الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ، ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها ) قال قوم : من يكن شفيعا لوتر أصحابك ، يا محمد في الجهاد ؛ فيسعفهم في جهاد عدوهم يكن له نصيب من الجهاد ، أو من يشفع وتر الإسلام بالمعونة للمسلمين ؛ فتلك حسنة ، وله نصيب منها . وحملهم على هذا التأويل ما تقدم من ذكر القتال والأمر به ، وقال قريبا منه الطبري . وقال مجاهد ، والحسن ، وابن زيد وغيرهم : هي في حوائج الناس ؛ فمن يشفع لنفع فله نصيب ، ومن يشفع لضر فله كفل .

وقال الزمخشري : الشفاعة الحسنة هي التي روعي فيها حق مسلم ، ودفع عنه بها شر ، أو جلب إليه خير ، وابتغي بها وجه الله ، ولم يؤخذ عليها رشوة ، وكانت في أمر جائز ، لا في حد من حدود الله ، ولا حق من الحقوق . والسيئة ما كان بخلاف ذلك انتهى .

وهذا بسط ما قاله الحسن ; قال : الشفاعة الحسنة هي في البر والطاعة ، والسيئة في المعاصي . وقيل الشفاعة الحسنة هي الدعوة للمسلم ; لأنها في معنى الشفاعة إلى الله تعالى . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : من دعا لأخيه بظهر الغيب استجيب له ، وقال له الملك : ولك مثل ذلك النصيب والدعوة على المسلم بضد ذلك . وقال ابن السائب ومقاتل : الشفاعة الحسنة هنا الصلح بين الاثنين ، والسيئة الإفساد بينهما والسعي بالنميمة . وقيل الشفاعة الحسنة أن يشفع إلى الكافر حتى يوضح له من الحجج لعله يسلم ، والسيئة أن يشفع إلى المسلم عسى يرتد أو ينافق . والظاهر أن ( من ) للسبب ; أي نصيب من الخير بسببها ، وكفل من الشر بسببها . وتقدم في المفردات أن الكفل النصيب .

وقال أبان بن تغلب : الكفل المثل . وقال الحسن وقتادة : هو الوزر والإثم ، وغاير في النصيب ، فذكره بلفظ الكفل في الشفاعة السيئة ; لأنه أكثر ما يستعمل في الشر ، وإن كان قد استعمل في الخير لقوله : ( يؤتكم كفلين من رحمته ) قالوا : وهو مستعار من كفل البعير ، وهو كساء يدار على سنامه ليركب عليه ، وسمي كفلا ; لأنه لم يعم الظهر ؛ بل [ ص: 310 ] نصيبا منه .

( وكان الله على كل شيء مقيتا ) ; أي مقتدرا ؛ قاله السدي ، وابن زيد والكسائي . وقال ابن عباس ، ومجاهد : حفيظا ، وشهيدا . وقال عبد الله بن كثير : واصبا قيما بالأمور . وقيل المحيط . وقيل الحسيب . وقيل المجازي . وقيل المواظب للشيء الدائم عليه . قال ابن كثير : وهو قول ابن عباس أيضا . وهذه أقوال متقاربة لاستلزام بعضها معنى بعض . وقال الطبري في قوله : إني على الحساب مقيت ، إنه من غير هذه المعاني المتقدمة ، وإنه بمعنى موقوت . وهذا يضعفه أن يكون بناء اسم الفاعل بمعنى بناء اسم المفعول . وقال غيره : معناه مقتدر .

( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ) الظاهر أن التحية هنا السلام ، وأن المسلم عليه مخير بين أن يرد أحسن منها أو أن يردها يعني مثلها ، فـ ( أو ) هنا للتخيير . وقال ابن عباس ، والحسن وقتادة ، وابن زيد : بأحسن منها إذا كان مسلما ، أو ردوها إذا كان يسلم عليك كافر فاردد ، وإن كان مجوسيا فتكون أو هنا للتنويع . والذي يظهر أن الكافر لا يرد عليه مثل تحيته ؛ لأن المشروع في الرد عليهم أن يقال لهم : وعليكم ، ولا يزادوا على ذلك ، فيكون قوله : وإذا حييتم معناه : وإذا حياكم المسلمون ، وإلى هذا ذهب عطاء . وعن الحسن : ويجوز أن يقال للكافر : وعليك السلام ، ولا يقل : ورحمة الله ؛ فإنها استغفار . وعن الشعبي أنه قال لنصراني سلم عليه : وعليك السلام ورحمة الله فقيل له ، فقال : أليس في رحمة الله يعيش ؟ وكأن من قال بهذا أخذ بعموم ( وإذا حييتم ) ، لكن ذلك مخالف للنص النبوي من قوله : فقولوا وعليكم وكيفية رد الأحسن أنه إذا قال : سلام عليك ؛ فيقول : عليك السلام ورحمة الله . فإذا قال : سلام عليك ورحمة الله قال : عليك السلام ورحمة الله وبركاته . فإذا قال المسلم هذا بكماله رد عليه مثله . وروي عن عمر ، وابن عباس ، وغيرهما : أن غاية السلام إلى البركة .

وفي الآية دليل على أن الرد واجب لأجل الأمر ، ولا يدل على وجوب البداءة ، بل هي سنة مؤكدة . هذا مذهب أكثر العلماء ، والجمهور على أن لا يبدأ أهل الكتاب بالسلام ، وشذ قوم فأباحوا ذلك . وقد طول الزمخشري وغيره بذكر فروع كثيرة في السلام ، وموضوعها علم الفقه . وذهب مجاهد : إلى تخصيص هذه التحية بالجهاد ؛ فقال : إذا حييتم في سفركم بتحية الإسلام ( فلا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا ) فإن أحكام الإسلام تجري عليهم . وروى ابن وهب ، وابن القاسم عن مالك : أن هذه الآية في تشميت العاطس ، والرد على المشمت . وضعف ابن عطية وغيره من أصحاب مالك هذا القول . قال ابن عطية : لأنه ليس في الكلام على ذلك دلالة . أما أن الرد على المشمت مما يدخل بالقياس في معنى رد التحية ، وهذا هو منحى مالك إن صح ذلك ، انتهى . وذهب قوم إلى أن المراد بالتحية هنا الهداية واللطف ، وقال : حق من أعطى شيئا من ذلك أن يعطى مثله أو أحسن منه .

قال ابن خويزمنداد : يجوز أن تحمل هذه الآية على الهبة إذا كانت للثواب ، وقد شحن بعض الناس تأليفه هنا بفروع من أحكام القتال والسلام وتشميت العاطس والهدايا ، وموضوعها علم الفقه ، وذكروا أيضا في ما يدخل في التحية مقارنا للسلام واللقاء والمصافحة ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بها وفعلها مع السلام والمعانقة ، وأول من سنها إبراهيم عليه السلام ، والقبلة . وعن الحسن في قوله تعالى : ( رحماء بينهم ) قال : كان الرجل يلقى أخاه فما يفارقه حتى يلزمه ويقبله . وعن علي : قبلة الولد رحمة ، وقبلة المرأة شهوة ، وقبلة الوالدين بر ، وقبلة الأخ دين ، وقبلة الإمام العادل طاعة ، وقبلة العالم إجلال الله تعالى . قال القشيري : في الآية تعليم لهم حسن العشرة وآداب الصحبة ، وأن من حملك فضلا صار ذلك في ذمتك قرضا ، فإن زدت على فعله وإلا فلا تنقص عن مثله . ( إن الله كان على كل شيء حسيبا ) أي : حاسبا من الحساب ، أو محسبا من الإحساب وهو الكفاية . فإما فعيل للمبالغة ، وإما [ ص: 311 ] بمعنى مفعل .

وتضمنت هذه الآيات من البيان والبديع أنواعا الالتفات في قوله : فما أرسلناك . والتكرار في : من يطع ، فقد أطاع ، وفي : بيت و يبيتون ، وفي اسم الله في مواضع ، وفي : ( أشد ) ، وفي : من يشفع شفاعة . والتجنيس المماثل في : يطع و أطاع ، وفي : بيت و يبيتون ، وفي : حييتم فحيوا . والمغاير في : وتوكل و وكيلا ، وفي : من يشفع شفاعة ، وفي : وإذا حييتم بتحية . والاستفهام المراد به الإنكار في : أفلا يتدبرون . والطباق في : من الأمن أو الخوف ، وفي : ( شفاعة حسنة ) و ( شفاعة سيئة ) . والتوجيه في : غير الذي تقول . والاحتجاج النظري ويسمى المذهب الكلامي في : ولو كان من عند غير الله . وخطاب العين والمراد به الغير في : ( فقاتل ) والاستعارة في في سبيل الله ، وفي : أن يكف بأس ، وأفعل في غير المفاضلة في ( أشد ) . وإطلاق كل على بعض في : بأس الذين كفروا واللفظ مطلق والمراد بدر الصغرى . والحذف في عدة مواضع تقتضيها الدلالة .

التالي السابق


الخدمات العلمية