الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ولو أن رجلين رمى كل واحد منهما صيدا بسهم فأصابا الصيد جميعا ووقعت الرميتان بالصيد معا فمات فإنه لهما ويؤكل .

                                                                                                                                ( أما ) حل الأكل فظاهر .

                                                                                                                                ( وأما ) كون الصيد لهما فلأنهما اشتركا في سبب الاستحقاق وتساويا فيه فيتساويان في الاستحقاق فإن أصابه سهم الأول فوقذه ثم أصابه سهم الآخر فقتله قال أبو يوسف رحمه الله : يؤكل والصيد للأول ، وقال زفر رحمه الله : لا يؤكل وهذا فرع اختلافهم في أن المعتبر في الرمي حال الرمي أو حال الإصابة فعند أصحابنا الثلاثة المعتبر حال الرمي ، وعند زفر حال الإصابة .

                                                                                                                                ( ووجه ) البناء على هذا الأصل أن المعتبر لما كان حال الرمي عندنا فقد وجد الرمي منهما والصيد ممتنع فلا يتعلق بالسهم الثاني حظر إلا أن الملك للأول ; لأن سهمه أخرجه من حيز الامتناع فصار السهم الثاني كأنه وقع بصيد مملوك فلا يستحق به شيء فكان الاعتبار بحال الرمي في حق الحل والإصابة في حق الملك ; لأن الحل يتعلق بالفعل والملك يتعلق بالمحل ولما كان الاعتبار بحال الإصابة عنده فقد أصابه الثاني والصيد غير ممتنع فصار كمن رمى إلى شاة فقتلها .

                                                                                                                                ( وجه ) قول زفر رحمه الله الاعتبار حال الإصابة أن الملك يقف ثبوته على الإصابة فإنه لو لم يصب لا يملك فدل أن المعتبر هو وقت الإصابة ، ولنا أن حال الرمي هو الذي يفعله والتسمية معتبرة عند فعله فكان الاعتبار بحال الرمي وكذلك إن رمى أحدهما بعد الآخر قبل إصابة الأول فهو كرميهما معا في القولين ; لأن رمي الثاني وجد والصيد ممتنع فصار كما لو رميا معا فإن أصابه سهم الأول ولم يخرجه من الامتناع فأصابه الثاني فقتله فهو للثاني ; لأن الأول إذا لم يخرجه عن حد الامتناع ففعل الاصطياد وجد من الثاني وللأول تسبب في الصيد فصار كمن أثار صيدا وأخذه غيره أن الصيد يكون للآخذ لا للمثير كذا هذا .

                                                                                                                                وإن كان سهم الأول وقذه وأخرجه عن الامتناع ثم أصابه سهم الثاني فهذا على وجوه : إن مات من الأول أكل وعلى الثاني ضمان ما نقصته جراحته ; لأن السهم الأول وقع به وهو صيد فإذا قتله حل وقد ملكه الأول بالإصابة فالجراحة الثانية نقص في ملك الأول فيضمنها الثاني ، وإن مات من الجراحة الثانية لم يؤكل ; لأن الثاني رمى إليه وهو غير ممتنع فصار كالرمي إلى الشاة ويضمن الثاني ما نقصته جراحته ; لأنه نقص دخل في ملك الغير بفعله ثم يضمن قيمته مجروحا بجراحتين ; لأنه أتلف بفعله إلا أنه غرم نقصان الجرح الثاني فلا يضمنه ثانيا والجرح الأول نقص حصل بفعل المالك للصيد فلا يضمنه الثاني .

                                                                                                                                وإن مات من الجراحتين لم يؤكل ; لأن أحد الرميين حاظر والآخر مبيح فالحكم للحاظر احتياطا والصيد للأول لانفراده بسبب ملكه وهو الجراحة المخرجة له من الامتناع وعلى الثاني للأول نصف قيمته مجروحا بالجراحتين ويضمن نصف ما نقصته الجراحة الثانية ; لأنه مات بفعلها فسقط نصف [ ص: 57 ] الضمان وثبت نصفه والجراحة الثانية يضمنها الثاني ; لأنها حصلت في ملك غيره ولأنه أتلف على شريكه نصيبه حين أخرجه من الإباحة إلى الحظر فيلزمه الضمان وإن لم يعلم بأي الجراحتين مات فهو كما لو علم أنه مات منهما ; لأن كل واحدة من الجراحتين سبب القتل في الظاهر والله جل وعز أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية