذهب من الورثة والموصى له جميعا ، ويبقى الباقي بينهم بالشركة ، ولا يسقط من الدين شيء بهلاك شيء من التركة . وتفصيل [ ص: 186 ] الميراث على ما ذكروا أنه بعد الوصية يدل على أنه لا يراد ظاهر إطلاق وصية من جواز الوصية بقليل المال وكثيره ، بل دل ذلك على جواز الوصية بنقص المال . ويبين أيضا ذلك قوله : ( للرجال نصيب ) الآية . إذ لو جازت الوصية بجميع المال لكان هذا الجواز ناسخا لهذه الآية ، وقد دل الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول على أن الوصية غير جائزة في أكثر من الثلث . وقد استحبوا النقصان عنه ، هذا إذا كان له وارث ، فإن لم يكن له وارث ، فقال مالك والأوزاعي والحسن بن صالح : لا تجوز الوصية إلا في الثلث . وقال شريك وأبو حنيفة وأصحابه : يجوز بجميع ماله ؛ لأن الامتناع في الوصية بأكثر من الثلث معلل بوجود الورثة ، فإذا لم يوجد وأجاز لظاهر إطلاق الوصية ، لأنه إذا فقد موجب تخصيص البعض جاز حمل اللفظ على ظاهره .

وقد استدل بقوله : من بعد وصية يوصي بها أو دين على أنه إذا لم يكن دين لآدمي ولا وصية يكون جميع ماله لورثته وأنه إن كان عليه حج أو زكاة أو كفارة أو نذر لا يجب إخراجه إلا أن يوصي بذلك . وفي هذا الاستدلال نظر . والوصية مندوب إليها ، وقد كانت واجبة قبل نزول الفرائض فنسخت . وادعى قوم وجوبها . وتتعلق ( من ) بمحذوف ، أي : يستحقون ذلك ، كما فصل ( من بعد وصية ) ، و ( يوصي ) في موضع الصفة ، و ( بها ) متعلق بـ ( يوصي ) ، وهو مضارع وقع موقع الماضي . والمعنى : من بعد وصية أوصى بها . ومعنى : ( أو دين ) لزمه . وقدم الوصية على الدين ، وإن كان أداء الدين هو المقدم على الوصية بإجماع اهتماما بها وبعثا على إخراجها ، إذ كانت مأخوذة من غير عوض شاقا على الورثة إخراجها مظنة للتفريط فيها ، بخلاف الدين . فإن نفس الوارث موطنة على أدائه ، ولذلك سوى بينها وبين الدين بلفظ ( أو ) في الوجوب . أو لأن الوصية مندوب إليها في الشرع محضوض عليها ، فصارت للمؤمن كالأمر اللازم له . والدين لا يلزم أن يوجد ، إذ قد يكون على الميت دين وقد لا يكون ، فبدئ بما كان وقوعه كاللازم ، وأخر ما لا يلزم وجوده . ولهذه الحكمة كان العطف بـ ( أو ) ، إذ لو كان الدين لا يموت أحد إلا وهو راتب لازم له ، لكان العطف بالواو ، أو لأن الوصية حظ مساكين وضعاف ، والدين حظ غريم يطلبه بقوة . وله فيه مقال . قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى ( أو ) ؟ قلت : معناها الإباحة ، وأنه إن كان أحدهما أو كلاهما قدم على قسمة الميراث كقولك : جالس الحسن أو ابن سيرين . انتهى .

ودلت الآية على أن الميراث لا يكون إلا بعد إخراج ما وجب بالوصية أو الدين ، فدل على أن إخراج ما وجب بها سابق على الميراث ، ولم يدل على أنهما أسبق ما يخرج من مال الميت ، إذ الأسبق هو مؤنة تجهيزه من غسله وتكفينه وحمله ووضعه في قبره ، أو ما يحتاج إليه من ذلك . وقرأ الابنان وأبو بكر : ( يوصى ) فيهما مبنيا للمفعول ، وتابعهم حفص على الثاني فقط ، وقرأهما الباقون مبنيا للفاعل .

( آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ) قال ابن عباس والحسن : هو في الآخرة ، لا يدرون أي الوالدين أرفع درجة عند الله ؛ ليشفع في ولده ، وكذا الولد في والديه . وقال مجاهد وابن سيرين والسدي : معناه في الدنيا ، أي : إذا اضطر إلى إنفاقهم للفاقة . ونحا إليه الزجاج ، وقد ينفقون دون اضطرار . وقال ابن زيد : في الدنيا والآخرة ، واللفظ يقتضي ذلك . وروي عن مجاهد : أقرب لكم نفعا في الميراث والشفاعة . وقال ابن بحر : أسرع موتا فيرثه الآخر . وقال ابن عيسى : أي فاقسموا الميراث على ما بين لكم من يعلم النفع والمصلحة ، فإنكم لا تدرون أنتم ذلك ، وقريب منه قول الزجاج . قال : معنى الكلام أنه تعالى قد فرض الفرائض على ما هو عنده حكمة ، ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم ، فتضعون الأموال على غير حكمة ، ولهذا أتبعه بقوله : ( إن الله كان عليما حكيما ) أي عليم بما يصلح لخلقه ، حكيم فيما فرض . قال ابن عطية : وهذا تعريض للحكمة في ذلك ، وتأنيس للعرب الذين كانوا يورثون على غير هذه [ ص: 187 ] الصفة .

وقيل : تضمنت هذه الجملة النهي عن تمني موت الموروث . وقيل : المعنى في ( أقرب لكم نفعا ) الأب بالحفظ والتربية ، أو الأولاد بالطاعة والخدمة والشفقة . وقريب من هذا قول أبي يعلى ، قال : معناه أن الآباء والأبناء يتفاوتون في النفع ، حتى لا يدرى أيهم أقرب نفعا ؛ لأن الأولاد ينتفعون في صغرهم بالآباء ، والآباء ينتفعون في كبرهم بالأبناء . وقال الزمخشري معلقا هذه الجملة بالوصية ، وأنها جاءت ترغيبا فيها وتأكيدا . قال : لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم الذين يموتون ، أمن أوصى منهم أم من لم يوص ، يعني : أن من أوصى ببعض ماله فعرضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته ، فهو أقرب لكم نفعا ، وأحضر جدوى ممن ترك الوصية فوفر عليكم عرض الدنيا ، وجعل ثواب الآخرة أقرب وأحضر من عرض الدنيا ذهابا إلى حقيقة الأمر ؛ لأن عرض الدنيا وإن كان عاجلا قريبا في الصورة إلا أنه فان ، فهو في الحقيقة الأبعد الأقصى ، وثواب الآخرة وإن كان آجلا إلا أنه باق فهو في الحقيقة الأقرب الأدنى ، انتهى كلامه . وهو خطابه . والوصية في الآية لم يأت ذكرها لمشروعيتها وأحكامها في نفسها ، وإنما جاء ذكرها ليبين أن القسمة تكون بعد إخراجها وإخراج الدين ، فليست مما يحدث عنها ، وتفسر هذه الجملة بها . ولكنه لما اختلف حكم الابن والأب في الميراث ، فكان حكم الابن إذا مات الأب عنه وعن أنثى أن يرث مثل حظ الأنثيين ، وكان حكم الأبوين إذا مات الابن عنهما وعن ولد أن يرث كل منهما السدس ، وكان يتبادر إلى الذهن أن يكون نصيب الوالد أوفر من نصيب الابن ، إذ ذاك لما له على الولد من الإحسان والتربية من نشئه إلى اكتسابه المال إلى موته ، مع ما أمر به الابن في حياته من بر أبيه . أو يكون نصيبه مثل نصيب ابنه في تلك الحالة إجراء للأصل مجرى الفرع في الإرث ، بين تعالى أن قسمته هي القسمة التي اختارها وشرعها ، وأن الآباء والأبناء الذين شرع في ميراثهم ما شرع لا ندري نحن أيهم أقرب نفعا ، بل علم ذلك منوط بعلم الله وحكمته . فالذي شرعه هو الحق لا ما يخطر بعقولنا نحن ، فإذا كان علم ذلك عازبا عنا فلا نخوض فيما لا نعلمه ، إذ هي أوضاع من الشارع لا نعلم نحن عللها ولا ندركها ، بل يجب التسليم فيها لله ولرسوله . وجميع المقدرات الشرعية في كونها لا تعقل عللها هي مثل قسمة المواريث سواء .

قالوا : وارتفع ( أيهم ) على الابتداء ، وخبره ( أقرب ) ، والجملة في موضع نصب ل ( تدرون ) ، و ( تدرون ) من أفعال القلوب . و ( أيهم ) استفهام تعلق عن العمل في لفظه ؛ لأن الاستفهام في غير الاستثبات لا يعمل فيه ما قبله على ما قرر في علم النحو ، ويجوز فيه عندي وجه آخر لم يذكروه وهو على مذهب سيبويه ، وهو : أن تكون ( أيهم ) موصولة مبنية على الضم ، وهي مفعول بـ ( تدرون ) ، و ( أقرب ) خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هم أقرب ، فيكون نظير قوله تعالى : ( ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد ) وقد اجتمع شرط جواز بنائها ، وهو أنها مضافة لفظا ، محذوف صدر صلتها ( فريضة من الله ) انتصب ( فريضة ) انتصاب المصدر المؤكد لمضمون الجملة السابقة ؛ لأن معنى ( يوصيكم الله ) : يفرض الله لكم . وقال مكي وغيره : هي حال مؤكدة ؛ لأن الفريضة ليست مصدرا . ( إن الله كان عليما حكيما ) أي : عليما بمصالح العباد ، حكيما فيما فرض ، وقسم من المواريث وغيرها . وتقدم الكلام في ( كان ) إذا جاءت في نسبة الخبر لله تعالى ، ومن زعم أنها التامة ، وانتصب ( عليما ) على الحال فقوله ضعيف ، أو أنها زائدة فقوله خطأ .

التالي السابق


الخدمات العلمية