الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ) ظاهره نداء أهل الكتاب الحاضرين زمان رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، ويتناول من جاء بعدهم . ولما سبق القول في أباطيل اليهود وأباطيل النصارى ، جمع الفريقان في النهي عن الغلو في الدين . وانتصب غير الحق وهو الغلو الباطل ، وليس المراد بالدين هنا ما هم عليه ، بل المراد الدين الحق ، الذي جاء به موسى و عيسى . قال الزمخشري : الغلو في الدين غلوان : غلو حق ، وهو أن يفحص عن حقائقه ويفتش عن أباعد معانيه ويجتهد في تحصيل حججه كما يفعل المتكلمون من أهل العدل والتوحيد ، وغلو باطل وهو أن يجاوز الحق ويتعداه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه كما يفعل أهل الأهواء والبدع . انتهى . وأهل العدل والتوحيد هم أئمة المعتزلة ، وأهل الأهواء والبدع عنده هم [ ص: 539 ] أهل السنة ، ومن عدا المعتزلة . ومن غلو اليهود إنكار نبوة عيسى ، وادعاؤهم فيه أنه الله . ومن غلو النصارى ما تقدم من اعتقاد بعضهم فيه أنه الله ، وبعضهم أنه أحد آلهة ثلاثة . وانتصاب " غير " هنا على الصفة ; أي : غلوا غير الحق . وأبعد من ذهب إلى أنها استثناء متصل ، ومن ذهب إلى أنها استثناء ، ويقدره : لكن الحق فاتبعوه .

( ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ) هؤلاء القوم هم أسلاف اليهود والنصارى ضلوا في أنفسهم وأضلوا غيرهم كثيرا ، ثم عين ما ضلوا عنه وهو السبيل السوي الذي هو وسط في الدين وهو خيرها فلا إفراط ولا تفريط ، بل هو سواء معتدل خيار . وقيل : الخطاب للنصارى ، وهو ظاهر كلام الزمخشري قال : قد ضلوا من قبل : هم أئمتهم في النصرانية كانوا على الضلال قبل مبعث النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وأضلوا كثيرا ممن شايعهم على التثليث ، وضلوا لما بعث رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، عن سواء السبيل حين كذبوه وحسدوه وبغوا عليه . وقال ابن عطية : هذه المخاطبة هي للنصارى الذين غلوا في عيسى والقوم الذين نهى النصارى عن اتباع أهوائهم ، والذي دعا إلى هذا التأويل أن النصارى في غلوهم ليسوا على هوى بني إسرائيل ، بل هم في الضد بالأقوال ، وإنما اجتمعوا في اتباع موضع الهوى . فالآية بمنزلة قولك لمن تلومه على عوج : هذه الطريقة طريقة فلان ; تمثله بآخر قد اعوج نوعا من الاعوجاج وإن اختلفت نوازله . ووصف تعالى اليهود بأنهم ضلوا قديما ، وأضلوا كثيرا من أتباعهم ، ثم أكد الأمر بتكرار قوله : وضلوا عن سواء السبيل ; وذهب بعض المتأولين إلى أن المعنى : يا أهل الكتاب من النصارى لا تتبعوا أهواء هؤلاء اليهود الذين ضلوا من قبل ; أي : ضل أسلافهم وهم قبل مجيء محمد ، صلى الله عليه وسلم ، وأضلوا كثيرا من المنافقين ، وضلوا عن سواء السبيل الآن بعد وضوح الحق . انتهى . ولا حاجة لإخراج الكلام عن ظاهره من أنه نداء لأهل الكتاب طائفتي اليهود والنصارى ، وأن قوله : ولا تتبعوا أهواء قوم ; هم : أسلافهم . فإن الزائغ عن الحق كثيرا ما يعتذر أنه على دين أبيه وطريقته ، كما قالوا : ( إنا وجدنا آباءنا على أمة ) فنهوا عن اتباع أسلافهم ، وكان في تنكير قوم تحقير لهم . وما ذهب إليه الزمخشري تخصيص لعموم من غير داعية إليه . وما ذهب إليه ابن عطية أيضا تخصيص وتأويل بعيد في قوله : ولا تتبعوا أهواء قوم ; أن المراد بهم اليهود ، وأن المعنى : لا تكونوا على هوى كما كان اليهود على هوى ، لأن الظاهر النهي عن اتباع أهواء أولئك القوم . وأبعد من ذهب إلى أن الضلال الأول عن الدين ، والثاني عن طريق الجنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية