الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ولو قال : علي المشي إلى بيت الله تعالى أو إلى الكعبة أو إلى مكة أو إلى بكة فعليه حجة أو عمرة ماشيا وإن شاء ركب وعليه ذبح شاة لركوبه وجملة الكلام فيه أن المكان نوعان : مكان يصح الدخول فيه بغير إحرام ، وهو ما سوى الحرم : كمسجد المدينة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ، ومسجد بيت المقدس وغيرهما من سائر المساجد والأماكن ومكان لا يصح الدخول فيه بغير إحرام وهو ، الحرم والحرم مشتمل على مكة ، ومكة على المسجد الحرام ، والمسجد الحرام على الكعبة ، فالناذر إما أن يسمى في النذر الكعبة ، أو بيت الله - تعالى - أو مكة أو بكة أو الحرم أو المسجد الحرام

                                                                                                                                والأفعال التي يوجبها على نفسه شبه ألفاظ المشي والخروج والسفر والركوب والذهاب والإياب فإن أوجب على نفسه شيئا من هذه الأفعال وأضافه إلى مكان يصح دخوله فيه بغير إحرام لا يصح إيجابه ، لأنه أوجب على نفسه التحول من مكان إلى مكان ، وذا ليس بقربة مقصودة ، ولا يصح النذر بما ليس بقربة ، والدليل عليه ما روي { أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إني نذرت إن فتح لك مكة أن أصلي مائتي ركعة في مائة مسجد فقال عليه الصلاة والسلام : صلي في مسجد واحد } ، فلم يصحح عليه الصلاة والسلام نذرها بالصلاة في كل مسجد والنذر بخلاف اليمين ، فإن اليمين تنعقد بهذه الألفاظ ، بأن يقول : والله لأذهبن إلى موضع كذا ، أو لأسافرن ، أو غيرهما من الألفاظ ; لأن اليمين لا يقف انعقادها على كون المحلوف عليه قربة ، بل ينعقد على القربة وغيرها ، بخلاف النذر .

                                                                                                                                وإن أضاف إيجاب شيء من هذه الأفعال إلى المكان الذي لا يصح الدخول فيه بغير إحرام ينظر : فإن أضاف إيجاب ما سوى المشي إليه لا يصح ، ولا يلزمه شيء لما ذكرنا أن التحول من مكان إلى مكان ليس بقربة في نفسه وإن أضاف إيجاب المشي إليه فإن ذكر سوى ما ذكرنا من الأمكنة من الكعبة وبيت الله - تعالى - ومكة وبكة [ ص: 84 ] والمسجد الحرام والحرم ، بأن أوجب على نفسه المشي إلى الصفا والمروة ومسجد الخيف وغيرها من المساجد التي في الحرم لا يصح نذره بلا خلاف وإن ذكر الكعبة وبيت الله - عز شأنه - أو مكة أو بكة ، يصح نذره ويلزمه حجة أو عمرة ماشيا ، وإن شاء ركب وذبح لركوبه شاة ، وهذا استحسان ، والقياس أن لا يصح ولا يلزمه شيء .

                                                                                                                                ( وجه ) القياس أن من شرط صحة النذر أن يكون المنذور به قربة مقصودة ، ولا قربة في نفس المشي ، وإنما القربة في الإحرام وإنه ليس بمذكور ; ولهذا لم يصح بسائر الألفاظ سوى لفظ المشي .

                                                                                                                                ( وجه ) الاستحسان : أن هذا الكلام عندهم كناية عن التزام الإحرام ، يستعملونه لالتزام الإحرام بطريق الكناية من غير أن يعقل فيه وجه الكناية ، بمنزلة قوله : لله علي أن أضرب بثوبي حطيم الكعبة كناية عن التزام الصدقة باصطلاحهم ، والإحرام يكون بالحجة أو بالعمرة فيلزمه أحدهما بخلاف سائر الألفاظ ، فإنها ما جرت عادتهم بالتزام الإحرام بها ، والمعتبر في الباب عرفهم وعادتهم ، ولا عرف هناك فيلزمه ذلك ماشيا ; لأنه التزم المشي ، وفيه زيادة قربة ، قال النبي عليه الصلاة والسلام : { من حج ماشيا فله بكل خطوة حسنة من حسنات الحرم قيل : وما حسنات الحرم قال عليه الصلاة والسلام : واحدة بسبعمائة } ، فجاز التزامه بالنذر كصفة التتابع في الصوم ، فيمشي حتى يطوف طواف الزيارة ; لأن بذلك يقع الفراغ من أركان الحج ، إلا أن له أن يركب ويذبح لركوبه شاة لما روي : { أن أخت أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما نذرت أن تحج ماشية ، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لأبي سعيد الخدري : إن الله - تعالى - غني عن تعذيب أختك : مرها فلتركب ولترق دما } .

                                                                                                                                وما روي في بعض الروايات { أن عقبة بن عامر الجهني سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن أختي نذرت أن تحج البيت ماشية غير مختمرة ، فقال عليه الصلاة والسلام : إن الله غني عن تعذيب أختك فلتركب ولتهد شاة وفي بعضها أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى بيت الله - تعالى - حافية حاسرة ، فذكر ذلك عقبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام : إن الله - تعالى - غني عن عناء أختك مرها فلتركب ولتهد شاة وتحرم إن شاءت بحجة وإن شاءت بعمرة } .

                                                                                                                                وروي عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال : من جعل على نفسه الحج ماشيا حج وركب وذبح لركوبه شاة رواه في الأصل وإنما استوى فيه لفظ الكعبة وبيت الله ومكة وبكة ; لأن كل واحد من هذه الألفاظ يستعمل عند استعمال الأخر ، يقال : فلان مشى إلى بيت الله وإلى الكعبة وإلى مكة ، وإلى بكة ولا يقال مشى إلى الصفا والمروة ، وإن ذكر المسجد الحرام أو الحرم .

                                                                                                                                قال أبو حنيفة رحمه الله : لا يصح نذره ولا يلزمه شيء وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله : يلزمه حجة أو عمرة .

                                                                                                                                ( وجه ) قولهما إن الحرم مشتمل على البيت وعلى مكة فصار كأنه قال علي المشي إلى بيت الله وإلى مكة ولأبي حنيفة رحمه الله أن القياس أن لا يجب شيء بإيجاب المشي المضاف إلى مكان ما ، لما ذكر أن المشي ليس بقربة مقصودة ، إذ هو انتقال من مكان إلى مكان ، فليس في نفسه قربة ، ولهذا لا يجب بسائر الألفاظ إلا أنا أوجبنا عليه الإحرام في لفظ المشي إلى بيت الله أو إلى الكعبة أو إلى مكة أو إلى بكة للعرف ، حيث تعارفوا استعمال ذلك كناية عن التزام الإحرام ، ولم يتعارفوا استعمال غيرها من الألفاظ ، ألا ترى أنه يقال مشى إلى مكة والكعبة وبيت الله ولا يقال مشى إلى الحرم أو المسجد الحرام ؟ كما يقال مشى إلى الصفا والمروة ، والكناية يتبع فيها عين اللفظ لا المعنى ، بخلاف المجاز فإنه يراعى فيه المعنى اللازم المشهور في محل الحقيقة ; لأن الكناية ثابتة بالاصطلاح كالأسماء الموضوعة ، فيتبع فيها العرف ، واستعمال اللفظ بخلاف المجاز .

                                                                                                                                ولو قال : علي المشي إلى بيت الله وهو ينوي مسجدا من مساجد الله سوى المسجد الحرام لم يلزمه شيء ; لأنه نوى ما يحتمله لفظه ; لأن كل مسجد بيت الله - تعالى - فصحت نيته ، على أن الظاهر إن كانت إرادة الكعبة من هذا الكلام لا غير لكن هذا أمر بينه وبين الله - تعالى - فيكتفي فيه باحتمال اللفظ إياه في الجملة .

                                                                                                                                ولو قال : أنا أحرم أو أنا محرم أو أهدي أو أمشي إلى البيت ، فإن نوى به الإيجاب يكون إيجابا ; لأنه يذكر ويراد به الإيجاب ، كقولنا : أشهد أن لا إله إلا الله إنه يكون توحيدا ، وكقول الشاهد عند القاضي : أشهد أنه يكون شهادة ، فقد نوى ما يحتمله لفظه ، وإن نوى أن يعد من نفسه عدة ولا يوجب شيئا كان عدة ولا شيء عليه ; لأن اللفظ يحتمل العدة ; لأنه يستعمل في العدات .

                                                                                                                                وإن لم يكن له نية [ ص: 85 ] فهو على الوعد ; لأنه غلب استعماله فيه ، فعند الإطلاق يحمل عليه ، هذا إذا لم يعلقه بالشرط ، فإن علقه بالشرط بأن قال إن فعلت كذا فأنا أحرم فهو على الوجوه التي بينا أنه إن نوى الإيجاب يكون إيجابا ، وإن نوى الوعد يكون وعدا لما قلنا ، وإن لم يكن له نية فهو على الإيجاب بخلاف الفصل الأول ; لأن العدات لا تتعلق بالشروط ، وإن الواجبات تتعلق بها ، فالمعرفة إلى الإيجاب بقرينة التعليق بالشرط ولم توجد القرينة في الفصل الأول فصار الحاصل أن هذا اللفظ في غير المعين بالشرط على الوعد إلا أن ينوي به الإيجاب ، وفي المعلق يقع على الإيجاب إلا أن ينوي به الوعد .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية