الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 42 ] فصل : ويتفرع من اللبن قسمان ; ما ليس فيه غيره كالزبد ، والسمن ، والمخيض ، واللبأ . وما فيه غيره . وكلاهما لا يجوز بيعه باللبن ; لأنه مستخرج من اللبن ، فلم يجز بيعه بأصله الذي فيه منه ، كالحيوان باللحم ، والسمسم بالشيرج . وهذا مذهب الشافعي .

                                                                                                                                            وعن أحمد ، أنه يجوز بيع اللبن بالزبد ، إذا كان الزبد المنفرد أكثر من الزبد الذي في اللبن . وهذا يقتضي جواز بيعه به متفاضلا ، ومنع جوازه متماثلا . قال القاضي : وهذه الرواية لا تخرج على المذهب ; لأن الشيئين إذا دخلهما الربا ، لم يجز بيع أحدهما بالآخر ، ومعه من غير جنسه ، كمد عجوة ودرهم بمدين . والصحيح أن هذه الرواية دالة على جواز البيع في مسألة مد عجوة ، وكونها مخالفة لروايات أخر لا يمنع كونها رواية ، كسائر الروايات المخالفة لغيرها ، لكنها مخالفة لظاهر المذهب . والحكم في السمن كالحكم في الزبد .

                                                                                                                                            وأما اللبن بالمخيض الذي فيه زبده ، فلا يجوز . نص عليه أحمد ، فقال : اللبن بالمخيض لا خير فيه . ويتخرج الجواز كالتي قبلها ، وأما اللبن باللبأ فإن كان قبل أن تمسه النار ، جاز متماثلا ; لأنه لبن بلبن .

                                                                                                                                            وإن مسته النار لم يجز . وذكر القاضي وجها ، أنه يجوز ، وليس بصحيح ; لأن النار عقدت أجزاء أحدهما ، وذهبت ببعض رطوبته ، فلم يجز بيعه بما لم تمسه النار ، كالخبز بالعجين ، والمقلية بالنيئة .

                                                                                                                                            وهذا مذهب الشافعي . وأما بيع النوع من فروع اللبن بنوعه ، فما فيه خلط من غير اللبن ، كالكشك والكامخ ، ونحوهما ، لا يجوز بيعه بنوعه ولا بغيره ; لأنه مختلط بغيره ، فهو كمسألة مد عجوة ، وما ليس فيه غيره ، أو فيه غيره ، إلا أن ذلك الغير لمصلحته ، فيجوز بيع كل نوع منه بعضه ببعض إذا تساويا في النشافة والرطوبة ، فيبيع المخيض بالمخيض ، واللبأ باللبأ ، والجبن بالجبن ، والمصل بالمصل ، والأقط بالأقط ، والزبد بالزبد ، والسمن بالسمن ، متساويا .

                                                                                                                                            ويعتبر التساوي بين الأقط بالأقط بالكيل ; لأنه قدر بالصاع في صدقة الفطر ، وهو يشبه المكيلات ، وكذلك المصل والمخيض . ويباع الخبز بالخبز بالوزن ; لأنه موزون ولا يمكن كيله ، فأشبه الخبز . وكذلك الزبد والسمن . ويتخرج أن يباع السمن بالكيل . ولا يباع ناشف من ذلك برطب ، كما لا يباع الرطب بالتمر ويحتمل كلام الخرقي أن لا يباع رطب من ذلك برطب كاللحم .

                                                                                                                                            وأما بيع ما نزع من اللبن بنوع آخر ، كالزبد ، والسمن ، والمخيض ، فظاهر المذهب ، أنه يجوز بيع الزبد والسمن بالمخيض ، متماثلا ومتفاضلا ; لأنهما جنسان ، وذلك ; لأنهما شيئان من أصل واحد ، أشبها اللحم بالشحم . وممن أجاز بيع الزبد بالمخيض الثوري ، والشافعي ، وإسحاق . ولأن اللبن الذي في الزبد غير مقصود ، وهو يسير ، فأشبه الملح في الشيرج . وبيع السمن بالمخيض أولى بالجواز ; لخلو السمن من المخيض .

                                                                                                                                            ولا يجوز بيع الزبد بالسمن ; لأن في الزبد لبنا يسيرا ، ولا شيء في السمن ، فيختل التماثل ، ولأنه مستخرج من الزبد ، فلم يجز بيعه به ، كالزيتون بالزيت . وهذا مذهب الشافعي .

                                                                                                                                            وقال القاضي : عندي يجوز ; لأن اللبن في الزبد غير مقصود ، فوجوده كعدمه ، ولذلك جاز بيعه بالمخيض وبزبد مثله . وهذا لا يصح ; لأن التماثل واجب بينهما ، وانفراد أحدهما بوجود اللبن فيه ، يخل بالتماثل ، فلم يجز بيعه به ، كتمر منزوع النوى بتمر فيه نواه ، ولأن أحدهما ينفرد برطوبة لا توجد في الآخر ، فأشبه الرطب بالتمر ، والعنب بالزبيب ، وكل رطب بيابس من جنسه . ولا يجوز بيع [ ص: 43 ] شيء من الزبد والسمن والمخيض بشيء من أنواع اللبن ، كالجبن واللبأ ونحوهما ; لأن هذه الأنواع لم ينتزع منها شيء ، فيكون حكمها حكم اللبن الذي فيه زبده ، فلم يجز بيعها ، كبيع اللبن بها .

                                                                                                                                            وأما بيع الجبن بالأقط ، فلا يجوز مع رطوبتهما ، أو رطوبة أحدهما ، كما لا يجوز بيع الرطب بالتمر . وإن كانا يابسين احتمل أن لا يجوز أيضا ; لأن الجبن موزون والأقط مكيل ، فلم يجز بيع أحدهما بالآخر ، كالخبز بالدقيق ، ويحتمل الجواز ، إذا تماثلا ، كبيع الخبز بالخبز .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية