الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( والبدنة أفضل من البقر لأنها أعظم ، والبقرة أفضل من الشاة لأنها بسبع من الغنم ، والشاة أفضل من مشاركة سبعة في بدنة أو بقرة لأنه ينفرد بإراقة الدم والضأن أفضل من المعز ، لما روى عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { خير الأضحية الكبش الأقرن } وقالت أم سلمة " لأن أضحي بالجذع [ ص: 368 ] من الضأن أحب إلي من أن أضحي بالمسنة من المعز " ولأن لحم الضأن أطيب ، والسمينة أفضل من غير السمينة ، لما روي عن ابن عباس في قوله تعالى { ومن يعظم شعائر الله } قال : " تعظيمها استسمانها واستحسانها " . وخطب علي كرم الله وجهه قال : " ثنيا فصاعدا واستسمن . فإن أكلت أكلت طيبا ، وإن أطعمت أطعمت طيبا ، والبيضاء أفضل من الغبراء والسوداء ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين والأملح الأبيض " وقال أبو هريرة : " دم البيضاء في الأضحية أفضل من دم سوداوين وقال ابن عباس : تعظيمها استحسانها ، والبيض أحسن " ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث عبادة رواه البيهقي هنا وفي كتاب الجنائز ، وهو بعض حديث ، ورواه أيضا من رواية أبي أمامة بإسناد ضعيف ( وأما ) حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم { ضحى بكبشين أملحين } فرواه البخاري ومسلم من رواية أنس .

                                      وأما قول أبي هريرة فرواه البيهقي موقوفا على أبي هريرة كما ذكره المصنف قال : وروي مرفوعا ، قال البخاري : لا يصح رفعه .

                                      ( أما الأحكام ) ففيها مسائل : ( إحداها ) البدنة أفضل من البقرة والبقرة أفضل من الشاة والضأن أفضل من المعز ، وجذعة الضأن أفضل من ثنية المعز ، لما ذكره المصنف ، وهذا كله متفق عليه عندنا .

                                      ( الثانية ) التضحية بشاة أفضل من المشاركة بسبع بدنة أو بسبع بقرة بالاتفاق لما ذكره المصنف ، وسبع من الغنم أفضل من بدنة أو بقرة على أصح الوجهين لكثرة إراقة الدم ( والثاني ) أن البدنة أو البقرة أفضل لكثرة اللحم .

                                      ( الثالثة ) يستحب التضحية بالأسمن الأكمل ، قال البغوي وغيره : [ ص: 369 ] حتى إن التضحية بشاة سمينة أفضل من شاتين دونها ، قالوا : وقد قال الشافعي - رحمه الله - : استكثار القيمة في الأضحية أفضل من استكثار العدد ، وفي العتق عكسه فإذا كان معه ألف وأراد العتق بها فعبدان خسيسان أفضل من عبد نفيس ، لأن المقصود هنا اللحم ، والسمين أكثر وأطيب ، والمقصود في العتق التخليص من الرق ، وتخليص عدد أولى من واحد . قال أصحابنا : كثرة اللحم أفضل من كثرة الشحم إلا أن يكون لحما رديئا . وأجمع العلماء على استحباب السمين في الأضحية ، واختلفوا في استحباب تسمينها فمذهبنا ومذهب الجمهور استحبابه . وقال بعض المالكية : يكره لئلا يتشبه باليهود وهذا قول باطل . وقد ثبت في صحيح البخاري عن أبي أمامة الصحابي رضي الله عنه قال " كنا نسمن الأضحية ، وكان المسلمون يسمنون " .

                                      ( الرابعة ) أفضلها البيضاء ثم الصفراء ثم الغبراء ، وهي التي لا يصفو بياضها ثم البلقاء ، وهي التي بعضها أبيض وبعضها أسود ، ثم السوداء .

                                      ( فرع ) يصح التضحية بالذكر وبالأنثى بالإجماع ، وفي الأفضل منهما خلاف ( الصحيح ) الذي نص عليه الشافعي في البويطي وبه قطع كثيرون أن الذكر أفضل من الأنثى ، وللشافعي نص آخر أن الأنثى أفضل ، فمن الأصحاب من قال : ليس مراده تفضيل الأنثى في التضحية ، وإنما أراد تفضيلها في جزاء الصيد إذا أراد تقويمها لإخراج الطعام ، قال الأنثى أكثر . ومنهم من قال : المراد الأنثى التي لم تلد أفضل من الذكر الذي كثر نزوانه - بفتح النون الأولى وإسكان الزاي وفتح الواو وضم النون الثانية - فإن كان هناك ذكر لم ينز وأنثى لم تلد فهو أفضل منها ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) تجزئ الشاة عن واحد ولا تجزئ عن أكثر من واحد ، لكن إذا ضحى بها واحد من أهل البيت تأدى الشعار في حق جميعهم ، [ ص: 370 ] وتكون التضحية في حقهم سنة كفاية ، وقد سبقت المسألة في أول الباب وتجزئ البدنة عن سبعة وكذا البقرة ، سواء كانوا أهل بيت أو بيوت ، وسواء كانوا متقربين بقربة متفقة أو مختلفة ، واجبة أو مستحبة ، أم كان بعضهم يريد اللحم ، ويجوز أن يقصد بعضهم التضحية وبعضهم الهدي ، ويجوز أن ينحر الواحد بدنة أو بقرة عن سبع شياه لزمته بأسباب مختلفة ، كتمتع وقران وفوات ومباشرة ومحظورات في الإحرام ونذر التصدق بشاة مذبوحة ، والتضحية بشاة . وأما جزاء الصيد فتراعى فيه المماثلة ومشابهة الصورة ، فلا تجزئ البدنة عن سبع من الظباء . ولو وجب شاتان على رجلين في قتل صيدين لم يجز أن يذبحا عنهما بدنة ، ويجوز أن يذبح الواحد بدنة أو بقرة ليكون سبعها عن شاة لزمته ، ويأكل الباقي كما يجوز مشاركة ستة . ولو جعل جميع البدنة أو البقرة مكان الشاة فهل يكون الجميع واجبا حتى لا يجوز أكل شيء منه ؟ أم الواجب السبع فقط حتى يجوز الأكل من الباقي ؟ فيه وجهان مشهوران ونظيره الخلاف في مسح كل الرأس وتطويل القيام والركوع والسجود ، وإخراج بعير عن خمسة أبعرة في الزكاة ، وقد سبق بيان هذه المسائل في باب صفة الوضوء وفي الصلاة والزكاة . قال البندنيجي : إذا قلنا الواجب السبع جاز أكل جميع الباقي . هذا كلامه . وكان يحتمل أن يجب التصدق بجزء من الباقي إذا قلنا بالمذهب إنه يجب التصدق بجزء من أضحية التطوع ، والله أعلم .

                                      ولو اشترك رجلان في شاتين للتضحية لم يجزئهما في أصح الوجهين ، ولا يجزئ بعض شاة بلا خلاف بكل حال ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء . مذهبنا أن أفضل التضحية بالبدنة ثم البقرة ثم الضأن ثم المعز ، وبه [ ص: 371 ] قال أبو حنيفة وأحمد وداود . وقال مالك : أفضلها الغنم ثم البقر ثم الإبل ، قال والضأن أفضل من المعز ، وإناثها أفضل من فحول المعز ، وفحول الضأن خير من إناث المعز وإناث المعز خير من الإبل والبقر . واحتج بحديث أنس السابق أن النبي صلى الله عليه وسلم " ضحى بكبشين " وهو صحيح سبق بيانه ، قالوا : وهو لا يدع الأفضل ، وقال بعض أصحاب مالك : الإبل أفضل من البقر . واحتج أصحابنا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن } " رواه البخاري ومسلم ، وفيه دلالة لنا على مالك فيما خالف فيه . ولأن مالكا وافقنا في الهدي أن البدنة فيه أفضل من البقرة ، فقس عليه .

                                      ( والجواب ) عن حديث أنس أنه لبيان الجواز أو لأنه لم يتيسر حينئذ بدنة ولا بقرة . والله أعلم .

                                      ( فرع ) يجوز أن يشترك سبعة في بدنة أو بقرة للتضحية ، سواء كانوا كلهم أهل بيت واحد أو متفرقين ، أو بعضهم يريد اللحم فيجزئ عن المتقرب ، وسواء أكان أضحية منذورة أم تطوعا ، هذا مذهبنا وبه قال أحمد وداود وجماهير العلماء ، إلا أن داود جوزه في التطوع دون الواجب . وبه قال بعض أصحاب مالك . وقال أبو حنيفة : إن كانوا كلهم متفرقين جاز ، وقال مالك : لا يجوز الاشتراك مطلقا كما لا يجوز في الشاة الواحدة . واحتج أصحابنا بحديث جابر قال { نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة } رواه مسلم . وعنه قال { خرجنا مع رسول الله [ ص: 372 ] صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج ، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة } رواه مسلم . قال البيهقي : وروينا عن علي وحذيفة وأبي مسعود الأنصاري وعائشة رضي الله عنهما أنهم قالوا " البقرة عن سبعة " وأما قياسه على الشاة فعجب ، لأن الشاة إنما تجزئ عن واحد ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية