الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : تمسك أصحابنا بقوله : ( خالق كل شيء ) على أنه تعالى هو الخالق لأعمال العباد ، قالوا : أعمال العباد أشياء ، والله تعالى خالق كل شيء بحكم هذه الآية ، فوجب كونه تعالى خالقا لها ؛ واعلم أنا [ ص: 100 ] أطنبنا الكلام في هذا الدليل في كتاب " الجبر والقدر " ، ونكتفي هاهنا من تلك الكلمات بنكت قليلة ، قالت المعتزلة : هذا اللفظ ، وإن كان عاما إلا أنه حصل مع هذه الآية وجوه تدل على أن أعمال العباد خارجة عن هذا العموم :

                                                                                                                                                                                                                                            فأحدهما : أنه تعالى قال : ( خالق كل شيء فاعبدوه ) فلو دخلت أعمال العباد تحت قوله : ( خالق كل شيء ) لصار تقدير الآية : أنا خلقت أعمالكم فافعلوها بأعيانها أنتم مرة أخرى ، ومعلوم أن ذلك فاسد .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أنه تعالى إنما ذكر قوله : ( خالق كل شيء ) في معرض المدح والثناء على نفسه ، فلو دخل تحته أعمال العباد لخرج عن كونه مدحا وثناء ؛ لأنه لا يليق به سبحانه أن يتمدح بخلق الزنا واللواط والسرقة والكفر .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أنه تعالى قال بعد هذه الآية : ( قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها ) [ الأنعام : 104 ] وهذا تصريح بكون العبد مستقلا بالفعل والترك ، وأنه لا مانع له البتة من الفعل والترك ، وذلك يدل على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى ، إذ لو كان مخلوقا لله تعالى لما كان العبد مستقلا به ؛ لأنه إذا أوجده الله تعالى امتنع منه الدفع ، وإذا لم يوجده الله تعالى امتنع منه التحصيل ، فلما دلت هذه الآية على كون العبد مستقلا بالفعل والترك ، وثبت أن كونه كذلك يمنع أن يقال فعل العبد مخلوق لله تعالى ، ثبت أن ذكر قوله : ( فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها ) [الأنعام : 104] يوجب تخصيص ذلك العموم .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أن هذه الآية مذكورة عقيب قوله : ( وجعلوا لله شركاء الجن ) وقد بينا أن المراد منه رواية مذهب المجوس في إثبات إلهين للعالم ؛ أحدهما يفعل اللذات والخيرات ، والآخر يفعل الآلام والآفات ؛ فقوله بعد ذلك : ( لا إله إلا هو خالق كل شيء ) يجب أن يكون محمولا على إبطال ذلك المذهب ، وذلك إنما يكون إذا قلنا : إنه تعالى هو الخالق لكل ما في هذا العالم من السباع والحشرات والأمراض والآلام ، فإذا حملنا قوله : ( خالق كل شيء ) على هذا الوجه لم يدخل تحته أعمال العباد ؛ قالوا : فثبت أن هذه الدلائل الأربعة توجب خروج أعمال العباد عن عموم قوله تعالى : ( خالق كل شيء ) .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : أنا نقول الدليل العقلي القاطع قد ساعد على صحة ظاهر هذه الآية ، وتقريره أن الفعل موقوف على الداعي ، وخالق الداعي هو الله تعالى ، ومجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل ، وذلك يقتضي كونه تعالى خالقا لأفعال العباد ، وإذا تأكد هذا الظاهر بهذا البرهان العقلي القاطع زالت الشكوك والشبهات .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : قوله تعالى : ( خالق كل شيء فاعبدوه ) يدل على ترتيب الأمر بالعبادة على كونه تعالى خالقا لكل الأشياء بفاء التعقيب ، وترتيب الحكم على الوصف بحرف الفاء مشعر بالسببية ، فهذا يقتضي أن يكون كونه تعالى خالقا للأشياء هو الموجب لكونه معبودا على الإطلاق ، والإله هو المستحق للمعبودية ، فهذا يشعر بصحة ما يذكره بعض أصحابنا من أن الإله عبارة عن القادر على الخلق والإبداع والإيجاد والاختراع .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : احتج كثير من المعتزلة بقوله : ( خالق كل شيء ) على نفي الصفات ، وعلى كون القرآن مخلوقا ، أما نفي الصفات فلأنهم قالوا : لو كان تعالى عالما بالعلم ، قادرا بالقدرة ، لكان ذلك العلم والقدرة إما أن يقال : إنهما قديمان ، أو محدثان ، والأول باطل ؛ لأن عموم قوله : ( خالق كل شيء ) يقتضي كونه خالقا لكل الأشياء ؛ أدخلنا التخصيص في هذا العموم بحسب ذاته تعالى ، ضرورة أنه يمتنع أن يكون خالقا لنفسه ، فوجب أن يبقى على عمومه فيما سواه ، والقول بإثبات الصفات القديمة يقتضي مزيد التخصيص في [ ص: 101 ] هذا العموم ، وأنه لا يجوز .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : وهو القول بحدوث علم الله وقدرته ، فهو باطل بالإجماع ، ولأنه يلزم افتقار إيجاد ذلك العلم والقدرة إلى سبق علم آخر وقدرة أخرى ، وأن ذلك محال ، وأما تمسكهم بهذه الآية على كون القرآن مخلوقا ، فقالوا : القرآن شيء ، وكل شيء فهو مخلوق لله تعالى بحكم هذا العموم ، فلزم كون القرآن مخلوقا لله تعالى أقصى ما في هذا الباب أن هذا العموم دخله التخصيص في ذات الله تعالى ، إلا أن العام المخصوص حجة في غير محل التخصيص ، ولذلك فإن دخول هذا التخصيص في هذا العموم لم يمنع أهل السنة من التمسك به في إثبات أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            وجواب أصحابنا عنه : أنا نخصص هذا العموم بالدلائل الدالة على كونه تعالى عالما بالعلم ، قادرا بالقدرة ، وبالدلائل الدالة على أن كلام الله تعالى قديم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية